رواية عودة الوريثة القوية_عودة الوريثة الضائعة الفصل الثامن 8

Close-up of hands holding vibrant yellow daisies, showcasing natural beauty and floral pattern.

الفصل الثامن

صُعقت “شانون” حين رأت روزاليند تتهاوى كريشة تائهة في مهب ريح سقطت بين النظرات والاتهامات وارتفع حاجباها في دهشة ممزوجة بوميض رغبةٍ عابرة في الضحك لكنها كبحتها.

اندفع “جاستن” نحوها كمن رأى محبوبته تُذبح أمامه وانحنى ليُعينها لكن روزاليند في مشهدٍ يشبه المسرحيات الرديئة إذ تمسّكت بالأرض كما لو أنها تحمل ثقل وجعها وحدها.

تأوّهت بتصنّع:

ـ “آه، جاستن… هذا يؤلمني! هلّا حملتني؟”

كأن الألم الذي اعتراها قد اخترق ركبتيها مباشرة إلى غرورها فراحت تتشبث بعينَي جاستن متوسّلة بإدعاء خبيث.

في الجانب المقابل من المشهد كانت بيلا تقف كعمود من نورٍ ساخر تعقد ذراعيها أمام صدرها وتحدّق بثباتٍ في تلك التي تلوّث الحقيقة بالدموع الزائفة.

“جاستن… لقد دفعتني السيدة براون!”
صرخت روزاليند كمن يطلق رصاصة وهمية في صدر الحقيقة ثم زحفت بخنوع إلى أحضان جاستن كقطةٍ مدرّبة على البكاء.

ابتسمت بيلا لا بسخرية بل براحة من يشاهد فصلاً مألوفًا في مسرح الكذب.

ـ “أحقًا تعتقدين أنني دفعتكِ؟”

كان صوت بيلا ناعمًا لكنه مشبع بسُخرية باردة كثلجٍ يحتفظ بحرارته المميتة.

توردت وجنتا روزاليند وصرخت بحدّةٍ لا تناسب نعومتها المصطنعة:

ـ “شعرت بيدك تدفعني! لا تحاولي الإنكار!”

خطت بيلا خطوة للأمام كأن حضورها وحده كافٍ لتحطيم زيف العالم.

ـ “سيدة جولد لا تنسي أن المكان يعجّ بالكاميرات… اتهامكِ لي قد يفتح عليكِ باب التشهير… وأنا أُجيد طرقه.”

لم يكن تهديدها صوتًا مرتفعًا بل همسًا ناعمًا يحمل خلفه زئيرًا مكتومًا وعينيها في تلك اللحظة لا تشبهان عيني امرأة بل مرآتين معتمتين تنعكس فيهما نهاية الكذبة.

تلعثم جاستن مأخوذًا بتحوّلٍ لم يتوقعه. تلك الزوجة التي كانت ظلاً له امرأة باهتة لا ترفع صوتًا ولا اعتراضًا قد تبخرت… وها هي أمامه… امرأة من نار.

حاولت روزاليند أن تستنجد بشانون التي بدورها رمقت الكاميرا أعلى الباب ثم رفعت يدها بحنكة:

ـ “يا جماعة هذا سوء تفاهم… أظنّ أن روز انزلقت ولم تلتفت أن آنا كانت قريبة منها.”

أدارت عينيها وقالت بخفةٍ مغلفة بالحكمة:
ـ “كل ما في الأمر سوء تفاهم!”

نظر جاستن إلى المرأة التي بين ذراعيه وجاء صوته بارد كثلجٍ ينزف من شقّ جبل.

ـ “روز… هل انزلقتِ فعلًا؟”

ـ “أظن…” تمتمت روزاليند، “لو لم تبتعد آنا لما سقطت… السوار انكسر… إرثٌ من جدّتي… آنا لا يجب أن تصبّي غضبكِ عليّ… هل كان الطلاق خطئي؟”

وانفجرت دموعها من جديد وكأنها تملك نبعًا لا يجف لكن بيلا كانت تقف على مسرح الحقيقة، لا تهتزّ ومن ثم قالت بهدوء:

ـ “أولًا أنا لست غاضبة من الطلاق. في الواقع أودّ أن أشكركِ… لقد حرّرتِني من جحيم الانتظار والخذلان.”

رفعت ذقنها بعنفوان وأكملت:

ـ “لم أعد تلك الزوجة التي تذوب من الحنين كل ليلة من الغسق حتى الفجر وأنا أبحث عن ظلّ رجل.”

توهّجت عينا جاستن بدهشةٍ مخنوقة مردداً:

ـ “انتظار من الغسق حتى الفجر؟”

تجاهلته بيلا ومضت نحو السوار المكسور الذي التقطت نصفه ورفعته تحت الضوء وقالت بتهكم مشوب بالحكمة:

ـ “لو كان هذا الإرث حقيقيًا لكان أكثر صلابة… لكنه مزيف ككل ما فيكِ.”

ذهلت روزاليند وشانون ومن ثم أضافت:

ـ “كما أنه مملوء بالغراء السام… يضرّ الصحة… فالأفضل أن تتخلصي منه.”

