الفصل 78
تجمّد الهواء في الغرفة من شدة التوتر، كأن أنفاس الجميع عُلّقت في الهواء، لا تجرؤ على الخروج. بدا وكأن الشرارة التالية ستشعل حريقًا يصعب إخماده. التفت زياد بسرعة، مدفوعًا بغريزة إنقاذ ما تبقى من الهدوء، وتدخل قبل أن تنفجر الأوضاع بشكل لا رجعة فيه.
قال بصوتٍ حاول فيه زرع الطمأنينة:
“سيد القيسي، نحن جميعًا سعداء لأن السيدة القيسي بصحة جيدة. هذا هو الأهم الآن، أليس كذلك؟”
لكن كلمات زياد لم تجد طريقًا إلى قلب أحمد، الذي بدا كأنه قرر أن يُغلق بابه الداخلي. رفض حتى مجرد النظر إلى نوران، وابتعد بنظره إلى زاوية الغرفة، ثم قال ببرودٍ خالٍ من أي مشاعر:
“من الأفضل لكِ أن تتصرفي بطريقة أفضل.”
لم تكن تلك الجملة مجرد ملاحظة عابرة، بل كانت صفعة صامتة، خالية من الرحمة، كسيفٍ مغروس في صدرها. التوى وجه نوران بغضبٍ لم تعد تقوى على كتمانه، وبلا تفكير، وبنوبة حارقة من الغضب، أمسكت بوعاء الحساء أمامها وألقته بكل قوتها على ذلك الرجل المتغطرس، الرجل الذي ظن دومًا أن العالم يدور حوله.
صرخت:
“تحسّن تصرفي؟ تبًّا لك، أيها المتعجرف!”
ذاك الذي يدّعي الأخلاق، هو نفسه الذي سعى وراءها، هو من أصرّ على الزواج، وأغراها بالوعود، ثم كبّلها بقيودٍ خفية دفعتها إلى التخلي عن مستقبلها، وعن أحلامها، وعن نفسها. أرغمها على التراجع في كل خطوة من حياتها، والآن يتهمها بالتظاهر بالمرض؟ أي وقاحة هذه؟
كان الحساء يغلي على بدلة أحمد الفاخرة، المصنوعة خصيصًا لتناسب هيبته. لطّخت البقع الداكنة أقمشتها اللامعة، وانبعثت رائحة غريبة من المزيج الساخن الذي التصق بقميصه. رفع عينيه نحو نوران ببطء، وفيها شرارة قاتلة، وبدأ يتقدم نحوها بخطوات بطيئة، لكنها مشحونة بالغضب.
أدرك زياد أن الوضع على وشك الانفجار. هرع أمام أحمد ومدّ ذراعيه ليوقفه، وقال بنبرة متوترة:
“سيد القيسي! لا بد أن الوعاء انزلق من يدها. سيدة القيسي… أرجوكِ قولي شيئًا!”
رفعت نوران رأسها ببطء، واستقامت بكبرياء رغم ارتجاف أطرافها، ثم قالت ببرودٍ قاتل:
“نعم، لقد… انزلق.”
زفر زياد براحة، وظن أن العاصفة قد مرّت. قال وهو يشير إلى أحمد:
“لقد سمعتها، سيدي. مجرد حادث، لا…”
لكن نوران لم تنهِ المسرحية عند هذا الحد، بل أضافت بسخرية جارحة:
“ولو لم ينزلق من يدي، لكنتُ قذفتك به في مؤخرة رأسك، أيها الأحمق!”
صُعق زياد، وسُلب لسانه النطق. كان المشهد يزداد فوضى، وكانت نوران تصب الزيت على النار.
اندفع أحمد بغضب ودفع زياد جانبًا بقوة، واقترب من نوران وهمس من بين أسنانه بصوت منخفض لكن مخيف:
“نوران الهاشمي!”
قلبها ضرب في صدرها كطبلٍ غاضب، لكنه لم يكن ضربًا من الخوف، بل من الغضب الصافي. مدت يدها بسرعة نحو زجاجة الدواء الموضوعة على لوح السرير، وقفزت واقفة، وصرخت بصوتٍ كاد يمزق الهواء:
“يا لك من وغد! سأقاتلك! لن أتحمّلك بعد الآن!”
رفعت الزجاجة بقصد تحطيمها على رأسه، لكن أحمد كان أسرع منها. أمسك بمعصميها، وثبتهما خلف ظهرها بيد واحدة وكأنه يقيّد طفلة.
