الفصل 141
لم يكن لها أي خيار أخر، سوى أن تسمع كلامه.
لم تكن تخشى أن يتخلى عنها مجد، فبين يديها سلاح لا يستهان به—بلاغ واحد إلى الإنتربول، وينهار عالمه فوق رأسه.
ومن أجل مستقبلٍ لم يولد بعد، قررت شهد أن تترك كل شيء خلفها: والدتها، حياتها، وحتى خوفها، وتتبع مجد إلى المجهول خارج البلاد.
كانت موقنة أن البدايات الجديدة ليست خرافة؛ بل حقيقة تنتظر من يملك الشجاعة ليقتنصها.
لكنها لم تكن تعلم أن مجد، حين يتحدث عن الدم، لا يبالغ.
قال إنه بحاجة إلى من يقتل شيهانة، لكنه أغفل تفصيلاً مروّعًا—شهد نفسها كانت على لائحة الموت.
وفي طريقها إلى المطار، كانت تقود بعجلة، عيناها على الطريق، وعقلها غارق في خطط المستقبل، فلم تنتبه لتلك الشاحنة الصغيرة التي ظلت تلاحقها بصمتٍ شيطاني.
حين شعرت بالخطر، كان الأوان قد فات—اصطدمت بها الشاحنة من الخلف بقوة، صرخت شهد، واندفعت السيارة للأمام كأنها تُساق إلى مصير محتوم.
في الليلة السابقة، رسم مجد سيناريوهين، أحدهما يفتح لها باب البقاء، والآخر يغلقه إلى الأبد. إن تمكنت من إنهاء حياة شيهانة، ستنال رضاه وربما شراكة في الجريمة والمجد. وإن فشلت… فستُشطب من معادلته تمامًا، بلا ندم، بلا التفاتة.
رسم مجد طريق هروبه بدقة متناهية، وكأن كل خطوة محسوبة، وكل زاوية مغطاة. لم يتبقَّ سوى أن يصل ميراث شهد إلى يديه، ثم يختفي عن الخريطة كأنه لم يكن موجودًا.
بعد أن خدعها ببراعة، بدأ في حزم أمتعته بيدين لا ترتجفان. وعندما همّ بإغلاق باب سيارته، توقفت فجأة سيارة سوداء ضخمة أمامه، حاصرة إياه.
ترجّل شاهر منها، متبوعًا بحارسين شخصيين، وبكل تأكيد، لم يكن مجد بحاجة إلى أكثر من نظرة واحدة ليتعرف عليه. كان ظهور هذا الرجل أمامه بمثابة صدمة بصرية، اعترافٌ غير معلن بفشل خطته، ختم نهائي على حساباته الدقيقة.
كان مجد يعتقد أن كل شيء تحت سيطرته، وأن خطته محكمة لا تُخترق… لكنه لم يدرك أين وقع الخطأ، ولا كيف تسرّب الفشل إلى قلب حساباته.
ورغم ذلك، لم تظهر على ملامحه أدنى إشارة للقلق. كان هادئًا، كما لو أن الرياح العاتية حوله لا تعنيه.
التقى بنظرات شاهر المليئة بالكره، ورد عليها بابتسامة غامضة، مصحوبةً بضحكة قصيرة ساخرة، كمن يستهزئ بما لا يمكنه السيطرة عليه.
“ما الأمر؟” قال ببرود، متعمدًا أن يثير الغضب في عيني شاهر، “تبدو وكأنك لم تأتِ لتتناول الشاي والبسكويت.”
لكن شاهر لم يكن هنا لتبادل المجاملات. كان هنا ليفتك، ليقتص.
قال شاهر بابتسامة ملؤها التهكّم: “معك حق يا مجد. أنا هنا لأسدد دَينك.”
“دين؟ بالدم؟” أجابه مجد بتهكم مماثل، “ألا تبالغ قليلاً؟ على أي أساس تطالبني بشيء؟”
ضحك شاهر بسخرية: “بسبب محاولة قتل مدبّرة، يا مجد. فشلت خطتك، ورجالك اعترفوا بكل شيء. الشرطة في طريقها لاعتقالك. لكن قبل أن تصل… لدي شأن شخصيّ معك.”
ضيّق مجد عينيه، يحدّق فيه بتحدٍ:
“وما الذي تتوقع أن تفعله؟”
شاهر لم يرد. بل تقدّم خطوة وقال بصوت كالسيف:
“سأحوّل حياتك إلى جحيم!”
