الفصل 280
شعرت أوليفيا بتلك النية القاټلة تخترق الهواء من حولها، كأنها سکين بارد يلامس عنقها. لم يكن إحساسًا عابرًا، بل يقينًا حادًا بأن حياتها باتت على المحك. كانت عيناها تراقبان كل ظلّ وكل حركة، وسمعها يلتقط حتى أضعف الهمسات في الأجواء الموحشة. كانت يقظة إلى أقصى حد، تعرف أن الخطأ ولو لثانية واحدة قد يكون آخر ما ترتكبه في حياتها.
أدركت أن عليها الاختباء… والاختباء جيدًا. كان القارب الذي عثرت عليه يبدو متهالكًا، خشبه متآكل ومسماره صدئ، لكن حجمه الكبير نسبيًا كان يمنحها فرصة للاختفاء في إحدى زواياه المظلمة. لم يكن مكانًا مثاليًا، لكنه كل ما تملكه الآن.
كانت متأكدة أن مطارديها لن يأتوا إلى هنا بأعداد كبيرة؛ فالمكان مهجور، لا يجرؤ كثيرون على الاقتراب منه، وربما ظنوا أن البحث فيه مضيعة للوقت. تسللت بخفة إلى الكابينة الداخلية للقارب، وكل خطوة كانت محسوبة حتى لا تُصدر صوتًا.
كان القارب مغمورًا جزئيًا بالماء، ورائحة العفن والرطوبة تملأ المكان. الماء المتسخ يطفو فيه بقايا غير واضحة المعالم، مزيج من الحطام والقمامة وربما ما هو أسوأ. شعرت أوليفيا بالغثيان، لكنها لم تسمح لنفسها بالتراجع. لم يكن هناك من ينقذها هذه المرة، ولا خطط احتياطية. إما أن تعتمد على نفسها أو ټموت.
زحفت ببطء نحو زاوية غارقة في الماء ذي الرائحة الكريهة، تحاول إخفاء جسدها قدر المستطاع. لكن الوقت لم يكن في صالحها؛ فقد بدأت تسمع وقع خطوات يقترب على سطح القارب، خطوات ثقيلة، متتابعة، تتردد في أرجاء المكان كنبضات قلبها المتسارعة.
حبست أنفاسها، وضغطت بيدها على أنفها قبل أن تغمر جسدها في الماء. كان الظلام والعكارة حولها حليفين، فهنا في النقطة العمياء لن يراها أحد إلا إذا غاص بنفسه في هذه المياه الكريهة.
لكن الخطړ كان يقترب… أكثر فأكثر.
فجأة، اخترق الظلام شعاع مصباح قوي، يضرب سطح الماء پعنف. ارتجفت أوليفيا، لكن الطين والعكارة أخفيا ملامحها. ومع الضوء، لاحظت شيئًا جعل الډم يتجمد في عروقها… چثة طافية على مسافة قصيرة منها.
كانت الچثة لامرأة، شعرها الطويل يتماوج ببطء في الماء وكأنه يرقص على لحن المۏت. آخر مرة اقتربت فيها أوليفيا من چثة كانت يوم رأت چثة بيل، وصورة ذلك المشهد لا تزال محفورة في ذاكرتها.
هذه الچثة لم تكن في حال أفضل… نصف وجهها مفقود، والأسماك التهمت لحمها بلا رحمة. ووسط الظلام، خرجت سمكة صغيرة من تجويف عينها الفارغ، تسبح باتجاه يد أوليفيا. شعرت برغبة في الصړاخ، لكن غريزة البقاء كبحتها.
كان المكان مثاليًا للتخلص من الچثث… معزول، قذر، لا يأتي إليه أحد. ربما لهذا السبب لم تلحظ الچثة فور دخولها. والآن… صارت هي والمېتة شريكتين في هذا القپر المائي.
وفجأة، دوى صوت رايان:
– “لقد وجدت شيئًا!”
شدّت أوليفيا على كمّها بقوة، حتى شعرت بأظافرها تخترق جلدها. قبضت على سکينها، وجهزت نفسها للقتال حتى المۏت. إذا اقترب منها رايان، فلن تتردد في غرس النصل في جسده.
سمعت صوت جينيفر تقول ببرود:
– “انظر… ألا يبدو هذا كشخص؟ ربما تكون أوليفيا.”
ثم صوت حركة معدنية، وصرير عمود يُسحب عبر الماء. قالت جينيفر:
– “سنعرف بمجرد أن نسحبه.”
لامس العمود الچثة، فارتجفت أوليفيا كأن البرودة اخترقت عظامها. صعدت الچثة ببطء إلى السطح، وبدا وجهها الممزق في ضوء المصباح أكثر رعبًا.
قال رايان باستخفاف:
– “يا للأسف… مجرد چثة أخرى. المكان قذر جدًا، لا أعتقد أن أميرة مدللة مثل أوليفيا ستختبئ هنا. هيا بنا.”
بدأ وقع الأقدام يبتعد، حتى غاب تمامًا في الأفق. عندها فقط خرجت أوليفيا من الماء، وهي تلهث پجنون، تحاول ابتلاع أكبر قدر من الهواء النظيف – أو على الأقل، الأقل تلوثًا من رائحة الچثث.
لم تهتم برائحة المۏت التي التصقت بجسدها، فالأهم أنها لا تزال حية. حتى مع الخۏف الذي كان يعصف بها، ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة… لقد نجت. وطالما أنها على قيد الحياة، فإن وقت الاڼتقام سيأتي، مهما طال الانتظار.
شعرت بوخز في معدتها، لكن الألم تراجع قليلًا أمام قوة إرادتها. أخرجت ساعة الهاتف التي أهدتها لها كلوي. لم تتوقع أن الشيء الذي احتفظت به فقط بدافع الحنين سيكون الآن سببًا في منحها بعض الأمل؛ فالساعة لا تزال تعمل.
نظرت مرة أخرى إلى الچثة التي كانت بجوارها منذ لحظات، وتساءلت: هل يعرف أحد أن هذه المرأة ماټت؟ هل هناك من ينتظرها في مكان ما دون أن يعلم أنها غارقة هنا في صمت؟
لم يكن لديها وقت لتجد إجابة… فالمطاردة لم تنتهِ بعد.