رواية حتى بعد الموت الفصل 46

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 46

همست ليان بصوت مرتجف، مكسوٍّ بمزيج من الذهول والمرارة:
“يا لغبائي… يا لسطحيتي. تخيلي، أذناي بدتا وكأنهما تخوناني، لا تتوقفان عن بثّ الذعر في هذا العمر. هاها، أمر مضحك، أليس كذلك؟ في الحقيقة، سمعتك بوضوح… سمعكِ تقولين إنكِ مصابة بسرطان المعدة. والآن… لا أعرف ما الذي يحترق بداخلي أكثر، غضبي على أحمد، أم الرعب من فقدكِ. يبدو أن كل ذلك الغضب قد انعكس حتى على سيارتي المسكينة!”
نظرت نوران إلى صديقتها نظرة دافئة، ثم مدت يدها ببطء، ووضعت كفّها فوق يد ليان المرتجفة، وضغطت برفق كأنها تخبرها عبر اللمس بكل ما لا يُقال بالكلمات. قالت بصوت خافت لكنه حازم:
“ليان… حبيبتي، حان الوقت لمواجهة الحقيقة. لا مجال للهرب منها أكثر.”
توقفت ليان عن الحركة، توقفت عن التنفس للحظة، وكأن الزمان تجمد. رفعت رأسها ببطء ونظرت إلى نوران بعينين واسعتين، مغرورقتين بالدموع. قالت بنبرة مخنوقة:
“أنتِ تمزحين… صحيح؟ قولي لي إن هذه مزحة سخيفة من مزاحك الثقيل المعتاد… لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا.”
لكن ملامح نوران كانت ساكنة… هادئة بشكل مخيف، وكأنها اعتادت هذا الخبر أكثر من اللازم. أجابت بثقة حزينة:
“تعرفينني، لم أكن يومًا ممن يمزحون بشأن الحياة… أو الموت. تذكرين يوم قصصت شعري فجأة، وقلت إنني بحاجة للتغيير؟ كنت قد خرجت للتو من أول جلسة علاج كيميائي. كنتُ أتحطم من الداخل، ولم أكن مستعدة لتحمّل نظرات الشفقة.”
عجزت ليان عن الكلام. انفلتت منها شهقة، حاولت قمعها، لكنها خرجت بصوت مرتفع. أمسكت بيد نوران بقوة، وكأنها تتمسك بها من الغرق، من الانهيار، من الفقد.
“لا… لا، لا! لا بد أنهم أخطأوا. أنتِ ما زلتِ صغيرة، مفعمة بالحياة، أقوى من الجميع. كيف يمكن لمرض كهذا أن يتسلل إلى جسدكِ؟ هذا غير ممكن! أرفض تصديق ذلك!”
تنهدت نوران بعمق، نظرت إلى السقف لثانية، كأنها تبحث فيه عن إجابة لا تأتي، ثم عادت بعينيها إلى وجه صديقتها، وقالت:
“أنا مررت بكل المراحل: الصدمة، الإنكار، الغضب، حتى التفاوض مع القدر. ثم قبلت. لم يكن لدي خيار. جسدي ينهار، ليان. أشعر وكأن شيئًا يمتصّ روحي، كلما دخلت جلسة علاج. لا طاقة، لا راحة، لا شهية. أستفرغ حتى الماء، وأبكي بصمت في الحمام. ولا أحد يعلم.”
تدفقت دموع ليان دون إذن، دون وعي. لم تعد تحاول أن تبدو قوية. كل شيء بداخلها انهار دفعة واحدة. أمسكت وجهها بكلتا يديها وهي تبكي وتهمس:
“أنا آسفة… آسفة جدًا. لم أعلم أنكِ تعيشين هذا الجحيم وحدكِ. كنت أظن أنكِ فقط تتهربين من الناس، تتأملين، تكتبين! لم أتخيل أن يكون في داخلك هذا العذاب.”
مسحت دموعها بظهر يدها المرتجفة، ثم نظرت إليها بعزم مفاجئ:
“من الآن، لن تكوني وحدك. سأرافقكِ في كل جلسة. وضعي المادي جيد، أستطيع أن أتوقف عن العمل لعام كامل. سأبقى إلى جانبكِ حتى آخر نفس.”
ابتسمت نوران، لكنها لم ترد. نظرت من النافذة بصمت، كأنها ترى ما وراء السماء، ثم همست:
“ليان… دعينا نسافر يومًا ما لرؤية الشفق القطبي معًا. وعد؟”
أومأت ليان وهي تبتسم من خلال دموعها:
“وعد. وسأحجز تذكرة حتى لو منعتنا الثلوج. وسأشتري لكِ أدفأ معطف، وأحمل ترمس شاي في حقيبتي. بل وسأقطف لكِ نجوم السماء إن طلبتِ.”
ضحكت نوران بخفة ممزوجة بالوجع:
“قال أحدهم ذات مرة إنه سيقطف النجوم لأجلي… ثم تركني وحدي أواجه الليل.”
زفرت ليان وقالت بضيق:
“آه، يا للرومانسية الساذجة. لا أصدق أنكِ ما زلتِ تفكرين فيه. لقد انتهى. لم يعد يريدكِ، ولا يستحق أن يُفكر به بعد الآن. تحسني، واخرجي معه في موعد فقط لتذليّه، ثم اتركيه كما ترككِ.”
أجابت نوران، وعيناها تلمعان بالحزن:
“لا يمكنكِ لومه، ليان. هو أيضًا… مريض بطريقته.”
شهقت ليان مجددًا، وسألت بسخرية:
“أهو مصاب بالسرطان أيضًا؟ يا رب، أتمنى أن يكون في مرحلته الأخيرة… لعلّه يورّثك شيئًا.”
ضحكت نوران وسط دموعها، تلك الضحكة التي لا تعلم إن كانت تعبيرًا عن السخرية أو الاستسلام. ثم قالت بهدوء:
“تعالي، دعيني أخبرك بكل شيء.”
تمددتا على السرير، والغرفة غارقة في السكون. بدأت نوران تسرد قصتها من البداية، كل الأحداث، الأسرار، التفاصيل، الانهيارات الصغيرة التي لم ترها أحد.
كان صوتها كالماء الجاري، صافٍ، صادق، يشق طريقه في صخر الوجع.
بعد أن انتهت، صمتت ليان طويلًا، تنظر للسقف، كأن عقلها يحاول استيعاب ما سمعه للتو.
قالت أخيرًا:
“إذن… هو يحمّلكِ ذنب موت أخته؟ وقرّر أن يقرّبكِ فقط لينتقم؟ أهذا ما كان؟ هذا ليس إنسانًا، هذا… قصة درامية رخيصة من رواية فاشلة.”
ردّت نوران بنبرة خافتة:
“هو مجروح. أتفهم ألمه. لو كنت مكانه وخسرت أختي… ربما كنت سأفعل أكثر من ذلك. نحن نحكم سريعًا، لكننا لا نعرف كم يعاني.”
هزّت ليان رأسها بيأس:
“كفى، نوران! لا يمكنكِ تبرير كل شيء بأنه يعاني. الكثير يعانون، لكن لا يتحولون إلى سُمّ زاحف. كوني قاسية مرة واحدة! اطلبي الطلاق، وخذي حقوقكِ، وابدئي من جديد!”
ضحكت نوران بمرارة، ثم سألت:
“ليان، هل تجاوزتِ جوش بعد؟”
تجمدت ليان. الصمت كان كفيلاً بالإجابة. قالت بعد لحظة:
“أحتاج الوقت. الوقت هو الطبيب الوحيد، أليس كذلك؟ ربما يشفينا من كل شيء… حتى من الحب.”
أجابت نوران وهي تحدق في سقف الغرفة:
“لكنني لا أملك الوقت، ليان… لم يعد لدي وقت على الإطلاق.”
قفزت ليان من السرير وهي تقول:
“لا تقولي ذلك. لا تستسلمي.”
لكن نوران تمتمت بصوت خافت، كأنها تحادث نفسها:
“هل تعرفين شعور العلاج الكيميائي؟ كأن أحدهم يمتصّ الحياة مني، قطرة قطرة. جسدي منهك، كل جزء يؤلمني، لا أملك طاقة حتى للتنفس. هذه المرحلة الأولى فقط. لاحقًا، سيدخلون المواد إلى نخاعي. قالوا إنها مؤلمة… جدًا.”
أخفضت نظرها، وأكملت:
“والدي في غيبوبة منذ أشهر. أمي تزوجت ونسيت وجودي. والرجل الوحيد الذي أحببته، وجد راحته بعيدًا عني.”
سادت الغرفة لحظة صمت طويلة، كأن الحزن نفسه لا يملك ما يقوله.

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 47

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top