وانقضّ عليه بعنف.
لكن مجد لم يكن أعزل. أخرج مسدسًا من تحت سترته، وأطلق النار بلا تردّد.
الرصاصة اخترقت كتف شاهر، لكنه لم يتراجع. وكأن الألم لا يعني له شيئًا، انقض على مجد، وأسقطه أرضًا بلكمة قوية.
“اللعنة…” زمجر مجد، مذهولًا من شجاعة شاهر التي لم يتوقعها.
حاول أن يطلق رصاصة أخرى، لكن ذراعه كانت مثبتة بقوة. اشتعل الغضب في عيني شاهر، وبدأ يوجه اللكمات واحدة تلو الأخرى إلى وجه خصمه.
انفجار!
لكمة أقوى من سابقاتها، جعلت رؤية مجد تبدأ في التلاشي.
انفجار آخر!
كل شيء أصبح ضبابيًا، كأن الأرض تبتلعه، وكأن نهاية اللعبة بدأت الآن.
الفصل 142
أمسك مجد بعنف، لم يمنحه أدنى فرصة للهروب، ولا حتى لالتقاط أنفاسه. كان على وشك أن ينهال عليه بلكمات أخرى.
انهار صمود مجد أخيرًا، واستسلم لشاهر… ذلك المجنون الذي خرج عن طوره.
ورغم أن كتف شاهر كان ينزف من رصاصة اخترقته، إلا أنه ظل واقفًا، لا يلين… لا يتراجع.
كان مدفوعًا بقوة الكراهية!
كل الغضب المكبوت، كل الحقد الذي تراكم عبر السنوات، انفجر دفعة واحدة.
كيف لشاهر ألا يجنّ؟ ألا يغرق في هستيريا سفك الدماء؟
لقد أصبح دافعه الوحيد: تحطيم مجد… حتى الموت.
استحوذت هذه الفكرة على كيانه، طغت على وعيه، وابتلعت عقله.
كأنه ممسوس… لم يرَ شيئًا سوى الدم يتراقص أمام عينيه.
لذلك، لم يُدرك أن مجد قد توقف عن المقاومة منذ زمن.
في الواقع، كان ساكنًا بشكل مخيف… صمتُه وحده كان كافيًا لبث الرعب.
رأى الحارسان الشخصيان خطورة الموقف، فهرعا إلى الأمام لسحب شاهر بعيدًا، وإلا كان ليسحق رأس مجد دون تردد.
بحلول ذلك الوقت، كان جسد مجد مغطى بالدم، ووجهه مشوّهًا بطريقة مروّعة…
ومع ذلك، لم تُخمد نار الكراهية في صدر شاهر. وبينما كان يُسحب بعيدًا عن جسد خصمه، لم يُفوّت فرصة لتوجيه بضع ركلاتٍ عنيفة.
“سيدي شاهر، يكفي! ستقتله!”
“الشرطة باتت على وشك الوصول!” ذكّره أحد الحارسين.
صرخ شاهر، متهالكًا من الغضب:
“لا يهمني! لستُ خائفًا من السجن… أريده أن يموت! أريد قتله!”
كافح ليتحرر من قبضتهما، وانقضّ مجددًا نحو مجد.
لكنه لم يلبث أن ترنّح، ثم سقط أرضًا. فقد كان ينزف بشدة…
“أختي، هناك أمر خطير!”
كان تميم وشيهانة ينتظران في مقهى مقابل مركز الشرطة. كان من المفترض أن يحضر شاهر مجد بنفسه.
عبست شيهانة، ونظرت إليه بقلق.
“ماذا حصل؟”
أخبرها تميم على الفور بكل ما سمعه من الحارس الشخصي.
“كلاهما نُقل إلى المستشفى الآن… والوضع لا يُبشّر بخير. هل فقد شاهر صوابه؟ هذه المواجهة لم تنتهِ لصالح أحد.”
قالها تميم بقلقٍ وارتباك.
أجابت شيهانة بصوتٍ خافت، يشوبه الحزن:
“لقد أعمته الكراهية… احزم أمتعتك، سنذهب إلى المستشفى فورًا.”
“تمام!”
غادرا المقهى على عجل. وبينما كانا يعبران الطريق نحو موقف السيارات المقابل، انعطفت سيارة فجأة من الزاوية واتجهت نحوهما بسرعة جنونية.
لدغة واحدة، خجل مرتين.
