الفصل 15
التقت نظراتها بنظراته العميقة، تلك النظرات التي لا تزال قادرة على سلبها اتزانها. انعكس ضوء خاڤت على ملامحه، ليُضيء نصف وجهه بينما غرق النصف الآخر في الظلال، في مشهد بدا كأنه لوحة مرسومة بدقة، لكن تحتها صراع لا يُطاق.
وكأن ملامحه تُجسّد صراعه الداخلي. رجلٌ قادر على أن يكون الملاك الذي يُنقذك من أعماق الچحيم… لكنه في اللحظة التالية، قد يتحوّل إلى الشيطان الذي يُلقي بكَ فيها دون رحمة.
كانت أوليفيا تعلم أن إيثان معقّد، بل شديد التعقيد. لكن الليلة، كانت مشاعرها تسبح في منطقة رمادية لا اسم لها. لم تكن واثقة من أنه سيوافق على طلبها، لا سيما في يومٍ مثل هذا… عيد ميلاد طفله الأول، الطفل الذي أنجبه من امرأةٍ أخرى، ليس منها.
حفل الخطوبة الذي كان مُنتظرًا تم تأجيله، لكنها لم تكن السعيدة بذلك التأجيل. مارينا، تلك المرأة التي لا تفوّت فرصة لتأكيد سيطرتها، لم تنتظر طويلًا. سارعت بإقامة حفل عيد الميلاد، كأنها تُعلن من خلاله انتصارها النهائي، وتُكرّس مكانتها الجديدة في حياته.
الدعوات أُرسلت قبل أسابيع، وبدقة. وُجّهت إلى كل من يملك مالًا أو تأثيرًا. أرادت مارينا أن تقول للجميع دون استثناء: “أنا الآن قلب رجل آل ميلر.”
وكان من الواضح للجميع، حتى دون كلام، أن أوليفيا ـ الزوجة السابقة ـ لن تكون موضع ترحيب في هذا العالم الجديد.
ورغم كل تلك الدلالات، فإن الصمت الذي التزمه إيثان كان أقسى عليها من أي إهانة صريحة. لم ينبس ببنت شفة، لكن صمته كان حادًا، متعجرفًا، زاد توترها حدّ الاختناق. يداها ارتجفتا دون أن تلاحظ، حتى أن العرق بدأ يتسلّل من بين قبضتيها المشدودتين.
وفجأة، رفع عينيه إليها وقال، بصوتٍ هادئ، كأنه يُعلن حكمًا لا رجعة فيه:
“حسنًا.”
كلمة واحدة فقط، لكنها كانت كفيلة بأن تُسقط عن جسدها كل الثقل الذي كانت تحمله. شعرت كأنها كانت تحبس أنفاسها منذ دهور، وبتلك الكلمة، ارتخت أخيرًا، لكنها لم تسمح لنفسها أن تُظهر مشاعرها.
لقد تعلّمت الدرس. معه، كل شيء يجب أن يبقى خلف جدارٍ سميك من الصمت. لأنه ببساطة، كان بارعًا في قراءة النوايا من نظرات العيون، لا الكلمات.
وصلت السيارة إلى منزل آل ميلر بسرعة كأنها كانت تسابق الزمن. أو ربما كانت تسابق دقات قلب أوليفيا التي ارتفعت بلا إنذار.
كيلفن، الخادم الوفي، فتح الباب على الفور. لم يكن هناك ثلج، لكن الرياح العاتية كادت أن تقتلع أنفاسها. كل خلية في جسدها كانت ترتعش، ليس فقط من البرد، بل من الترقب والخۏف والقلق.
هذه المرة، لم يتقدّمها إيثان كعادته. انتظرها، على بُعد خطوات قليلة، ولم يُكمل سيره إلا حين تأكّد أنها نزلت من السيارة.
تابعته أوليفيا بخطوات متزنة ظاهريًا، مضطربة داخليًا. لم يكن في منزل آل ميلر ذكرى تُسعدها، بل كان مليئًا بالأشباح التي تُطاردها، لكنها لم تعد تملك رفاهية التراجع. كانت خطتها القادمة تتطلب وجودها هنا، حتى ولو كان الثمن هو قلبها نفسه.
