رواية حتى بعد الموت الفصل 59

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

 الفصل 59

حدّقت مرام في أحمد طَوال المواجهة التي جرت أمام أعين الجميع، وقد شعرت بشيءٍ أشبه بالصفعة الباردة وهي ترى ذلك التوتر الذي ارتسم على ملامحه. لم يكن أحمد يريد أن يكشف طبيعة علاقته السابقة بنوران، لا سيما بعد الطلاق. كان يحاول أن يُبقي كل ما مضى مدفونًا خلف ابتسامته الباردة وكبريائه الحديدي. ومع ذلك، لم تستطع مرام أن تُنكر ما رأته في عينيه: انزعاج واضح، وربما… غيرة صامتة.

بدأت تشعر أن وجود نوران ما زال له تأثير على قلب أحمد، وأنها لم تُمحَ من حياته كما توهّمت. كان ذلك الإدراك كفيلاً بأن يشعل نارًا من الغضب في قلب مرام، نارًا لا تخبو.

تحولت نظراتها إلى نوران، محمّلة بالكراهية والتساؤل: كيف لتلك المرأة، التي انتهت علاقتها بأحمد رسميًا، أن تبقى حاضرة بهذا الشكل الطاغي؟ كيف استطاعت أن تترك كل هذا الأثر حتى بعد أن أصبحت من الماضي؟

في تلك الأثناء، كان كريم يقف كمن حُشر بين ناريْن. التوتر خيّم على أجواء القاعة بالكامل، وصار الصمت كثيفًا كالدخان، يخنق أنفاس الحاضرين ويمنعهم من التحرك أو النطق. لا أحد تجرأ على خرق ذلك الجمود، خشية أن يُغضب أحمد، الذي بات حضوره أشبه بعاصفة هادئة على وشك الانفجار.

كان كريم يدرك تمامًا ما يحاول أحمد فعله: إجباره على التراجع، على التخلي عن نوران والانسحاب من حياتها. لكن ما لم يعرفه أحمد هو أن كريم قد وقع بالفعل في حبها منذ زمنٍ بعيد، حبٌّ لم يكن وليد اللحظة، بل كان دفينًا، مؤجلًا، كُتب عليه أن ينضج في الوقت الخطأ.

لطالما رأى فيها شيئًا مختلفًا، منذ أن كانا في سنوات الجامعة الأولى. آنذاك، كانت نوران فتاةً مشرقة، ذكية، تتمتع بروح عفوية آسرة. لكنه كان غارقًا في دراسته، مشغولًا بالسفر والطموحات الكبرى، فلم يمنح نفسه فرصة الاقتراب منها.

ثم اختفت فجأة، وعندما عاد، سمع أنها تخلّت عن تعليمها وتزوجت. أصابه الخبر بالخذلان، ولم يكن يعلم آنذاك ما الذي مرّت به حتى وصلت إلى هذه المرحلة. عندما رآها مجددًا، بدت له كزهرةٍ ذبلت من فرط الجفاف، جميلة لكنها هشة، مكسورة رغم صلابتها الظاهرة.

ومنذ ذلك اليوم، انتظر بصبر أن تنتهي علاقتها بأحمد، وإن لم يعترف بذلك حتى لنفسه.

واليوم، ها هو يقف، متحديًا كل شيء، مُتمسكًا بها حتى لو كانت العواقب وخيمة.

أدار كريم وجهه نحو أحمد، وقال بنبرةٍ هادئة ولكنها حادة:
“ما يحدث الآن لا يعنيك. أنت تعلم جيدًا أن خطيبتك تجلس إلى جانبك. من الأفضل أن تركّز عليها. أما نوران، فأمرها يخصني من الآن فصاعدًا. ومهما قررت، فسأكون الشخص الذي يحميها، ولن أسمح بتكرار أخطاء الماضي معها.”

ثم، وبحركةٍ هادئة لكنها قوية، أفرغ ما تبقّى من كأسها في وعائه، ووضع الكأس على الطاولة بقوة تعمّدها. أمسك يد نوران برفقٍ وقال بصوتٍ منخفض لم يسمعه إلا القريبون:
“لقد تأخر الوقت، وسأُعيد الآنسة نوران إلى منزلها. أعتذر، لكنني لن أسمح بأن تُناقَش حياتها الخاصة على الملأ.”

كادت ليان أن تُصفق من فرط الإعجاب بجرأته، لكن نوران لم تشاركها الحماسة. كانت نظراتها مزيجًا من القلق والدهشة. لقد شعرت بالخوف الحقيقي، ليس على نفسها، بل على كريم.

هي تعرف أحمد. تعرف جانبه المظلم الذي لا يراه أحد. أحمد لا يُظهر غضبه بالكلام، بل بالفعل. وإذا قرر أن ينتقم، فلن يكتفي بإهانة أو تحذير. سيُدمّر. ببساطة.

نظرت إليه بقلقٍ عميق، وهمست:
“كريم… ما كان يجب عليك أن تُعارضه أمام الجميع. أنت لا تعرف ما يستطيع فعله. هل نسيت الحادث الذي كدتَ تموت فيه؟ أنت تعلم أنه لا ينسى… ولا يسامح.”

لكنه لم يبدُ عليه أي تردد. أمسك بيدها الأخرى، وحدّق في عينيها بثباتٍ ودفء. “نوران، أنا لست متهورًا. أنا رجلٌ راشد، مدرك تمامًا لما أفعله. أحمد قد يكون قويًا ومخيفًا، لكنه لا يملك الحق في تقرير حياتك، ولا حياتي. وإذا اختار الانتقام، فليكن، ولكنني لن أسمح له بأن يمسّ عائلتي أو يُهددك مجددًا. لقد اتخذت قراري، ولن أتراجع.”

حاولت أن ترد، أن تشرح، أن تخبره بالحقيقة التي لم تروِها لأحد.

أرادت أن تقول له إن أحمد ليس كما يظنونه، بل هو رجلٌ لا يقف عند حدٍّ إذا تعلّق الأمر بها.

تذكرت حادثةً قديمة لم تُخبر بها أحدًا من قبل.

كانت لا تزال طالبة حينها. اعترف لها شاب من الصف الأعلى بحبه في أحد الأزقة خلف المدرسة. رفضته بهدوء، لكنه لم يتقبل الأمر، وبدأ يُلاحقها ويتحرّش بها.

وفي اليوم التالي، وصلها خبرٌ مفزع: الشاب توفي بعد أن سقط من مبنى مهجور في ظروفٍ غامضة. قيل إنه كان لم يكن في وعيه. لم يُفتح تحقيق.

عائلة الشاب ألقت اللوم عليها، اقتحمت المدرسة، وصفعتها والدته أمام الجميع.

وبعد أيام قليلة فقط، اندلع حريقٌ مجهول السبب في منزل العائلة. لم ينجُ أحد.

اعتقدت أن الأمر مجرد صدفة مأساوية… حتى رأت أحمد في حديقة منزلهم الخلفية، ينثر شيئًا أبيض اللون على التربة، وهي تراقبه من النافذة.

اقتربت خلسة. وعندما وصلت، اكتشفت الحقيقة المُرعبة. كان رمادًا.

رماد أجساد. رماد العائلة.

ولم تكن العائلة قد ماتت فقط، بل اختُفوا من الوجود. لم يتبقَّ لهم أي أثر.

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 60

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top