كانت شيهانة قد تعرّضت لحوادث كثيرة من قبل، ولهذا كانت دائمًا حذرة وهي تعبر الطرق.
رأت الخطر قادمًا في اللحظة ذاتها!
“احذر!”
صرخت وهي تقفز لدفع تميم بعيدًا، قبل أن تصطدم بها السيارة المسرعة بقوة هائلة.
طارت شيهانة في الهواء، وهبطت على الأرض مصدرةً دويًا كالصاعقة.
“أختي!”
صرخ تميم، الذي سقط أرضًا من شدة الصدمة، وعيناه تتابعان المشهد المفزع.
لكن السيارة لم تتوقف. انعطفت فجأة، وعادت تنطلق نحو جسد شيهانة الملقى!
وقبل لحظات من بلوغها، خرجت سيارة مايباخ من وسط الزحام بسرعة خاطفة، واصطدمت بها مباشرةً.
انفجار!
اهتزت الأرض تحت أقدام الجميع، وانقلبت السيارة المعتدية في الهواء، ثم هوت ككومة من الحديد المحترق.
الفصل 143
وقع الحادث مباشرة أمام مركز الشرطة، ومع صوت الانفجار، اندفع عدد من ضباط إنفاذ القانون إلى الخارج.
كانت شيهانة تحاول بصعوبة أن تنهض، ملامحها مشدودة من الألم والجهد. رفعت عينيها فرأت ضابطين يجرّان رجلاً ضخم الجثة من سيارة مايباخ المحطمة.
اتسعت عيناها بذهول…
كان ذلك مراد.
قبل أن تتمكن من استيعاب الموقف أو فهم ما يجري، خيّم الظلام على وعيها، وسقطت في غيبوبة مفاجئة.
أصيب مراد بجروح طفيفة، أخطرها خدش غائر في كتفه ينزف ببطء. أما شيهانة، فكانت حالتها أكثر سوءًا، جسدها مليء بالجروح والكدمات، ولا تزال فاقدة للوعي.
نُقلا على وجه السرعة إلى المستشفى، حيث كان رِكان في نوبة عمله.
فور سماعه بالحادث، أسرع إلى جناح الطوارئ، وقلبه ينبض بالقلق.
“ماذا حدث؟ سمعت أن حادثًا كبيرًا وقع!” قال وهو يدخل الغرفة.
أجابه مراد بنبرة خفيفة، يخفي تحتها التوتر:
“سمعتَ بشكل صحيح.”
ثم ألقى نظرة سريعة إلى السرير المجاور، حيث كانت شيهانة ممددة، شاحبة، ساكنة.
“ساعدني في الاطمئنان عليها.”
في تلك اللحظة، رفع الطبيب الذي كان يفحص شيهانة رأسه وقال بهدوء:
“حالتها أفضل مما تبدو عليه. إنها فاقدة للوعي فقط، لا إصابات حرجة.”
أومأ رِكان بصمت، ثم نظر الى مراد وقال:
“بما أن شيهانة بخير، دعني أعتني بك أولًا.”
رفع مراد يده يمنعه، وقال بابتسامة هادئة:
“السيدات أولًا.”
تميم، الذي كان يراقب بصمت، عبس في داخله.
منذ متى أصبح مراد غير أناني إلى هذه الدرجة؟
ابتسم رِكان وقال:
“حسنًا، إن كنت مصرًّا… اتبع زملائي لعلاج جروحك، أعدك أنني سأهتم بها كما يجب.”
أومأ مراد برأسه، ونهض ليتبع الأطباء والممرضات خارج الغرفة.
وبعد إخلاء الغرفة من جميع غير المعنيين، شرع رِكان في فحص إصابات شيهانة بعناية، وجهه مزيج من التركيز والقلق.
في الغرفة المجاورة، جلس مراد على السرير بينما كان الطبيب يخيط جرحًا بطول عشرة سنتيمترات على كتفه. وصل السيد والسيدة شهيب، ترافقهما تالين التي هرعت إلى المستشفى فور سماعها بالحادث.
“كيف كنت مهملًا هكذا؟”
قالت والدته بقلق، وهي تتمعن في الجرح الذي لم يزل ينزف.
“مراد، هل أنت بخير؟ تشعر بأي ألم؟”
سألته تالين، وعيناها لا تفارقان وجهه.
رفع الطبيب نظره إليهم ليطمئنهم:
“لا تقلقوا، الجرح يبدو خطيرًا لكنه سطحي. سنزيل الغرز خلال أسبوع، ولن تترك الندبة أثرًا يُذكر بعد شهر.”
