الفصل 303 –انحنى كولن بسرعة وهو يمد يده لالتقاط الكرة الحمراء الصغيرة التي انزلقت خلسة من جيبه وسقطت على الأرضية الرخامية، غير أنّ يده توقفت في منتصف الطريق حين لمح أصابع أخرى تمتد بخفة ورشاقة لتسبق حركته.
رفع الغريب الكرة برفق، كأنه يلتقط شيئًا أثمن من مجرد لعبة صغيرة. أدارها بين أصابعه الطويلة ببطء، وكأنه يقرأ من خلالها أسرارًا دفينة، قبل أن يرسم على شفتيه ابتسامة هادئة ذات طابع مريب.
قال بصوت عميق منخفض، نبرته تحمل دفئًا يبعث على الاطمئنان:
“إنها جميلة… كأنها تخبئ في داخلها ذاكرة لم يحن وقت كشفها بعد.”
ارتبك كولن قليلًا وهو يرفع رأسه نحو الرجل الغريب ليتأمله. كان أمامه رجل يرتدي بدلة رسمية سوداء مخططة بالأبيض، تفوح منها رائحة الرفاهية والهيبة. ومع ذلك، لم يكن مظهره هو ما لفت انتباه كولن بقدر الهالة الغامضة التي تحيط به.
لقد اعتاد كولن على هالة إيثان، العاصفة التي تقتحم المكان حيثما وُجد، تجلب معها الرعب والرهبة. أما هذا الرجل فكان نقيضًا تامًا؛ وجوده يشبه نسيمًا ربيعيًا يتسلل برفق بين الأرواح، يهدئها ويدعوها إلى الاسترخاء، حتى وإن حمل في طياته شيئًا غامضًا لا يمكن الوثوق به كليًا.
عيناه العميقتان، بريقهما الدافئ، والابتسامة التي تعلو وجهه… جميعها أيقظت في قلب كولن مشاعر لم يذقها منذ زمن بعيد، دفئًا افتقده طويلًا وسط عالمٍ قاسٍ لا يرحم. ولم يحتج إلى وقت طويل حتى تذكّر هوية الرجل.
همس في نفسه بذهول:
“برايان مور…”
أجل، لم يكن غريبًا عاديًا. إنه برايان مور، أحد أقرب أصدقاء إيثان وأكثرهم غرابة في ذات الوقت. رجل اشتهر بهوسه بالعلم والأعشاب، حتى إن عبق النباتات الطبية كان يتسرب منه مهما ارتدى من بذلات فاخرة. كان يلقب بين أقرانه بـ “العالم المجنون” الذي لا يتوقف عن التجارب، ومع ذلك ظل وفيًّا لإيثان بشكل غريب.
ابتسم كولن أخيرًا وهو يستعيد رباطة جأشه وقال بصوت هادئ:
“إنها كرة يدوية الصنع… مختلفة عن تلك المصنوعة آليًا. شكرًا لك، سيدي.”
مد برايان يده بالكرة وهو يرد بابتسامة متأنية:
“أظنها عزيزة عليك… التقطتها قبل أن تفكر حتى في مفاتيح سيارتك. أحيانًا ما يكشف ما نهمله عن أسرارنا.”
التقط كولن الكرة، ثم انحنى قليلًا وهو يلتقط أيضًا مفاتيحه التي سقطت بجوارها. رفع رأسه وقال بنبرة متماسكة:
“أجل… أعطاني إياها شخص يعني لي الكثير. عليّ أن أذهب الآن يا سيدي.”
تنحّى جانبًا مفسحًا الطريق للرجل الغريب، قبل أن يخطو مبتعدًا بخطوات سريعة كمن يحاول الفرار من عاصفة قادمة. ظل برايان يراقبه بهدوء، قبل أن يلتفت نحو مطعم “يروودز” القريب ويمضي بخطوات ثابتة.