وألقت به في سلة المهملات كمن يتخلص من ذكرى قبيحة.

ثم نظرت إلى جاستن والنبرة لم تعد سوى رماد ساخن:

ـ “بما أنكَ تنوي الزواج منها فاشترِ لها سوارًا حقيقيًا… أو ربما يناسبها الضفدع المصنوع من اليشم الذي على طاولتي في قصر تايدفيو اعطها إياه فأنا لم أعد أرغب به.”

قالتها بيلا وهي تنفض كفيها كمن تتخلص من غبار خداعٍ قديم وانسحبت ببطء تاركة خلفها جمرًا لا يبرد.

في تلك الأثناء راودت روزاليند أفكارٌ مشتعلة كجمرٍ خفيّ تحت رماد الحقد… فهمست لنفسها وعيناها تتقدان شررًا:

«ضفدع؟! أهي تظن نفسها بارعة في التلميح؟ يا لسخريتها المبتذلة… تلك العاهرة تتقن إهانتي دون أن تلطّخ شفتيها بحرفٍ مباشر!»

تلبّدت ملامحها بالغضب وعصفت داخلها رغبة الانتقام لكن خطوات بيلا كانت قد اختفت خلف أروقة المستشفى تاركة وراءها صدى الهزيمة يتردّد في صدر روزاليند كضحكة ساخرة.

وفي الخارج حين لامست النسائم وجه النهار انفلت ضحكٌ خافت من بين شفتي بيلا كأنه زهرٌ نبت في صدع الحروب… ضحكت بملء قلبها وهي تتذكّر ملامح روزاليند المتحجّرة كتمثال هُشّم كبرياؤه للتو.

وفجأة اخترق سكون اللحظة صوتٌ عميقٌ مألوف:

ـــ “آنا!”

استدارت بيلا ببطء كأنها لم تسمع… كأن اسمها لم يعد يعني لها شيئًا وها قد هبّت الريح فتراقصت خصلات شعرها الأسود حول وجهها كموجٍ بريّ وأضافت على قسماتها مسحة تمردٍ رقيقة.

اقترب جاستن منها بخطى واثقة كمن يطارد ظلًّا لا يريد الإمساك به فأردفت بصوت رخيم:

ـــ “نعم، سيد سلفادور؟”

قالتها وقد رفعت حاجبها بلا انفعال وأضافت بهدوء جليدي:

ـــ “إذا كانت السيدة جولد لا تزال تبكي على سوارها فلتعلم أنني سأرسل لها غدًا عربةً كاملةً من الأساور لتختار ما يرقى إلى دموعها الزائفة.”

كاد يرد، تردّد، ثم قال بنبرة خافتة:

ـــ “حين كنا في الجناح، أخبرتِ جدي…”

قاطعته بيلا وكأنها تغلق الباب قبل أن يُفتح:

ـــ “لا تُرهق نفسك بالتفكير… لم أرغب إلا في طمأنة الجدّ لا أكثر.”

ولوهلة ارتسمت على محياها ابتسامةٌ رقيقة تلوح على أطراف الحزن.

ابتسم جاستن هو الآخر… لكن ابتسامته كانت مشوبةً بسخرية باردة:
ـــ “ها نحن أصبحنا متعادلين.”

رمشت بيلا في حيرة فواصل جاستن بنبرة تحمل مرارة الحقيقة:

ـــ “لقد زيّفتِ هويتكِ وتسللتِ إلى عالمي بكل دهاء… تزوجتِني بمسرحيةٍ متقنة… لكني رغم كل شيء لم أخبر جدي ولا أيًّا من آل سلفادور.”

تجمّدت الدماء في عروق بيلا واتسعت عيناها كأنها تراه لأول مرة.

همس جاستن كأن الكلمات ثقيلةٌ على شفتيه:

ـــ “أخبريني… ما الذي دفعكِ لفعل ذلك؟ لا… بل دعيني أطرح السؤال كما ينبغي: ما غايتكِ من استخدام هوية مزيفة للتقرب من جدي؟”

تقلص قلبها كزهرةٍ طُويت تحت العاصفة وتراجعت خطوةً إلى الوراء فلم تنتبه إلى أن خلفها كان الفراغ… فاختل توازنها وسقطت لكن قبل أن يعانق جسدها الأرض امتدت يدٌ قويةٌ دافئة أمسكت بخصرها، وسحبها جاستن إليه فارتطمت بصدره وتناثر بينهما الصمت.

تلاقت العيون…
خجلت نظراتها، وارتبكت أنفاسه… وهوها قد احمرّ وجهها كبتلة ورد تفتحت على استحياء فيما بدا على ملامحه اضطرابٌ غريب كأن روحه تنازع.

في تلك اللحظة العابرة أدركت شيئًا واحدًا:

هو ما زال وسيمًا كما ظنّت، بل وأكثر مما يُحتمل.

