الفصل 107
انتظرت مارينا لبعض الوقت، دقائق بدت وكأنها دهر، ترقب خلالها أن يردّ الطفل، أن يبوح بكلمة، أن يمدّ لها يدًا أو حتى ينظر بعينيه إليها. لكن الصمت كان سيد الموقف، صمت ثقيل، مطبق، يكاد يُخنق النفس. لم تجد في نظرات كونور الصغيرة سوى برودٍ قاتل، وملامح جامدة تخلو من أي امتنان، من أي شعور… شعور يفترض أن يكون تجاه من ربّته وكبرته.
ففجّرت غضبها فجأة، كأن نيرانًا متأججة كانت تحترق في صدرها منذ زمن، وقالت بصوت متكسّر من الألم والغضب:
“يا لك من طفل جاحد! أنت لا تستحق كل ما فعلته من أجلك! أنا من حملتك في رحمي، أنا من سهرت الليالي على بكائك، من أرضعتك وربيتك، من ضحّت بكل شيء لتراك تكبر أمام عينيها… ومع ذلك، لا تملك حتى الشجاعة لتناديني بكلمة أمي؟! تنطقها بسهولة لتلك الغريبة… تلك التي لم تعطِك شيئًا سوى لحظات قليلة، وتمنحها ما حرمتني منه؟”
كانت خطواتها تتقدم نحوه ببطء، وكل خطوة تحمل معها ثقل مشاعر مكبوتة، وجهها مشوّه بالغضب، وعيونها تشتعل بنيران الحنق والقهر.
“لماذا يا الله؟ لماذا أنجبتُ أحمقًا كهذا؟ لا فائدة منك سوى ملامح وجهك! حتى ملامحك… ليست لك، بل هي صورة مستنسخة من أبيك!”
ثم وبلا سابق إنذار، قلبته بعنف، يديها تمسك به كأنها تستعد لأن تنهال عليه ضربًا، وكأن كبح مشاعرها قد انفلت من عقاله.
وانفجر الطفل في بكاءٍ مرير، بكى بحرقة من صدر صغير لم يعد يحتمل. لم يكن يدري ما الذنب الذي اقترفه، ولمَ يعامل بهذه القسوة، ولماذا لم تعد “أمه” تحبه.
في اللحظة ذاتها، دخلت مينا المكان وهي تلهث، كأنها شعرت بالخطر يهدد كونور. توقفت مارينا فورًا عن فعلتها، تجمّدت لحظة وهي ترى الخادمة التي عاشت مع الطفل عامًا كاملًا تنظر إليها برعب وذهول.
وبدون رحمة، رمت مارينا كونور نحوها كما يُرمى شيء لا قيمة له، وقالت بصوت متحجر، ينذر بالخطر:
“أنتِ دائمًا سريعة التدخل، أليس كذلك؟ لكن اسمعيني جيدًا… إن تجرّأ أحد وفتح فمه بما حصل اليوم، فإن هذا الطفل سيُطرد من هذا المنزل غدًا. ولن يهمني ما سيحدث له في الخارج. افهمي هذا جيدًا.”
رغم أن الجميع يعلم أن كونور لم يكن الابن البيولوجي لإيثان، إلا أن وجهه يحمل من ملامحه ما يكفي ليجعل أي أحد يظنه كذلك. ولعل ذلك هو ما زاد من تعلق إيثان به، وما جعله يحبّه وكأنه قطعة من قلبه، شيء من روحه، تعويض عن وجع الفقد، عن خسارته التي لم تندمل.
ومارينا؟ مارينا لم تكن غبية. كانت تدرك تمامًا هذه الحقيقة، وتعلم أن الطفل هو طوق نجاتها الوحيد لتبقى “السيدة ميلر”، لتحتفظ بمكانتها في حياة إيثان. فقدان رضا إيثان عنها ليس خيارًا. لا يمكنها المخاطرة بخسارته.
انسحبت من الغرفة، وتركت خلفها صمتًا أثقل من أي كلمات. نظرت مينا إلى الطفل، الذي كان لا يزال ينتحب بصوت خافت، وعيناها تغرورقان بالدموع، خاصة عندما رأت آثار الضرب الحمراء على مؤخرته الصغيرة.