التفت السيد شهيب نحو ضباط الشرطة الواقفين في الغرفة، وقال بنبرة صارمة:
“ما الذي حدث بالضبط؟ كيف وقع هذا الحادث؟”
أجابه أحد الضباط باحترام:
“السيد مراد تدخّل لإنقاذ الآنسة شيهانة. اصطدم بسيارة المهاجم ليمنعها من دهسها.”
“ماذا؟!”
شهقت السيدة شهيب، واتسعت عيناها من الذهول.
حتى تالين كانت تحدق فيهم بارتباك.
مراد… خاطر بحياته من أجل إنقاذ شيهانة؟
قال السيد شهيب بجدية، وهو ينظر إلى مراد:
“نريد أن نسمع منك مباشرة. ما الذي جرى؟”
أجاب مراد بهدوء دون أن يلتفت إليهم:
“لم يكن الأمر متعلقًا بشيهانة شخصيًا. رأيت محاولة اغتيال واضحة، وكان لزامًا أن أتدخل. كنت سأفعل الشيء نفسه مع أي شخص آخر.”
أومأ الضباط تأكيدًا، وأحدهم أضاف:
“السيد مراد بطل حقيقي! لولاه، لربما فقدنا الآنسة شيهانة…”
واستمروا في شرح تفاصيل الحادث، بينما كان التوتر يتصاعد في الغرفة.
كانت السيدة شهيب وتالين تنصتان، وملامحهما تتحول من القلق إلى الامتعاض شيئًا فشيئًا.
لماذا خاطر مراد بنفسه من أجل تلك الفتاة؟
ماذا لو أصابه شيء خطير؟
ماذا لو… مات؟
الغضب اشتعل في صدر تالين، لكنها لم تُظهره. فقط عضّت على شفتها وهي تراقب وجه مراد.
لماذا أنقذها؟
لماذا لم يدع تلك الحقيرة تموت؟
اختلط الغيظ بالحسد… وأحرق قلبها من الداخل.
الفصل 144
انهمرت دموع تالين في اللحظة المناسبة.
أدت دور الخطيبة القلقة بإتقان… النظرات المرتبكة، الصوت المرتعش، والدموع المنسابة بانسيابية محسوبة.
سارعت السيدة شهيب العجوز لاحتضانها وتهدئتها، ثم وجهت كلماتها إلى مراد بنبرة ناعمة تحمل عتابًا لطيفًا:
“بالطبع، يجب أن نساعد الآخرين كلما استطعنا، لكن يا مراد، عليك أن تدرك حجم الموقف. هذه المرة نجوتَ بجُرح بسيط، لكن ماذا لو لم تكن كذلك؟ لم تعد مسؤولاً عن نفسك فقط… أنت على وشك الزواج من تالين. ماذا كانت ستفعل المسكينة لو أصابك مكروه؟”
هزّت تالين رأسها بتفهم، وقالت بصوت خافت يبدو مكسورًا:
“خالتي، لا بأس… لا يجب أن نلوم مراد. لقد فعل شيئًا شجاعًا، وكان نيته طيبة في النهاية.”
لكن السيدة شهيب لم تقتنع كليًا، فأضافت بنبرة خفيفة من التوبيخ:
“نيّته طيبة، نعم… لكن عليه أن يفكر بنفسه أولًا قبل أن يُعرض حياته للخطر من أجل الآخرين.”
كانت تستعد للدخول في موعظة طويلة معتادة، لكن مراد قاطعها بلطف حاسم:
“فهمت، يا أمي… شكرًا لاهتمامك. لكني أحتاج إلى بعض الراحة الآن، سنتحدث لاحقًا.”
تقدّمت تالين خطوة وقالت بنبرة حنونة:
“مراد، سأبقى هنا لأعتني بك.”
لكن مراد هزّ رأسه بإصرار دون أن ينظر إليها:
“لا داعي لذلك، تالين. أحتاج لبعض الوقت وحدي… فقط لأستجمع أنفاسي.”
عبست تالين، وعضّت على شفتيها، تحاول إخفاء خيبة أملها:
“لكن… أعدك ألا أزعجك، فقط أريد البقاء هنا إلى جانبك.”
نبرته كانت هادئة لكنها حاسمة:
“لا حاجة، حقًا. سأكون بخير.”
