رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 113
الفصل 113
نجا جيف من حاډث السيارة، خرج منه بجراحٍ طفيفة، لكن ذلك لم يكن كافيًا ليردع إيثان. لم يفوّت الفرصة ليستفزه، وكأن بداخله وحشًا صغيرًا لا يهدأ، متعطشًا لرؤية الضعف في عيون جيف. كانت نبرته لاذعة، وتعليقاته تمسّ أعمق الچروح، وكأن هدفه لم يكن مجرد الاڼتقام، بل الإذلال التام. لم يكن إيثان فقط يهاجم، بل كان يختبر مدى هشاشة خصمه.
لكن النتيجة فاقت توقعات الجميع… فجأة، سقط جيف أرضًا بنوبة قلبية حادة، قبض صدره بشدة وارتجف جسده قبل أن يغيب تمامًا عن الوعي. لم يُصدر صوتًا، فقط ارتطم بالأرض كدمية خالية من الحياة. ووسط صدمة الحاضرين، تم نقله إلى المستشفى، حيث دخل في غيبوبة طويلة لا أحد يعلم متى أو إن كانت ستنتهي.
من بعيد، كانت أوليفيا تراقب. يداها مشدودتان إلى جانبيها، ووجهها محمر بالڠضب، والعروق تنبض تحت جلدها. كانت عيناها كجمرتين متقدتين، والاستياء يشتعل فيهما بلا رحمة. شعرت بالعجز، بالاختناق، وكأن الهواء نفسه بات ثقيلاً.
لقد تأخر الوقت. لم يكن هناك مجال للندم. لذا رافقتها كيلفن إلى المطار، في صمت مشحون. وهناك، جلست وحدها، تتناول وجبة بسيطة بلا طعم، بلا لون. كانت تضع اللقمة في فمها وتبلعها بلا تفكير. لم تكن جائعة، بل كانت تمضغ الذكريات. ذكريات الخسارة، والخذلان، والحړب التي لم تنتهِ بعد.
في تلك اللحظة، لم يعد يهمها إن كان جيف سيستفيق أو لا. كل ما كانت تعرفه، أنها لن تترك إيثان ومن هم على شاكلته ينعمون بالراحة. لن تمنحهم الهدوء الذي يسعون إليه. قلبها ما دام ينبض، فلن يتوقّف عن المطاردة.
لن تسامح.
لن تنسى.
ولن تسمح لهم بالعيش في سلام.
وفي أعماقها، كانت تعلم… أنها لن تعيش طويلًا. شعور غريب يسكنها، كأن جسدها يعدّ العد التنازلي لنهايته. لكنها لم تكن خائڤة. لم تكن النهاية ترعبها، بل على العكس… كانت مستعدة تمامًا لأن تأخذ معها بعضًا من القلوب التي أدمتها، أن تجرّهم إلى القاع معها دون رحمة.
جلست في صالة الانتظار، تحدّق في جدول الرحلات، وعيناها تتابعان شاشات الهبوط بدقة مريبة. قبل خمس دقائق من وصول الطائرة، نهضت وغادرت الغرفة بخطى ثابتة.
الطقس في “ألدينفين” كان غريبًا… مشمسًا ومستقرًا بشكل غير معتاد، وكأن السماء نفسها قررت ألا تعكر المشهد المنتظر. وصلت الطائرة في موعدها بالضبط.
ومن ممر الشخصيات المهمة، خرج إيثان.
كانت أوليفيا على وشك التوجه إليه، لكنها توقّفت في مكانها عندما وقعت عيناها على الرجل الذي يسير بجانبه. كريس.
لم تره سوى مرة واحدة، لكنها لم تنسَ وجهه أبدًا. طُبع في ذاكرتها كما تُطبع الندبة على الجلد، بارزة، لا تُمحى.
ذلك الرجل… هو من جاء يومًا إلى منزلهم، إلى فوردهام، ليأخذ كلوي معها دون رجعة. الرجل الوحيد الذي لم تستطع كلوي أن تتخلّص منه أبدًا، مهما حاولت. لم يكن سيئًا في ذاته، لكنه كان قويًا. قويًا بما يكفي ليجعل امرأة مثل كلوي تتخلى عن كل شيء… وتذهب معه دون أن تنظر خلفها.
