الفصل 94
اشتهر الطريق الساحلي بمناظره الليلية الآسرة، حيث كانت الأضواء الساطعة المتلألئة على جانبي الطريق الإسفلتي العريض ترسم مشهداً أشبه بسلمٍ مضيء يصعد نحو السماء المظلمة، كأن النجوم نفسها قد نزلت لترافق العابرين في سكون الليل.
فتحت نوران نافذة السيارة ببطء، تاركةً نسيم البحر الليلي البارد يتسلل إليها كأنفاس حنون تواسي روحًا مثقلة. امتزج الهواء المالح برائحة الطريق، فهدأ اضطراب صدرها، ومسح شيئًا من غبار الألم المتراكم في أعماقها.
أدارت وجهها قليلًا نحو المقاعد الخلفية، بينما كان الهواء يداعب خصلات شعرها. ابتسمت ابتسامة بالكاد تُرى، لكنّها بدت كأول خيط ضوء في فجرٍ طويل.
“كوني حذرة، حتى لا تصابي بنزلة برد…” قالتها ليان وهي تبقي عينيها على الطريق، بنبرةٍ اختلطت فيها الجدية بالقلق الدافئ.
أجابت نوران بنصف ابتسامة: “إنها لحظة فقط… لا تقلقي.” أسندت ذراعيها على حافة النافذة، ثم مالت برأسها عليها وأغمضت عينيها. كان النسيم يهمس في أذنها كما لو أنه يروي لها قصصاً نسيها الزمن، قصصاً لم تُروَ لأحد.
وفجأة، وسط هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة، قالت بصوت ناعم ولكنه حاسم:
“قررتُ أخيرًا… بعد وفاتي، أريد أن يُنثر رمادي في البحر.”
ضغطت ليان على الفرامل بقوة، وأوقفت السيارة على جانب الطريق، ثم التفتت إليها پصدمة:
“نوران! لا تُلقي بمثل هذه النكات في منتصف الليل! هذا ليس وقت المزاح، وليس مضحكًا على الإطلاق!”
لكن نوران، بهدوء غريب، فتحت باب السيارة ونزلت. مشت ببطء نحو الدرابزين، حيث كانت الأمواج تتلاطم في الظلام البعيد، وأطلقت تنهيدة طويلة.
قالت: “كنت أفكر في شراء منزل الهاشمي مجددًا… أن أُدفن تحت شجرة البرتقال في الفناء الخلفي، حيث وُلدت. ظننت أن العودة إلى الجذور ستكون النهاية المناسبة… أن أستريح أخيرًا في المكان الذي بدأت فيه.”
سكتت لحظة، ثم أضافت بصوت منخفض: “لكن، إن لم يُعطني والدي تلك الفرصة في الحياة، فلن أطلبها في المۏت. في النهاية، كلنا نعود إلى التراب. ما الفرق إن كان البحر قبري أو الأرض؟”
امتلأت عينا ليان بالدموع وهي تنزل من السيارة وتحتضن نوران بقوة، كأنها تحاول منعها من التلاشي.
“لا تقولي ذلك! إذا دُفنتِ في منزل الهاشمي، يمكنني زيارتك، أضع الزهور، أتحدث إليك… لكن إذا نُثرتِ في البحر، سأضطر لسړقة رمح بوسيدون حتى أصل إليك!”
ضحكت نوران بخفة، للمرة الأولى منذ وقتٍ طويل.
“أنتِ حقًا مهرّجة، ليان.”
“نوران، انظري إليّ… أنتِ تبدين جميلة جدًا حين تبتسمين. أرجوك، ابتسمي أكثر.” توسلت ليان وكأن في الابتسامة خلاصًا.
ابتسمت نوران، ابتسامة كاملة هذه المرة. كان فيها شيء من القبول، من المصالحة، من التسليم الهادئ.
“أتعلمين؟ بعد كل ما حدث، بدأتُ أتعلّم أن أتقبل. الحياة لا تعطينا ما نريده، بل ما نستحقه… أو ما لا نتوقعه. كلما أحببنا أشخاصًا بقوة، زادت احتمالية خسارتهم. ذات يوم، أحببتُ أحدهم بصدق، جعلني أشعر أنني إنسانة جديدة… لكنّه مضى، كما مضى كل شيء.”
نظرت إلى السماء ثم أكملت: “الآن، حان الوقت لأواصل طريقي.”
ضمّتها ليان من جديد، بقوة أكبر، كأنها تخشى أن تسقط نوران من بين ذراعيها إلى هوة لا نهاية لها.
في داخلها، شعرت ليان بعجز مرير. کرهت نفسها لأنها بلا نفوذ، بلا مال، بلا أي وسيلة لحماية صديقتها من قسۏة العالم. واحتقرت أولئك الذين يجلسون فوق العروش، يقررون مصائر غيرهم بكلمة، بصفقة، بلحظة لامبالاة. أقسمت في صمت أنها ستصعد إلى قمة الهرم الذي تكرهه، فقط لتستطيع إنقاذ مَن تُحبهم… لو لم يَفُت الأوان.
ولكن… هل ستكون نوران موجودة عندما تصل إلى هناك؟
في نهاية الطريق، وجدن مطعم شواء على شاطئ البحر. جلسن على طاولة خشبية تحت أضواء خاڤتة متدلية من سقف من القش. طلبت نوران طبق حساء ساخن، بينما تابعت ليان الحديث بشهية مفتوحة.
قالت مازحة: “أنا أفكر جديًا أن أشوي أحمد ومرام على هذه الشواية، مرارًا وتكرارًا. هل تتخيلين الرائحة؟!”
ضحكت نوران بخفة وهي ترفع ملعقة الحساء إلى فمها، ثم أخرجت هاتفها. نظرت إلى قائمة المحادثات، وكانت محادثة واحدة مثبتة في الأعلى. مع… “السيد القيسي”.
فتحتها ببطء، ثم حدقت في صورته الشخصية. لم تتغير منذ آخر مرة رأتها فيها. كانت واحدة من صورتين أجبرته على التقاطهما. كان يرتدي الأسود، وهي الأبيض. لوهلة، بدت الصورة مثالية… ولكن، عند التكبير، بدا ظل امرأة أخرى بجانبه. لم يكن وحده.
ابتسمت بسخرية. في صورتها الشخصية، كان ظله لا يزال ظاهرًا أيضًا. كانت تقول دائمًا إن حتى ظلالهما لا تنفصل.
ضغطت على “حذف جهة الاتصال”، وعندما اختفت المحادثة، شعرت وكأن شيئًا ثقيلًا قد رُفع عن صدرها… وكأن طيفه أخيرًا غادرها.