الفصل 43
كان أحمد صامتًا، يسكنه وجومٌ ثقيل كغيمة ممتلئة بالدموع. بدا الحزن متغلغلًا في ملامحه لدرجة جعلت قلب نوران ينعصر ألمًا، وكأن أشواكًا تنمو بداخله، تخترقه كلما نظرت إليه.
قال بصوت منخفض يشوبه التوتر:
“أتمنى من كل قلبي ألا يكون الأمر له علاقة بكِ. لكنكِ كنتِ هناك لثلاث ساعات، نوران. أخبريني بصراحة، ماذا كنتِ تفعلين في المقبرة طوال ذلك الوقت؟”
شعرت نوران بالإهانة، كأن في سؤاله تشكيكًا في إنسانيتها. اعتبرت اضطرارها لتبرير نفسها أمرًا عبثيًا، فقالت بحدة مكسوة بالألم:
“أخبرتك أنني ذهبت لزيارة قبر جدتي. ماذا تتوقع مني؟ أن أضحك وأتسوق بينما لا أجد من أصارحه بأحزاني سوى جدتي المتوفاة؟ إنها اللحظة الوحيدة التي أكون فيها صادقة بالكامل، ولو مع شاهد قبر!”
صمتت لحظة، ثم تابعت بنبرة متحدية:
“وحتى إن شككتَ بي، فلتأتِ بدليل ملموس. ما هذا الجنون؟ إنه مجرد قبر، لا كرواسون يمكنني التهامه! سيتحطم ذراعي إن حاولتُ تحطيمه. إن كنتَ مصرًا على اتهامي، فأرني ما يثبت ذلك.”
سحب أحمد هاتفه ببطء، وعيناه لا تفارقان وجهها، ثم قال بهدوء يحمل غضبًا مكتومًا:
“انظري إلى هذا إذن… ما تفسيرك لهذه الصور؟”
ظهرت على الشاشة صورٌ جديدة، أوضح هذه المرة، تُظهر نوران وهي تمسك بمطرقة. حتى هي شعرت بالذهول، كما لو رأت شبحًا يحمل وجهها.
وفي لحظة ماضية، كان هناك رجل مسن، مسؤول عن صيانة القبور، سقطت منه أدواته حين رأى نوران، فبادرت بمساعدته لالتقاطها. لم تتوقع أن تُلتقط لها صور في هذه اللحظة المربكة، تُحرف نواياها وتُفسَّر بأسوأ شكل ممكن.
قالت بقلق واضح، تكاد كلماتها تتعثر من ارتجاف صوتها:
“لم أكن أفعل شيئًا خاطئًا. تحدثتُ لبضع دقائق فقط عند قبر ليا. حين غادرت، كان الشاهد سليمًا، لم يُمسّ. صدقني يا أحمد، ما الذي سأجنيه من هذا؟ لماذا أعبث بقبر فتاة ماتت منذ عامين؟”
نظر إليها أحمد طويلًا، وقد ازدادت شكوكه عمقًا، فرفع ذقنها برفق، وضغط بإصبعه على شفتيها قائلاً:
“فم جميل… لكنه مليء بالأكاذيب. هشام اعترف. أخبرني أنكِ سألته عن مكان قبر ليا، وأنكِ ذهبتِ تبحثين عن محقق خاص.”
ارتبكت نوران، وتراجعت خطوة إلى الوراء، لكنها لم تستطع إنكار الأمر. فتحت فمها ببطء، ثم قالت بانكسار:
“نعم… استعنت بمحقق خاص. لكنني لم أفعل ذلك بدافع الانتقام. أردت أن أفهم فقط، أن أعرف كيف أصبحتَ هكذا. عندما عرفت أن جودي وليا هما الشخص نفسه، لم أفعل شيئًا سوى وضع الزهور على قبرها.”
ثم أكملت بانفعال:
“بعدها زرتُ قبر جدتي. أحمد، أنا مريضة. لا أملك حتى القوة لصعود السلالم هنا. هل تظن أنني أملك طاقة تدمير شاهد قبر؟”
رمقها بنظرة حادة، وقال بمرارة:
“تريدينني أن أصدق هذا؟ ليا كانت جودي حتى يوم موتها، ولم يكن لها أعداء سوى عائلتك. من غيرك سيحمل حقدًا كافيًا ليُهينها حتى بعد وفاتها؟”
ردت نوران بضعف:
“ولماذا أفعل ذلك؟ ماذا سأستفيد؟”
أجاب بنبرة ساخرة:
“ألم تعيشي على كراهيتي لعامين؟ تُحمّلينني ذنب فقدان الطفل، وإفلاس عائلة الهاشمي. أنتِ غارقة بالكراهية. وعندما اكتشفتِ من تكون ليا، انفجرتِ. ليس من الغريب أن تكوني أنتِ من فعلها.”
ارتجف صوتها وهي تهمس:
“لم أكن أنا… أقسم لك…”
اقترب منها خطوة بخطوة، وصوته يقطر اتهامًا:
“طلبتِ الطلاق، ثم تراجعتِ فجأة وطلبتِ شهرًا إضافيًا. ماذا تنوين؟ هل تنتقمين لجاد؟”
انسابت دموع نوران على خديها دون مقاومة. كانت محاصَرة، عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وكل تبريراتها تتهاوى كقصاصات ورقية في مهب ريح عنيفة. قالت بصوت مخنوق:
“لا… لم أفكر في ذلك أبدًا…”
لم يُعر كلماتها أي اهتمام. قبض على ذقنها مجددًا، لكن هذه المرة بقسوة، وعيناه غارقتان بخيبة أمل لا توصف.
“نوران، كنت أتمنى من كل قلبي ألا تكوني أنتِ. أقسم أنني توسلتُ لإيجاد أي خيط يُبرئك. لكن الأدلة لا ترحم. زرتِ مستشفى الأمراض النفسية اليوم، وماتت بيل بعدها. ما الذي دار بينكما؟ هل تظنين أن الانتقام سيعيد جاد؟”
كانت الاتهامات تتساقط فوقها كالحجارة، تُحطم ما تبقى من صبرها. لم تجد نوران ما ترد به. كل شيء ينهار حولها.
كانت ليا تمثل نقطة ضعفٍ قاتلة في حياة أحمد، وتدنيس قبرها جريمة لا تُغتفر في نظره. إنه تشويه لاسم عائلة القيسي، وإهانة للراحلة التي ما زالت تحيا في ذاكرته كأنها لم ترحل.
ومن يستطيع احتمال ذلك؟
وببطء، أغلق أحمد يده حول رقبتها، وكأن الغضب قد استبدّ به تمامًا، لا يرى أمامه إلا خيانة مزعومة، وغصة حب تحول إلى رماد.