تدفّقت الذكرى في عقل بيلا كما يتسرّب العطر من قارورة قديمة.
تذكّرت أول مرّة التقت فيها بتلك العينين اللامعتين حين كانت طفلة ضائعة في دهاليز الغابة المظلمة والمطر يغسل وجه الأرض كما لو كان العالم كله يبكي.
كان عمرها آنذاك إحدى عشرة سنة فقط… ولولا جاستن لما كُتبت لها الحياة بعد تلك الليلة… هو نفسه الذي انتشلها من براثن الموت عاد اليوم ليغرس سكينًا باردًا في قلبها… من كان ملاك نجاتها… أصبح جلاد وجعها.

مدّ جاستن ذراعه وأقام جسدها المرتجف على قدميه بنظرة باهتة تخلو من كل ما يشبه العاطفة.

– “شكرًا”، همست وكأنها تُسكت شلالًا من مشاعر لا يُحتمل انسيابها.

لكنه لم يكتفِ وصوته ظل مثابرًا كمن يبحث عن الحقيقة بين الأنقاض:

– “أجيبي عن سؤالي الأخير.”

رفعت رأسها وعيناها تحملان غمامة من برود متكلّف:

– “لم أعد زوجتك، ولست ملزمة بالإجابة.”

استدارت مبتعدة، غير عابئة بوقع كلماتها وأضافت بفتورٍ مدروس:

– “بما أنك قلت إننا متعادلان الآن… لماذا الإلحاح؟ حتى لو تزوجتك بهوية مزيفة لم أمسّك بسوء طوال ثلاث سنوات. أليس كذلك؟”

لكن يده امتدّت فجأةً كمن يحاول الإمساك بشبح الحقيقة وقبض على معصمها بقوة وهو يقول:

– “الطلاق لم يُبرم بعد ما زلتِ زوجتي أمام القانون… ويحق لي أن أعرف من تكونين حقًا.”

رمقته بنظرة متحدّية كأنها تزرع الشوك في طريقه:

– “لن أخبرك.”

تسارعن أنفاسها واحتقنت عيناها بغضبٍ مخنوق… وأضافت بتهكم صريح:

“سيد سلفادور، ألا ترى في الأمر سخرية؟ تتحدث عن الواجبات! هل قمت بواجباتك كزوج؟ هل كنت حاضرًا في حياتي ولو ليوم؟ بأي وجه تُطالبني الآن أن أؤدي دوري كزوجة؟!”

تقلّصت المسافة بينهما فجأة كان كبركانٍ صامت انفجر فجأة وأسرع يحتويها بين ذراعيه حتى اختلطت أنفاسهما كأنهما يتنفّسان ذات الجمر.

قال بحدة وعيناه تغليان بنيران لا يعلم سببها:

– “آنا، لا تختبئي خلف لامبالاتك… لا تظني أنني لن أجرؤ على مواجهتك!”

همست بمرارة:

– “إذن اذهب وابحث… لماذا تسألني؟”

ثم انتزعت نفسها من بين ذراعيه بقوة وغادرت دون أن تلتفت تُسدل الستار على فصل كان يجب أن ينتهي منذ زمن.

وقف جاستن مشدوهًا يحدّق في ظلّها المتمايل بعيدًا… كان جسدها يرحل لكن رائحة اشتباكٍ عذب بقيت معلّقة في الهواء… تذكّر شفتيها المتوهجتين وعينيها الطافحتين بالتحدي… شيء ما في صدره انكمش… ثم ارتجفت أوصاله.

فكّر بمرارة:

“لماذا لجأت إلى هذا الأسلوب؟ كيف استطاعت أن توقع رجلاً مثل آشر تومسون في شباكها؟ لا بدّ أنها ماكرة… خائنة… لا أستوعب ما الذي يراه فيها جدي!”

قطع أفكاره صوت متهدج خلفه إذ
ركض إيان باتجاهه وهو يلهث قائلاً:

– “سيدي، السيدة روزاليندا تعرّضت لالتواء في كاحلها… وتريدك أن ترافقها.”

لكن فجأة دوّى هدير محرك سيارة خارقة كزئير نمرٍ غاضب في وادٍ مهجور.

التفت جاستن بحدّة فرأى بيلا – المرأة التي اعتقد أنها مجرّد ظلّ – تمسك بمقود سيارة سوداء فارهة، محدودة الإصدار وكأنها تُعلن انتصارها بصمت مدوٍ مرت بجانبه كنسمة باردة تحمل في طيّاتها احتقارًا نبيلًا ونظرة من لا ترى من يقف أمامها.

حدّق إيان مذهولًا:

– “يا إلهي! إنها سيارة نادرة! من أين لها بذلك؟”

وأضاف بدهشة:

– “سيدة أعمال متواضعة…؟ هذا هراء! اتضح أنها ليست عادية أبدًا!”

تلبّد وجه جاستن وعيناه تظلمان كسحب الخريف الثقيلة وهو يضغط على قبضتيه بغيظ حتى كاد أن يسحقهما ولفظ أمرًا كصدى مرعب:

– “اتبعها!”

جميع الفصول من هنا

رواية عودة الوريثة القوية_عودة الوريثة الضائعة الفصل التاسع 9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top