الفصل 77
حدّق أحمد مطولًا في الورقة التي كان زياد يحملها. لم ينبس ببنت شفة، بل بدا كأن الكلمات المطبوعة على الصفحة تحاول الصراخ فيه وهو يرفض أن يسمع. شعر زياد بضغط النظرة الثقيلة، فحاول أن يتدارك الموقف بابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيه.
قال بصوت متوتر:
“النتائج جاهزة، سيد القيسي… كما قلت لك من قبل، لا داعي للقلق. كل المؤشرات مطمئنة.”
ثم مدّ الورقة إليه قائلاً:
“تفضل، ألقِ نظرة بنفسك.”
نوران عبست بقلق. شيء ما لم يكن منطقيًا. هي تعرف جسدها، وتعلم أن هناك خطبًا كبيرًا. التصوير المقطعي المحوسب قد يفوّت أعراض السرطان في مراحله الأولى، هذا صحيح… لكنها كانت في المرحلة المتأخرة، أو على الأقل هذا ما أخبرها به الألم المتكرر، والتعب الدائم، والنحول الذي أصبح جزءًا منها.
فكيف إذًا لم يُظهر الفحص أي خلل؟! حتى فحوصات الدم بدت سليمة على نحو غريب.
راقبت أحمد بعينين متسائلتين، وهي تحاول أن تستنتج ردّ فعله. ملامحه تغيّرت فجأة من الهدوء المشوب بالقلق… إلى الغضب المشتعل.
كانت تتوقع مفاجأة، أو حتى تعاطفًا… لكنها لم تكن تتوقع هذا الكم من العدائية. حدّق بها كما لو كانت مجرمة.
شعرت وكأن الأرض تنسحب من تحتها. شيء في نظراته جعلها تنكمش. لم تفهم، لم تتوقع… لم تستعد لهذا السيناريو.
قالت بصوت مرتعش:
“لذا…؟”
لكنه لم يترك لها فرصة. فجأة، وفي حركة غاضبة، رمى الأوراق في وجهها، فتطاير بعضها على السرير. صرخ، صوته اخترق الغرفة كطعنة:
“انظري إليها بنفسك!”
مدّت يدها ببطء، التقطت إحدى الأوراق المرتجفة، وحدقت فيها. النتائج كانت نظيفة. لا أورام، لا تضخم، لا سماكة في الجدار، لا التهابات واضحة. صورة جسد سليم. حتى العدّ الدموي كان طبيعيًا – رغم أن نسبة الخلايا البيضاء كانت بالأمس في الحضيض، إلا أن حقنة “نيولاستا” التي أُعطيت لها أنعشت الأرقام وأعادت التوازن مؤقتًا.
شعرت كأن أحدهم يسحب الأوكسجين من الغرفة. لم تكن الصدمة من النتائج، بل من ملامح أحمد. من طريقته وهو ينظر إليها وكأنها كاذبة، مخادعة. امرأة تلعب بالألم والمرض لتلفت النظر.
اقترب منها، انحنى حتى أصبح وجهه على مستوى وجهها، وضع ذراعيه على حواف السرير، وصوته ينزف احتقارًا:
“نوران الهاشمي، لقد استخففتُ بكِ.”
ضحك ببرود، كأن الأمر مسرحية سخيفة انتهت للتو.
“كان تمثيلكِ مثاليًا… مثاليًا جدًا. للحظة، كدت أتعاطف.”
كانت كلماته أشبه بصفعة. وبدل أن تدافع عن نفسها، شعرت بجبل من التعب ينهار فوق قلبها. لم يعد يهم إن كانت مريضة. لم يعد يهم إن كانت صادقة. الرجل الذي أحبته يومًا يظن أنها تفتعل الموت لتستدرّ شفقته.
قالت بمرارة، وعينيها تلتمعان بشيء من الانكسار:
“هل تظن أنني كنت أتظاهر؟ هل ظننت أنني تلفّقت كل هذا؟”
ابتسم بسخرية باردة، وقال:
“وماذا تتوقعين أن أظن؟ كل ما تفعلينه يبدو… محسوبًا. مرتبًا. كنتِ دائمًا تُجيدين تمثيل دور الضحية.”
كانت كلماته سكاكين، لكنها رفضت أن تُجرّ إلى معركة. لم تعد تملك رفاهية إقناعه، ولا ترجو عطفه. تنفست بعمق، نظرت في عينيه بجمود وقالت:
“صحيح. لا أستطيع التخلي عن لقبي، السيدة القيسي. لهذا السبب أتظاهر بالمرض. علاقتي بكريم كانت تمثيلية. حتى محاولة الانتحار كانت مُدبّرة.”
رفعت ذقنها بفخر مصطنع، كمن يسلّم نفسه عمداً للإعدام.
“هذا هو لوني الحقيقي. امرأة ماكرة، انتهازية، كاذبة. هل ترى الآن حقيقتي بوضوح؟”
حدق بها مشدوهًا، للحظة ظن أنها تسخر، لكنها لم تبتسم. كانت نظرتها فارغة، خالية من الرجاء.
قال أخيرًا، بصوت خافت لم يخلو من الذهول:
“لماذا… أصبحتِ هكذا؟”
تلك الجملة كانت القشة التي حطّمت جدار الصبر في قلبها. شهقت، صدرها ارتفع وهبط، قبضت على ملاءة السرير كأنها تتشبث بما تبقّى من كرامتها، ثم انفجرت:
“بفضلك!”
“كل هذا… كل هذا بسببك، يا أحمد. لأنك كسرتني، ثم اتهمتني بالكذب. لأنك كنت تحبني فقط حين كنتُ ضعيفة، وتخافني حين أصبحت قوية. لأنك خذلتني حين احتجتك، ثم عدت لتحاسبني حين حاولت النجاة.”
كانت الكلمات تخرج منها مثل الطعنات، كأنها تحفظها منذ سنوات طويلة. لم يكن بكاؤها بصوت، بل كان الدموع تتساقط بصمت، كأنها تعبّر أخيرًا عن وجعٍ تآكل بصمت.
ولأول مرة منذ زمن… سكت أحمد. لم يرد. لم يتقدم.