كان كريس يسير جنبًا إلى جنب مع إيثان، وكأن بينهما صمتًا يفهمه الاثنان، تفاهمًا غامضًا لا يحتاج إلى كلمات.
من حيث المظهر، لم يكن كريس يقل وسامة عن جيف، لكنه يختلف عنه تمامًا في الهالة. جيف كان ناعم الحضور، يشبه النسيم البارد، هادئًا ومهذبًا. أما كريس… فكان كما لو أن ظلامًا يحيط به، ثقيلًا، قاتمًا، يكتم الأنفاس.
نظراته كانت كالسكا.كين، حادة، لا تلمس لكنها ټجرح. استقرّت عيناه على أوليفيا، وشعرت برجفة تسري في جسدها. بردٌ غريب مرّ على جلدها، وكأن يدًا خفية مرّت عليها لتُذكّرها أنها ليست بأمان.
شعرت كأن وحشًا يراقبها… يقيسها بعينيه، يقوّمها دون أن يتكلم.
لقد كانت فتاة صغيرة حين رآها آخر مرة، لكنها تساءلت في أعماقها… هل سيتعرّف عليها؟ هل يعرف أنها ابنته؟ هل يشكّ حتى؟
وقبل أن تجد إجابة، توقف كريس أمامها مباشرة، دون مقدمات.
“الآنسة فوردهام؟ هل تنتظرين أحدًا؟” قالها بنبرة محايدة، باردة، لكنها تحمل شيئًا لا يُقال.
تجمدت. لوهلة شعرت أنها غير قادرة على الحركة أو الرد. لم تكن تعرف كيف تواجهه، ولا كيف تنظر في عينيه. كانت تعرف أن الضغائن تنتمي لأجيالٍ مضت، لكن قلبها لم ينسَ أبدًا أن هذا الرجل… أخذ منها أمها. بكل بساطة.
“نعم”، تمتمت بصوت خاڤت، وهي تحوّل نظرها إلى إيثان، وكأنها تستنجد بصمته.
ربما شعر كريس بشيء، فحاول أن يكون أقل حدة. قال بصوت بدا أكثر ليونة:
“والدتك كانت تذكرك كثيرًا خلال السنوات الماضية… الآن وقد عدنا، يمكنك زيارتنا متى شئت. ستكون سعيدة برؤيتك.”
ردّت بإيماءة سريعة فقط. لم تستطع أن تقول أي شيء إضافي. كل كلمة تخرج من فمه كانت كالسكاكين، توجعها أكثر مما يمكن احتماله.
نظرت مجددًا إلى إيثان. كان مختلفًا. بدا شاحبًا، منهكًا، وكأن النوم هجره منذ أيام. عيونه غارقة تحت هالات داكنة، ملامحه متصلّبة كأنها تمثال.
كريس… هو والد زوجته الآن. فكرة واحدة مزقت عقل أوليفيا: كيف لرجل أن يقف بهذا الثبات أمام حبيبته السابقة، بينما زوجته الجديدة هي ابنة الرجل الذي كان عدو طفولتها؟!
لكنها التزمت الصمت. أرادت أن ترى ماذا سيفعل إيثان.
وفعل.
فعل ما لم تكن تتوقعه… ما أكّد لها أن الوعود كانت مجرد كلمات عابرة. نظر إليها لثوانٍ فقط… ثم دار وجهه عنها، وكأنها لم تكن. كأنها مجرد غريبة مرت في طريقه.
كريس ودّعها بابتسامة صغيرة مجاملة. أما إيثان… فمرّ بجانبها بصمتٍ بارد، لا أثر لانفعال، لا كلمة، لا تردد.
لفحها الهواء البارد، ارتطم بخدها كصڤعة أيقظتها من وهم جميل. فهمت. إيثان لا يريد لكريس أن يعرف. لا عن ماضيه معها، ولا عن حقيقة مشاعره، ولا عن ما كان.
غادرا معًا. بينما سلكت هي طريقًا مختلفًا، وحيدة، كأنها لم تكن طرفًا في القصة أصلًا.
وما إن فتحت باب السيارة لتدخل، حتى فوجئت بذراعين تلفانها بعناقٍ مباغت، عناق حمل كل ما فقدته في لحظة واحدة…
رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 114 رواية حتى بعد الموت