انفتح باب الطابق الثاني أمامها، تبعته بتردد، لكن في اللحظة التالية… لم تجد نفسها سوى محاصرة بين جسده القوي والحائط البارد خلفها.
“إيـث—…” همست باسمه، لكنها لم تكمل، فقد أسكتها بقبلة خاطفة، عڼيفة، كأنها نداء من چرح قديم لم يُشفَ بعد.
كان كمن يفرغ سنوات من القهر فيها، بحركة فوضوية جامحة، كإعصار يُريد أن يبتلعها دفعة واحدة.
لم تفهم لماذا عاد إليها بتلك السرعة. ألم يكن يراها “عظمية”؟ ألم يقل إنها أصبحت بالنسبة له مجرد عدو لا أكثر؟ لماذا إذًا؟ لماذا يتصرّف كمن لا يحتمل فكرة خسارتها؟
مد يده إلى سحاب سترتها وفتحه پعنف. رغم أنها كانت ترتدي سترة أخرى تحتها، شعرت بأنها مكشوفة بالكامل. كأن طبقات الملابس كلها قد اختفت فجأة، وتركتها عاړية أمامه… وعاړية أمام نفسها.
حاولت دفعه، استجمعت ما تبقّى من قوتها، وضعت يديها على صدره المرتفع وهمست بأنفاسٍ متقطعة:
“أعلم أنك مستعجل… لكن أرجوك، تمهّل، سيد ميلر.”
خرج صوته من الظلام، أعمق من أي وقت مضى، مُحمّلًا بما لا يمكن تفسيره:
“أنا صبور جدًا الليلة، يا أوليفيا.”
لكن صبره كان خطيرًا. صبر الذئب الذي يراقب فريسته بابتسامة مطمئنة قبل أن يُنقضّ عليها.
ابتلعت ريقها، وحاولت تجميع أفكارها، ثم تمتمت:
“دعني أستحم أولًا… كنتُ في المستشفى طوال اليوم، ولا أشعر أنني…”
قاطعها فورًا، بنبرة لا تحتمل أي نقاش:
“لا أمانع.”
لم تُصدّقه. بل كانت متأكدة تمامًا أن ما يدور في رأسه لا يمت للبراءة بصلة.
تراجعت خطوة، ثم همست وهي تُخفي ارتباكها:
“فقط… لحظة، أحتاج بعض الوقت.”
هرعت إلى الحمام كمن يهرب من شركٍ وُضع بإحكام. وما إن حاولت إغلاق الباب، حتى علقت قدمه عند الحافة. تسلل جسده الضخم بسهولة، ووجد نفسه داخل الحمام معها، وكأنه كان يُخطط لذلك منذ البداية.
قالها بلا تردّد، كمن يُعلن نية لا رجعة فيها:
“دعينا نستحم سويًا.”
خلع سترته بلا مبالاة، كاشفًا عن قميصه الأبيض، ثم بدأ يفك أزراره واحدًا تلو الآخر. ومع كل زر، كان يتلاشى شيء من رباطة جأشه، لتحلّ محلها نظرة حيوانية مفترسة.
ثبت عينيه الداكنتين على وجهها، وهمس بنبرة تنبش في روحها:
“من تعبيرك، أعتقد أن لديكِ شيئًا تُريدين قوله لي؟”
تلعثمت أوليفيا، بحثت في عقلها عن أي كلمة تُنقذها، لكن كل الكلمات خانتها.
“كيف لي أن…؟”
لم تكتمل جملتها. فقد سحبها إلى ذراعيه فجأة، ووجدت جسدها يتهاوى بين ذراعيه، لا تملك سوى أن تتشبث بقميصه المرتخي.
ضمھا من خصرها، بشدة، كأنه يُريد أن يمنع العالم من سحبها بعيدًا عنه، أو ربما يُريد أن يمنعها من الفرار.
رغم كل ذلك، حاولت الرجوع. تراجعت قليلًا، لكن يده كانت أسرع، وقوته كانت أعظم. دفعها بلطف قاسٍ نحو حوض الاستحمام، وكأن الماء سيُطهّر كل ما بينهما… أو ربما يُشعل نارًا جديدة.
رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 116 حتى بعد الموت