الفصل 66
وأخيرًا، بعد صمتٍ ثقيلٍ وحوارٍ حذر، بدا أن أحمد صدّق أقوال ليان. لم تكن من النوع الذي يجرؤ على الكذب عليه، لا تحت نظراته الثاقبة، ولا تحت وقع حضوره الكاسح.
سألها، بنبرة متزنة تخفي وراءها قلقًا دفينًا:
– “هل كانت مريضة قبل الحفل؟”
ترددت للحظة، ثم قالت بصدقٍ مشوب بالندم:
– “نعم… كنت أمرُّ بظروفٍ شخصية صعبة، انفصال عن شخصٍ لم يكن من المفترض أن أرتبط به أصلاً. لم أكن حاضرة الذهن. لم ألاحظ أعراضها في البداية، لم أقدّم لها ما يكفي من الاهتمام. لحسن الحظ… كان كريم هناك، وقد تولّى إعداد الطعام ورعايتها.”
رفع حاجبيه قليلاً.
– “من أجلها؟”
تشنّج قلبها. أرادت، للحظة، أن تُفجّره بالحقيقة كاملة: نوران كانت هشة، مرهقة، متصدّعة من الداخل. لكنها تذكّرت أن نوران لم تكن تعرف حتى ما إذا كانت لا تزال تحب هذا الرجل أو تكرهه، فكيف بها تفتح له جراحها القديمة؟
اختارت الصمت احترامًا لارتباك صديقتها.
قالت بنبرة هادئة:
– “نعم، من أجلها.”
ساد صمت قصير، قبل أن يسأل بصوت أكثر حدة:
– “ما الذي جعلها مريضة بهذا الشكل؟”
تقلّصت معدتها، وشعرت بلسعة خوف تحت جلدها. تلك النبرة لم تكن محض سؤال، بل استجواب.
أجابت بتوتر:
– “مجرد إنفلونزا، على ما أظن.”
نظر إليها، كأنّه يقرأ ما بين السطور.
– “فقط إنفلونزا؟”
ما الذي تريده أكثر؟ كانت نوران دائمًا قوية. نادرًا ما اشتكت من ألم أو مرض. لكنها تغيّرت مؤخرًا… أصبحت هشة، شاحبة.
– “هذا ما قالته لي. لم تُفصح عن شيء آخر.”
هزّ رأسه ببطء، كمن استخلص استنتاجه النهائي.
ربما كانت تلعب دور الضحية… ربما أرادت إثارة شفقته، لتتجنّب الانفصال.
أنهى الحوار من جانبه، ووقف يستعد للرحيل. ثم، كمن يرمي طُعمًا أخيرًا، قال:
– “إن كنتِ مهتمة بالفرص، يمكنك الحضور إلى برج القيسي العقارية غدًا.”
أدهشتها كلماته. اتّسعت عيناها بانفعالٍ لم تُخفه، فقد علمت على الفور أنه يقصد الفرع الرئيسي لـ “قيسي بروبرتي كورب”، الشركة العملاقة التابعة لمجموعة القيسي.
ذلك لم يكن مجرّد عرض عمل… كان ترقية اجتماعية، خطوة نحو صعودٍ كانت تظنه مستحيلًا.
تلعثمت وهي تقول:
– “لا أعرف كيف أشكرك، سيد القيسي. هذا كرم لا يُقدّر بثمن… أنت الأفضل.”
كان قد أدار ظهره بالفعل وبدأ بالابتعاد، لكن فكرةً داهمتها، جعلتها تندفع خلفه قائلة:
– “سيد القيسي! هل قابلت نوران؟ حاولت التواصل معها، لكن هاتفها مغلق.”
استدار بهدوء، نظر إليها نظرة ثابتة وقال باقتضاب:
– “ما رأيك؟”
أدركت سخافة سؤالها في التوّ. كيف له أن يكون معها، وهي تتحدث إليه الآن؟ ضحكت بخجل، حكّت رأسها وقالت:
– “آه… تجاهل سؤالي، من فضلك. كنت فقط قلقة عليها.”
لم يعلّق. فقط تابع سيره. لكن ليان، بشيء من الجرأة التي لا تعرف من أين جاءتها، نادته من جديد:
– “سيد القيسي… أرجوك. إن كنت لا تزال تحب نوران، فلا تؤذِها مجددًا. كن لطيفًا معها… فقط هذه المرّة. هي ما زالت تهتم لأمرك، رغم كل شيء.”
توقّف في مكانه، ولم يلتفت. كأنّه أصيب بشيء لم يتوقّعه.
ربما ظنت ليان أن كلماتها مرت مرور الكرام، لكنها زرعت شيئًا فيه، شئ لم تعرف بعد إن كان خيرًا أم شرًا.
رحل أحمد، بينما وقفت هي مكانها، يساورها شعور خفيف بالطمأنينة.
الحمد لله أنه ليس معها الآن. على الأرجح عادت نوران إلى المنزل مع كريم، ربما وضعت هاتفها على الوضع الصامت.
لكن ما لم تكن تعلمه هو أن نوران لم تكن على ما يرام… ولم تكن في أمان.
كانت هناك، في الطابق الثامن والثلاثين من برج شاهق، في حمام صغير، مظلم، مغلق بإحكام.
كان أحمد قد غادر بالفعل، بعد أن أطفأ الأنوار خلفه، وترك نوران خلف الباب الحديدي، مسجونة في العتمة.
في البداية، لم تشعر بالخطر. لكن مع مرور الوقت، ومع ازدياد برودة البلاط تحت جسدها، بدأت الذكريات تتدفّق عليها كالطوفان.
في الماضي، لم تكن تخاف من الظلام… إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم.
تتذكّر جيدًا تلك اللحظة التي كادت فيها أن تغرق. يومها، لم يكن الماء هو الخطر الحقيقي… بل الخذلان. رأت أحمد وهو يبتعد، يمسك بيد مرام، يتركها هناك، تنزلق نحو الهاوية.
كانت يداها تضغطان على بطنها. كانت تعرف أنها حامل. تخشى أن تموت… ومعها طفلها.
ثم استيقظت على ضوءٍ باهت في غرفة العمليات. أصوات الأجهزة. دموع على وجوه الأطباء. فقدت الطفل، وفقدت معها جزءًا من روحها.
منذ تلك اللحظة، أصبح الظلام سجنًا، والضوء الكاشف عدوًا لا يُطاق.
والآن، داخل الحمام المغلق، بدأ الماء يتسرب من أحد الأنابيب المكسورة. لم يكن كافيًا لإغراقها، لكنه كان كافيًا ليُعيد لها مشهد سقوطها في الماء.
بدأت تصرخ. صوتها يتردّد في الجدران، لكنه لا يخرج منها.
في هذا الطابق المعزول بصوتيًا، لا يسمع أحد. لا أحد.
ركعت على الأرض، تطرق الباب، تتوسّل النجدة.
– “أحد هناك؟! أرجوكم… افتحوا الباب… أحدهم؟!”
لكن لا أحد أتى.