لم تجد تالين ما تقول، فالتزمت الصمت. لم ترغب في الإلحاح، فهي لم تكن تود أن تُثقل عليه أكثر، ولا أن تدفعه بعيدًا برغبتها في البقاء. لم ترغب في إزعاجه… فقط كانت تأمل أن يحتاجها.
أومأت تالين برأسها متفهمةً وقالت:
“حسنًا، أوعدني بأنك سترتاح جيدًا. سأعود لأعد لك بعض المرق، وسأحضره لاحقًا اليوم.”
لم يُبدِ مراد أي رد، واعتبرت تالين ذلك بمثابة موافقة صامته منه.
تبادل السيد شهيب بعض الكلمات مع ابنه قبل أن يغادروا جميعًا الجناح.
وعندما خرجوا من الغرفة، صادفوا رِكان في الممر.
استقبلتهم السيدة شهيب العجوز بابتسامة عريضة عندما رأت رِكان، وقالت:
“دكتور ركان، شكرًا لك على مساعدتك في رعاية مراد. إذا احتاج إلى أي شيء، فلا تتردد في الاتصال بنا.”
ابتسم رِكان وقال:
“خالتي، لا داعي للقلق. جرح مراد ليس خطيرًا، سيشفى تمامًا.”
“من الجيد أن أعرف ذلك.”
ثم أضافت تالين فجأة، بصوت يحمل القلق:
“بالمناسبة، دكتور ركان، هل لديك أي معلومات عن حالة شيهانة؟”
أجاب رِكان وهو يشير إلى الباب خلفه:
“الآنسة شيهانة في تحسن أيضًا. انتهيتُ للتو من فحص إصاباتها. هي في هذا الجناح.”
إذن، هي في الغرفة بجوار الباب مباشرة…
بعد أن ودعوا رِكان، لم تتمكن تالين من منع نفسها من إلقاء نظرة على داخل الغرفة عندما مروا بالقرب من باب شيهانة المفتوح.
كانت شيهانة لا تزال فاقدة للوعي، بينما كان تميم جالسًا بجانب سريرها يراقبها، وعندما رأيا بعضهما البعض، عبس تميم بحزن.
“هيا بنا،” قالت السيدة شهيب، وقد بدت في عينيها نظرة لا مبالية، كما لو أن شيهانة كانت مجرد غريبة.
سحبت تالين عينيها بعيدًا بسرعة وتبعتها، لكن لم يرَ أحد الحقد الذي تومض في عينيها…
عندما وصلوا إلى الممر، ذهب تميم ليغلق الباب خلفهم. لم يُرد أن يرى أي شخص آخر.
عاد تميم إلى مكانه بجانب سرير شيهانة، جالسًا في صمت، يراقبها. مر الوقت، ولكن شيهانة لم تُبدِ أي علامة على الاستيقاظ.
في الواقع، بدا أن حالتها قد ساءت. كانت تتقلب في نومها، بينما بدأ جبينها يتصبب عرقًا باردًا…
سارع تميم لإحضار “ركان” الذي كان متواجدًا في غرفة “مراد”. ذهب ركان ومراد معه بسرعة إلى غرفة شيهانة، وعندما نظر ركان إلى حالتها، عبس دون وعي وقال: “ما الخطب؟”
رد تميم بقلق بالغ: “لا أعرف. كنتُ متأكدًا أنها بخير، لكن لسببٍ ما، بدأ جسدها ينتفض. دكتور ركان، من فضلك، اكشف على أختي… وقل لي ما بها؟ أختي كانت دائمًا قوية، لم أرى عليها ما يزعجني من قبل.”
توسل تميم بنبرة مليئة بالقلق.
الفصل 145
أومأ ركان برأسه وقال:”أختك كانت تحت ضغط لا يُحتمل في الآونة الأخيرة.” أومأ تميم برأسه مجددًا، موافقًا.
لم يُبدِ مراد أي تعليق، بل نظر إلى شيهانة بعمق، وهو يفكر في حالتها.
كان لديه فهم أساسي لتحولات شيهانة وتغيراتها الأخيرة. بل كان على علم ببعض الأحداث التي جرت في الليلة السابقة.
رغم ذلك، كان يجد صعوبة في تصور أن امرأة ضعيفة جسديًا مثلها يمكن أن تمتلك مثل هذه القوة والذكاء المدهش الذي يجعلها قادرة على هزيمة جميع أعدائها في ليلة واحدة.
رغم أنه قدم لها مساعدته، إلا أنه كان واثقًا تمامًا بأنها كانت قادرة على تحقيق ذلك دون حاجتها إليه.
