الفصل 39
لم يُفصح أحمد عن كذبها المكشوف. اكتفى بمناداتها من طرف طاولة الطعام بصوت هادئ لكنه جاف:
“تعالي وتناولي الطعام… ولا تنسي أن تغسلي يديكِ أولًا.”
سقط عليه شعاع دافئ من ضوء الثريا المعلقة فوق رأسه، فلامس ملامحه بعناية، كما لو أنه يحاول أن يستخرج من داخله دفئًا قديمًا تلاشى مع الوقت.
كان بلا بدلته المعتادة، وبدون ربطة العنق التي طالما خنقت عنقه وابتساماته. سترة الكشمير الصوفية التي ارتداها، بلونها الرمادي الهادئ، أضفت عليه لمحة من الراحة، جعلت وجهه الوسيم يبدو أقل برودة من المعتاد. كأن الزمن قد أفرغ منه حدّته.
كان يرتدي المئزر الذي اشترته له نوران منذ ثلاث سنوات، في أحد الأعياد التي لم يحتفلا بها حقًا. بدا كما لو أن شيئًا لم يتغير… ومع ذلك، تغيّر كل شيء.
اقتربت نوران منه بخطوات مترددة، وعلى شفتيها ابتسامة صغيرة حاولت أن تزرع بها شيئًا من الحنين في تلك اللحظة. وعندما نظرت إلى الطاولة، فوجئت بأصناف الطعام التي لطالما كانت تحبها ذات يوم.
لو كان أحمد منتبهًا، ولو لاحظ ما كانت السيدة هناء تُعدّه لها في الأشهر الأخيرة، لأدرك أن ذوقها في الطعام قد تغيّر منذ زمن. لم تعد تلك التوابل تسعدها، ولم تعد معدتها قادرة على احتمال الدهون والبهارات القوية.
لكن أحمد لم يعد يلاحظ. لم يعد يراها كما اعتاد. ربما يحاولان معًا العودة إلى ما كان بينهما، إلى تلك الحياة التي انفلتت من بين أصابعهما، لكنها لم تكن سوى محاولة بائسة. الحياة التي كانت، أصبحت بعيدة جدًا، كذكرى لا يمكن لمسها.
انتهت أشياء كثيرة بينهما بصمتٍ قاتل، وأبرزها كان الحب. لم يكن هناك وداعٌ واضح، ولا انفجارٌ أخير… بل صمتٌ طويل، وغياب تدريجي.
أحيانًا، يكون الصمت هو أكثر الأجوبة وضوحًا.
رغم الألم الذي يعتصر معدتها منذ أيام، ورغم أن الأطعمة الحارة تؤذيها بشدة، إلا أنها تناولت الطعام بصمت، كما لو كانت تحتفل بنفسها.
منذ أكثر من عامين، كانت تتمنى وجبةً كهذه. الآن، وقد اقتربت النهاية، أصبحت كل وجبة بمثابة وداع صغير.
كانت تُنقص من عمرها وجبةً مقابل كل طبق تُنهيه.
وكأنها في سباق عكسي مع الزمن، تحاول أن تمنح جسدها المتعب لحظاتٍ من الود قبل أن يخونها تمامًا.
كان أحمد يعرفها منذ زمن طويل… يعرف ضحكتها الحقيقية من تلك المزوّرة. كان يراها تتصنّع السعادة، تُجبِر نفسها عليها، وتغلفها بابتسامةٍ مُرهَقة.
هل فقد مهاراته في الطهي؟ أم أن ذوقها الذي تغيّر أصبح عصيًا عليه؟
كسر الصمت أخيرًا بصوتٍ منخفض، كأنما يُلقي حجرًا في بحيرة راكدة:
“هل الطعام ليس على مستوى معاييرك؟”
رفعت عينيها إليه، وقالت بابتسامة هادئة ممتزجة بحزنٍ دفين:
“لا، الطعام رائع… طعمه تمامًا كما كان. فقط كنت أفكر… كم من الوقت لم نأكل فيه سويًا؟ وكم من الوقت تبقّى لنا لنفعل ذلك؟”
أحمد، ذلك الرجل الذي اعتاد أن يقول بثقة: “لدينا الأبد”، لم يقل شيئًا هذه المرة. اكتفى بالنظر نحو الثلج المتساقط خارج النافذة بصمتٍ غريب. لم يكن بحاجة إلى أن يجيب.