كانت هزيمتها لحظية. خارت قواها، واحمرّ وجهها من القهر، واغرورقت عيناها بدموع الألم والخذلان. شعر أحمد بلحظة من الارتباك والتعقيد وهو ينظر إلى انكسارها، وفجأة، وكأن شيئًا داخله تفتّت، شعر بألمٍ داخلي يفوق غضبه.
أخذ نفسًا عميقًا، يحاول فيه لجم العاصفة التي تعصف بصدره، ثم رماها بقوة على السرير وقال بصوتٍ منخفض لكنه مهدد:
“تذكّري جيدًا ما فعلتِ الليلة. من الأفضل لكِ أن تصلي ألا تقعي تحت يدي مرة أخرى.”
في داخله، كان يواجه صراعًا شرسًا. كان عليه أن يبذل جهدًا هائلًا ليمنع نفسه من خنقها، فتصرفاتها باتت كأنها تركض بتحدٍ في حقلٍ مزروعٍ بالألغام.
لكن نوران لم تتراجع. زمجرت وكأنها تفجّر بركانًا طال كبته:
“لن أطلب مساعدتك حتى لو كنتُ على حافة الموت! حتى لو اضطررتُ للقفز من الطابق السابع، فلن أمد يدي إليك!”
نظر إليها أحمد نظرة أخيرة، نظرة جمعت بين الألم والاشمئزاز والخذلان، ثم استدار وخرج من الغرفة بعنف، وأغلق الباب خلفه بقوة دوّت في الممر. اصطحب معه رجاله، وخلفه تبعه هشام، الذي لم يستطع إخفاء قلقه، وسأله وهو يلهث:
“سيدي… هل أنت متأكد؟ ألا تخشى أن تحاول السيدة القيسي إيذاء نفسها مرة أخرى؟”
خلع أحمد سترته بلحظة غضب، ورمى بها على الأريكة، وقال بصوتٍ صارم:
“امرأة مثلها لا تفكر في الموت بجدية. هي فقط… تحب أن تكون درامية. لا أريد أن أضيّع دقيقة أخرى من وقتي معها.”
عبس هشام بصمت. رأى ما لم يرَه سيده. شهد بنفسه محاولة نوران السابقة، وشاهد بأم عينيه كيف ركضت نحو النافذة، وكيف قفزت من الطابق السابع، وكيف كانت ستُزهق روحها لولا أن أحمد بنفسه أمر بوضع الوسائد الهوائية في الأسفل. لم يكن الأمر لعبة.
لكن أحمد كان قد أغلق عقله وقلبه. بالنسبة له، كانت نوران تؤدي دور الضحية، تلعب على أوتار الشفقة، وهو لم يعد مستعدًا للتجاوب.
في الغرفة، عاد زياد وهو يزفر بحزن. ألقى نظرة على الفوضى المحيطة، وطلب من الممرضة تنظيف المكان. جلس بهدوء على طرف السرير، وبدأ بإعادة ترتيبه، ثم التفت إلى نوران وقال بلطف، محاولًا احتواء الموقف:
“سيدة القيسي… أعلم أن الوضع صعب، لكن يمكنكِ دائمًا التحدث. لا حاجة للعنف، ولا للأساليب المتطرفة. صدقيني، السيد القيسي رغم كل شيء، لا يزال يهتم لأمرك. لقد أمضى الليلة الماضية خارج الغرفة، يراقب الوضع.”
لكن نوران لم تكن مستعدة لسماع مواعظ. قاطعته بصوتٍ باهت:
“سيد زياد… هل هناك احتمال أن تكون النتائج خاطئة؟”
تفاجأ زياد من سؤالها، لكن بدلاً من الغضب، ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة. قال بهدوء:
“سيدة القيسي، يمكنكِ إهانتي كما تشائين، لكن لا تشككي في عملي. لقد عرضنا تحاليلك على نخبة من الأطباء المتخصصين، كلهم أجمعوا على التشخيص ذاته. لا يمكن أن يكون هناك خطأ.”
ثم مال قليلًا إلى الخلف وتنهد، وأضاف بصوت منخفض فيه مرارة الطبيب الذي يتمنى لو أن الأخبار كانت أفضل:
“في الحقيقة، صُدمتُ أمس عندما رأيت انخفاض عدد خلايا الدم الحمراء لديك. للحظة، ظننتُ أن الأمر أخطر مما توقعت. هل تلقيتِ أي علاج دون أن تخبرينا؟ أي مكملات أو أدوية؟”