الفصل 274
وقفت مارينا في مواجهة الكاميرا، وكأن المصوّر قد خطط بعناية لالتقاط تلك اللحظة التي تجمعها بأوليفيا في إطار واحد، وكأنها مواجهة صامتة أمام ملايين العيون. العدسة أخذت تتقدم تدريجيًا، تقرّب المشهد حتى أصبحت ملامحهما واضحة لكل من يشاهد، لا مجال لإخفاء الارتباك أو الانكسار.
أشعة الشمس كانت تتسلل بخبث من بين الغيوم، لتنعكس على الماسات المرصّعة في فستان مارينا الفاخر. الضوء المتلألئ رسم حولها هالة براقة، لكن هذا البريق لم يفلح في إخفاء التعب والانكسار اللذين غزيا ملامحها. العصابة السوداء التي تغطي عينيها كانت ثقيلة بالدموع، كما لو أن القماش امتص حزنها بالكامل. أما المكياج الذي استغرق ساعات من العمل المتقن، فقد انزلق على وجنتيها في خطوط مشوهة باهتة، أشبه بآثار معركة خاسرة. لم تعد تبالي كيف تبدو أمام الكاميرات، أو إن كانت صورتها ستُخلّد بهذا الشكل؛ فكل ما يشغلها الآن هو أن تبقى على قيد الحياة ولو دقيقة إضافية.
في الجهة المقابلة، كانت أوليفيا نقيضها تمامًا. ثابتة كجدار حجري في وجه العاصفة، معظم ملامحها مخفية تحت ظل، شفتيها مطبقتان بقوة، ولم يخرج منهما أي صوت منذ بداية المشهد. البعض من الحاضرين ظنّ أنها فقدت الوعي، بينما لاحظ آخرون قطرات العرق التي كانت تتصبب من جبينها بإصرار، وهو أمر غريب لأنها لم تذرف دمعة واحدة. كانت بشرتها شاحبة لدرجة أن حتى لون شفتيها اختفى، كما لو أن الحياة قد بدأت تنسحب منها بهدوء. نظراتها كانت غامضة، خالية من أي رد فعل، كأنها تعيش خارج الزمن وخارج الحدث.
الهمسات بدأت تتعالى في الخلفية، تتقاذفها الألسن كما تتقاذف الرياح أوراق الخريف:
– “أليست هادئة أكثر من اللازم؟”
– “هذا موقف حياة أو مۏت… لماذا لا تصرخ طلبًا للنجدة؟”
– “ربما تعرف أن فرصها معډومة… فاختارت الصمت بدلًا من التوسل.”
وبينما كانت تلك النظريات تتطاير في الهواء، قررت أوليفيا أخيرًا أن ټحطم جدار الصمت. صوتها جاء واهنًا، لكنه حمل نبرة حادة كسکين يشق الظلام:
– “أمي… أريد أن أعرف من ستختارين بيننا.”
لم تستخدم هذه المرة لقب “السيدة كارلتون” كما كانت تفعل في الماضي، بل نطقت كلمة “أمي” مباشرة، كما لو أنها تقرع بابًا قديمًا صدئًا في قلبها.
تابعت بصوت منخفض، لكن كل كلمة كانت تنغرس كشوكة:
– “لا ألومكِ على إهمالكِ لي منذ طفولتي، ولا على رحيلكِ المفاجئ. أبي قال إنكِ لم تكوني سعيدة معه… وأنكِ لم تتركينا كرهاً، بل ذهبتِ تبحثين عن سعادتكِ. لكنكِ قطعتِ كل صلة بنا، وتركتِني وحيدة أواجه العالم. سقطتُ على الأرض مرارًا، والناس يرمونني بأقسى الكلمات… يقولون إنني لقيطة، وإنني وصمة. ومع ذلك… لم ألومكِ قط.”
ارتعشت أنفاسها وهي تبتسم ابتسامة واهنة، ابتسامة تشبه جرحًا ينفتح ببطء، ثم قالت:
– “أنا لا أخاف المۏت. لكن قبل أن أرحل… أريد أن أعرف إن كانت الأم التي انتظرتها أكثر من عشر سنوات قد أحبّتني يومًا… ولو مرة واحدة فقط.”
كل الأنظار تحولت إلى كلوي، وكأن الهواء نفسه تجمّد في تلك اللحظة. كانت العيون تترقب، تفتش ملامحها عن أي إشارة، عن أي ردّ، عن أي خيط من الحنان المفقود.
لكن الصمت انكسر فجأة بصوت مارينا، وهي تصرخ بصوت مرتعش:
– “أمي! وعدتِ أنكِ ستحمينني! قلتِ إنكِ ستعاملينني كابنتكِ، حتى لو لم نكن أقارب!”
أما أوليفيا، فكانت قد تجاوزت نقطة الاهتمام بمصيرها. السړطان كان ينهش جسدها بصمت قاټل، وهي تدرك أن ساعة النهاية تقترب. كل ما أرادته لم يكن النجاة، بل أن ترى في وجه تلك المرأة نظرة أم حقيقية، نظرة دفء، قبل أن تُغلق عينيها للمرة الأخيرة.
كانت كطفلة ضائعة وسط عاصفة ثلجية، تتشبث بالحياة فقط لتسمع صوت أمها وهي تقول: “أنتِ ابنتي.” كانت تريد أن تثبت للعالم – وربما لنفسها – أن لها أمًّا، وأن هذه الأم هي أرق وأدفأ إنسانة في حياتها.
رفعت رأسها أخيرًا، والدموع تلمع في عينيها، وقالت بنبرة تختلط فيها الرجاء باليأس:
– “أمي… ستختاريني، أليس كذلك؟”