ما زال يجد صعوبة في التوفيق بين “شيهانة” التي كان يعرفها سابقًا، و”شيهانة” التي ظهرت في حياته مؤخرًا.
لم يكن قد رأى منها هذا الجانب المثير للإعجاب من قبل.
لكن في تلك اللحظة، كانت ضعيفة للغاية. كان من الممكن أن تكون أكثر قوة وكفاءة، لكنها كانت لا تزال امرأة من لحم ودم، معرضة للحظات ضعفها.
وفي تلك اللحظة، جعل اكتشاف هذا الجانب الضعيف من شيهانة مراد يشعر بمزيد من التقدير تجاهها، وشعر بأنها أكثر إنسانية، وأصبح معجب بها أكثر.
لا يزال مراد واقفًا هناك بعد أن قام رِكان بتوصيل شيهانة بالتنقيط الوريدي. حدّق به تميم بفضول، فتنحنح قليلاً وقال:
“سيد مراد، لمَ لا تستريح قليلاً؟ أنت أيضًا مصاب، أليس كذلك؟”
أفاق مراد من شروده وأجاب بنبرة خفيفة:
“سأذهب إلى غرفتي، إذا احتجتَني، فقط اطلبني.”
أومأ تميم برأسه، وقال بصوت محرج قليلاً:
“شكرًا لك على كل شيء، على مساعدتك.”
“على الرحب والسعة.” نظر مراد إلى شيهانة لآخر مرة قبل أن يغادر، مغلقًا الباب خلفه.
بعد فترة وجيزة من عودة مراد إلى جناحه، جاء رِكان لإجراء جولته المعتادة. فحص جرح مراد بسرعة وقال بابتسامة مطمئنة:
“يمكنك أن تذهب إلى المنزل للراحة. اطلب من طبيب العائلة أن يغير ضمادتك يوميًا، وستكون بخير.”
أجاب مراد ببساطة:
“حسنًا”، ولكنه ظل واقفًا في مكانه، وكأنما لم يكن لديه رغبة في مغادرة المكان.
وفي الغرفة المجاورة، كانت شيهانة لا تزال فاقدة للوعي…
كان رِكان يزور مراد بانتظام ليُطلعه على حالة شيهانة. في كل مرة كان يهز رأسه بحزن، لكن ذلك لم يمنعه من الذهاب إليه ليحكي له آخر أخبارها.
وبعد عدة أيام، بدأت حمى شيهانة تنحسر تدريجيًا، لكن الكوابيس الليلية التي كانت تلاحقها كانت تجعلها تستيقظ فزعة بين الحين والآخر. كانت كل ليلة تكشف جزءًا جديدًا من ذكرياتها، تُعيد تشغيل أحداث السنوات الخمس والعشرين الماضية بلا توقف.
كانت ذاكرة شيهانة تغرق في شريط من الذكريات المتناثرة، مشاهد طفولتها مع والدتها، اللحظات التي علمتها فيها برمجة الكمبيوتر، ثم الحادث الذي غير مجرى حياتها وزواجها من مراد.
كانت الذكريات تتنقل بسرعة، بعضها يصبح واضحًا كما لو كان حيًا، بينما تختفي أخرى في ضباب الزمن.
لكن كانت هناك واحدة كانت تبرز أكثر من البقية، وهي الذكرى التي تتعلق بوالدتها، تلك اللحظة التي غادرت فيها والدتها.
“شيهانة، عزيزتي، أنا سأغادر، لكن عليكِ الاعتناء بنفسكِ. ركّزي في دراستكِ، ولا تنسي التدرب على الكمبيوتر، حتى نلتقي يومًا ما.”
سألت شيهانة بقلق:
“أمي، إلى أين تذهبين؟”
ابتسمت والدتها ابتسامة هادئة وقالت بصوت مليء بالغموض:
“إلى مكان بعيد، مكان حيث… أنت فقط من تستطيعين الوصول إليه…”
“أمي، ماذا تعنين؟” سألت شيهانة وهي في حالة من الحيرة.
لكن والدتها لم تُجب، اختفت ببساطة في الظلام.
“أمي… أمي!” نادت شيهانة في الظلام، تبحث عنها بلا جدوى. ومع كل محاولة، كانت والدتها تختفي أكثر. ثم، في لحظة من الفزع، استفاقت شيهانة مفزوعة، قبل أن يغمرها الظلام مرة أخرى.