عام كامل قضته بجانبه، أطعمته، ضحكت له، شاركته لحظات مرضه ولهوه، وأحبته كأنه طفلها. بات عزيزًا على قلبها، أكثر مما توقعت. فكّرت بذهول وهي تردد في أعماقها:
“كيف يمكن لإنسانة أن تفعل هذا بطفل؟ كيف يمكن لأم أن تتحول إلى جلاد؟ حتى أوليفيا، رغم كل ما قيل عنها، رغم كل ما فيها من عيوب… تبقى أفضل منها. أوليفيا تفوقها إنسانية، بعشرات المرات.”
كادت أن تسرع وتخبر إيثان بكل شيء… لكنها ترددت. ربما كانت تلك لحظة غضب. ربما كانت قسوة مؤقتة. ربما مجرد توبيخ قاسٍ من أم لابنها. مارينا لم تترك جرحًا دامغًا، لكنه جرح عميق، جرح لا يُرى… لكنه يُحس. جرح في روح طفل.
قررت مينا أن تُخفي ما رأته، واحتضنت كونور بقوة، وهمست له بكلمات هادئة، لا يعلم معناها، لكن دفئها بلسم قلبه المرتجف.
في تلك الأثناء، وعلى طريق الميناء الضبابي في “سي كريست”، كان برنت جالسًا داخل سيارته، يتابع تسجيلات كاميرات المراقبة الخاصة بمنزل كولينجتون.
الكاميرات الخفية رصدت الكثير… أكثر مما توقع.
وعندما وصل إلى مقطع مارينا وهي تصب البيض النيء فوق رأس أوليفيا، قبض إيثان على قبضته بشدة حتى بياض مفاصله ظهر. غير أن ملامحه تغيّرت للحظة حين رأى كيف تمسكت أوليفيا بكبريائها، ولم ترد الإهانة بمثلها، بل اكتفت بالصمت، كأنها تحاول ألا تنهار.
لكن ما حدث بعد ذلك… كان صادمًا.
كونور… سقط من أعلى الدرج. وسقط قلب إيثان معه. لم تفكر مارينا لحظة في إنقاذه، بل واصلت هجومها على أوليفيا بكلمات جارحة، كأن الطفل لا يعني لها شيئًا.
لو لم تسرع أوليفيا لحمايته، لو لم تتدحرج معه على الدرج لتحميه بجسدها، لربما حدث ما لا يُحمد عقباه.
قال برنت بدهشة وهو يعيد المشهد:
“لو رأى أي شخص هذا التسجيل… لاعتقد أن الآنسة فوردهام هي والدة الطفل. تلك المرأة… تلك الأخرى التي يسمونها مارينا؟ لا مبالية، متحجرة، لا رحمة في قلبها. هل هذه هي المرأة التي تفكر بالارتباط بها، سيد ميلر؟”
صحيح أن الكاميرات لم تكن داخل الغرف، لكنها التقطت ما يكفي لتكشف الوجه الحقيقي لمارينا.
لم تكن يومًا أمًّا، ولا حتى إنسانة عطوفة. اليوم فقط، اليوم تحديدًا، أثبتت أنها أنانية، باردة، فارغة من كل مشاعر الأمومة.
تنهد إيثان، وأراح جسده على المقعد، كأنه يحمل جبلًا على صدره. تمتم بصوت خافت:
“أنا مدين لها… ولا أملك رفاهية الاختيار.”
برنت لم يكن يعلم كامل تفاصيل الماضي بين إيثان ومارينا، لكن شيئًا في عينيه قال إنه يودّ أن يعرف… أكثر.
فاجأه إيثان وهو يقول بنبرة حاسمة:
“سلّم منزل فوردهام لأوليفيا. كل الإجراءات تتولاها بنفسك.”
“كما تأمر، سيدي.”
أغمض إيثان عينيه، وبدأت تلك المشاهد تتقافز أمامه من جديد.
أوليفيا، بثيابها المتسخة، وهي تحتضن كونور وتحميه بجسدها من السقوط… ذلك المشهد، تلك اللحظة، لن تُمحى أبدًا من ذاكرته.
قال برنت بعد لحظة صمت، بصوت منخفض:
“السيدة فوردهام… حين غادرت المنزل، كانت على وشك الانهيار. أنت قلت إنها مريضة… وأظن أنها حقًا كذلك. ليست مريضة جسديًا… بل مجروحة من الداخل.”
أغمض إيثان عينيه مرة أخرى، ثم فتحهما بهدوء وهو يهمس بجفاف:
“أخبر عائلة كارلتون أن حفل الخطوبة… قد تم تأجيله.”
رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 108 رواية حتى بعد الموت