لكن ما إن اختفى كولن عن ناظريه، حتى أخرج هاتفه الأسود اللامع من جيبه وأجرى اتصالًا سريعًا. لم تكد تمر ثوانٍ حتى دخل الخط، وجاءه صوت إيثان على الفور، غاضبًا متبرمًا:
“ماذا الآن؟ هل تحتاج شيئًا مهمًا أم جئت لتشغلني بتفاهاتك المعتادة؟”
ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه برايان، نبرته تحمل سخرية مبطنة:
“وهل أحتاج إلى سبب كي أتصل بك؟ على كل حال… أردت أن أسألك، هل عثرت على ليف بعد؟”
زمجر إيثان في الجهة الأخرى بغيظ مكتوم:
“ليس الآن يا برايان! لا وقت لدي لسخافاتك. إن لم يكن لديك شيء مهم فسأنهي المكالمة.”
لكن برايان قطع كلماته ببرود لاذع، كمن يلقي قنبلة فجأة:
“في الواقع… أنا من وجدها.”
تجمد إيثان مكانه، كلماته تخرج متقطعة محمّلة بالانفعال:
“ماذا قلت؟! أين هي؟!”
ضحك برايان بخفة، وكأنه يستمتع بإشعال النار في صدر إيثان:
“اصطدمت قبل قليل بشاب يحمل كرة حمراء مربوطة بمفاتيح سيارته. ألا تذكرك بشيء؟ تشبه تمامًا تلك التي كنت تتباهى بها أمام الجميع قبل سنوات.”
ارتفعت أنفاس إيثان المتسارعة عبر الخط:
“أين هو؟! قل لي فورًا، أين هي؟!”
لكن برايان ظل محافظًا على نبرته الهادئة اللامبالية:
“كان هنا منذ دقائق… وغادر. لكن لا تفقد أعصابك هكذا، قلبك لن يتحمل. على كل حال، التقطت صورة له. تحقق بنفسك.”
لحظات، ثم وصل ملف صورة إلى هاتف إيثان. فتحها بسرعة، وما إن وقعت عيناه على ملامح الشاب الجانبية حتى تصلب جسده بالكامل. لم يحتج إلى ثانية ليدرك الحقيقة…
إنه كولن.
شهق بحدة، والأسنان تطحن بعضها بغضب:
“إذن… أوليفيا كانت مع كولن طوال هذا الوقت!”
صوته غلّفه الغضب وهو يأمر:
“راقبه جيدًا، يا برايان. أريد منك أن توافيني بكل تفاصيل تحركاته، صغيرها قبل كبيرها.”
وبالفعل، ما هي إلا ساعات حتى كشفت التحقيقات التي أمر بها إيثان أنّ عائلة موريارتي – عائلة كولن – تمتلك وتدير شركة ضخمة للنقل البحري. هرع كيلفن، يلهث من فرط العجلة، وهو يحمل في يده أوراقًا رسمية:
“سيد ميلر! الأمر خطير للغاية. آل موريارتي تقدموا بطلب لسفينة شحن قبل أسبوع. كان مقررًا أن تغادر بعد يومين، لكنهم فجأة طلبوا إبحارًا عاجلًا الليلة! وقد تمت الموافقة بالفعل.”
تصلب وجه إيثان، قبض على سترته بعنف وهو يزمجر:
“اللعنة! اجمع الرجال حالًا… إلى الميناء فورًا!”
الغضب يغلي في عروقه، لم يتخيل يومًا أن يجرؤ كولن ليس فقط على إخفاء أوليفيا، بل على محاولة تهريبها بعيدًا عن قبضته.
وفي الجهة الأخرى من المدينة، وعلى سطح السفينة الضخمة التي كانت تستعد للإبحار في عتمة الليل، وقفت أوليفيا بجوار كولن. كان النسيم البحري يلفح وجهها بنسماته الباردة، قطرات الرذاذ المالحة تتناثر حولها، غير أن قلبها ظل مثقلًا بقلق لا تعرف مصدره.
تأملت قطعة شطرنج صغيرة بين أصابعها المرتجفة، قبل أن تهمس بصوت بالكاد يُسمع:
“هناك شيء يزعجني يا كولن… في كل مرة يراودني هذا الإحساس يحدث أمر سيئ. لا أظن أننا سنغادر بسلام هذه الليلة.”
أدار كولن وجهه نحوها، ملامحه متماسكة رغم القلق الذي حاول إخفاءه. ابتسم بثقة هادئة وهو يضع معطفه على كتفيها:
“لا تقلقي، يا أوليفيا. رتبت كل شيء بدقة متناهية، لن يحدث ما تخشينه. الجو بارد هنا… هيا، لندخل.”