نوران كانت تعرف الإجابة. كانت مهيّأة لها. لكن لا شيء في هذا العالم يُعِدُّك حقًا لقول الوداع.
شهرٌ واحد… كان كل ما بقي من كرمه القديم. آخر ما يستطيع أن يقدمه لها.
قبل أن ينطق، تلوّت نوران فجأة على نفسها، وشعرت بوخزٍ حادٍّ يفتك بمعدتها.
لم تتناول طعامًا حارًا منذ فترة طويلة، وكان جسدها الهزيل عاجزًا عن مقاومة الألم.
كانت دموعها تنهمر، هذه المرة بلا صوت، فقط كأنها تعتذر لجسدها عن كل ما قاستْه.
همست وهي تنهض:
“انتهيت. أرجوك، تابع وحدك.”
وغادرت مسرعة، تخفي خلف خطواتها انكسارًا لم يعد بوسعها احتماله.
انحنت فوق المرحاض، وتقيأت بشدة. بين سائل المعدة وقطع الطعام، رأت شيئًا يشبه الدم.
عندها فقط، علمت أن النهاية ليست بعيدة كما كانت تأمل.
كانت كل لحظة تمضي، أقرب إلى اختفاء جسدها من على هذه الأرض.
بعد أن غسلت وجهها، استحمت بهدوء، متجنبة لمس الجرح المؤلم في ذراعها. لاحظت مزيدًا من خصلات الشعر في البالوعة، تذكير قاسٍ بأن المرض لا يرحم.
ربما لو توقفت عن العلاج، لتوقّف هذا التساقط، لكنها لم تعد واثقة من أهمية المظهر. رغم ذلك، حين نظرت إلى انعكاسها في المرآة، رأت شيئًا جميلاً.
وجهها الشاحب بدا مرهقًا، لكن عينيها ما زالتا تملكان ذلك البريق الحيّ. في داخلها، أرادت أن ترحل وهي جميلة. على الأقل، لتترك صورةً لائقة عنها في الذاكرة.
طرقت باب المكتب. أحمد كان يجلس خلف مكتبه، يرتدي نظارته ذات الإطار الذهبي، ويبدو منشغلًا بأوراق نهاية العام.
رفعت بصرها إليه. كان الرجل الذي أحبّته طويلًا… قد تغيّر.
قالت دون تردد:
“أريد رؤية الشفق القطبي. أنت مدين لي بشهر عسل في أيسلندا.”
لم يلتفت فورًا. ربما تذكّر أنهما لم يحتفلا بزواجهما يومًا. لم يُعقد لهما حفل، ولم تُلتقط لهما صورة واحدة في زفاف، ولم يكن أحد يعلم أنه متزوج.
كان يطلب حذف كل صورة تُلتقط لهما معًا.
وحدها أوراق الزواج كانت حقيقية، أما كل ما حلمت به كفتاة: فستان أبيض، عرس، شهر عسل… فقد بقي حبرًا على قلبها.
ربما كان يُدلّلها أحيانًا بعد الزواج كنوعٍ من التعويض. لكنها كانت تذكر ذلك كقُبلة على جرح، لا أكثر.
أغلق أحمد الدفتر، وضبط نظارته، وقال بصوت منخفض كأنما يتحاشى الألم:
“تعلمين أنني مشغول في نهاية العام… والشفق القطبي غير مضمون توقيته.”
كان يحاول أن يعتذر دون أن يقول “لا أستطيع”. كان يحاول أن يُخفي ضيق اليد، أو ضيق القلب.
لكن نوران… كانت تعرف جيدًا متى يحاول أن يهرب. وكانت هذه المرة، لا تريد أن تطارده.
رواية حتى بعد الموت الفصل 39 سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك
