رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 305

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 305 

أطبق الليل بظلامه الكثيف على البحر، وهطل المطر بغزارة حتى بدا وكأن السماء تفرغ كل ڠضبها. راحت الأمواج العاتية ټضرب بدن السفينة بلا هوادة، فاهتزت بقوة مع كل موجة، تصدر أنينًا عميقًا كوحشٍ يجرح صدره.

في المقصورة الدافئة، جلست أوليفيا وهي تشعر بالاهتزاز المتواصل للسفينة. ذلك التمايل المضطرب لم يرق لها، بل أشعل قلقًا مكتومًا في صدرها. حاولت أن تطمئن نفسها بأن الأمر طبيعي وسط عاصفة كهذه، لكنها لم تستطع تجاهل النذير الخفي الذي يتسلل إليها مع كل اهتزاز.

مع ذلك، لم تستطع إنكار أن كولن أثبت مرة أخرى دقته وحرصه. لقد سبق ورتّب كل التفاصيل بعناية، حتى غرفتها هنا على السفينة صُممت بطريقة تُحاكي غرفتها السابقة. الألوان الهادئة، الأثاث المريح، واللمسات الصغيرة التي تثير الحنين… كلها كانت شاهدة على جهده ليمنحها شعورًا بالأمان وسط هذا الخۏف.

كان “سنوبول” مستلقيًا في سريره الصغير، نائمًا بطمأنينة بريئة تُثير الغيرة. على الطاولة أمامها، رُتبت رقائق التورتيلا والبطاطس المقلية، بعض الفواكه المجففة، وزجاجة من عصير البرتقال، جميعها جُلبت خصيصًا من مطعم “يروودز”. حاولت أن تمد يدها، لكنها لم تجد شهية للأكل.

أشعلت شمعة معطرة بنفَسٍ عميق، لعل عبيرها المهدئ يخفف من توترها. شغّلت موسيقى هادئة، لكن الألحان بدت واهية أمام أصوات العاصفة بالخارج. أمسكت كتابًا من رفٍ صغير، غير أنها فقدت تركيزها بعد سطرين بالكاد. أغلقت الكتاب ونهضت متوترة، تمشي ذهابًا وإيابًا كقطة تقفز فوق طوب ساخن.

وفجأة، توقفت السفينة دفعة واحدة. اهتزت الغرفة بشدة، واتسعت عينا أوليفيا بقلق أكبر. وضعت الكتاب على الطاولة بعصبية، ثم اندفعت نحو الباب لتسأل عن الأمر.

وهناك، صادفت كولن يقف عند العتبة. ابتسم بخفة، صوته هادئ رغم الاضطراب:
“أوليفيا…”

حدقت فيه بارتباك:
“كولن، ما الذي يحدث؟ لماذا توقفت السفينة؟”

هز رأسه مطمئنًا، نبرة صوته تحمل ثقة لم تعهدها فيه من قبل:
“لا شيء يستحق كل هذا القلق. أنتِ متوترة أكثر مما ينبغي.”

رأى ملامح وجهها التي غمرها الضيق، فأضاف بنبرة أحنّ:
“إذا لم تستطيعي التوقف عن التفكير، جربي أن تستحمي قليلًا. لقد أعددت بعض الزيوت العطرية لتهدئة أعصابك. صدقيني، ستشعرين براحة أكبر.”

داعب شعرها برفق كما يفعل الأخ الأكبر، وأضاف بابتسامة مطمئنة:
“لا تقلقي… الشرطة البحرية تقوم بتفتيش روتيني. إنهم يبحثون عن بضائع ممنوعة أو مخډرات. نحن سنتعاون معهم، ثم يرحلون.”

تنفست أوليفيا بعمق، لكنها لم تقتنع تمامًا. ومع ذلك، تركت كلماته أثرًا خفيفًا في صدرها. كان لطيفًا معها إلى درجة جعلتها تنسى أحيانًا أنه أصغر منها بعام واحد فقط. بدا أكثر نضجًا وخبرة من عمره.

قالت بنبرة خاڤتة:
“كولين… أنت مجرد طالب، كيف لا تخاف؟”

ابتسم وهو يشيح بوجهه قليلًا، ثم أجاب بصراحة نادرة:
“لقد أُرسلت إلى الخارج صغيرًا. عانيت كثيرًا… ولم يكن هناك من أعتمد عليه. عرفت أنني إذا أردت النجاة، فعليّ أن أصادق كل نوع من الناس، حتى القتلة والمرتزقة. لهذا السبب لدي رجال يمكنني الوثوق بهم اليوم.”

نظرت إليه أوليفيا بعينين تملؤهما الشفقة والجدية:
“أنا آسفة… لم أكن أعرف أنك عشت كل هذا.”

ابتسم ابتسامة باهتة، يخفي خلفها وجعًا قديمًا:
“لا بأس. على الأقل والدي كان يرسل لي المال. ربما لم يكن الأمر سيئًا تمامًا.”

ثم قطع الحديث بإشارة خفيفة، كأنه لا يريد الڠرق في الماضي:
“حسنًا، دعينا من كل هذا. اجلسي، تناولي شيئًا، أو استحمي واخلدي للنوم. سنكون في أعالي البحار غدًا.”

أومأت أوليفيا، رغم أن قلبها ظل متوجسًا.

بينما هي تستعد للمغادرة، لمح كولن رسالة جديدة على هاتفه. قرأها بعينيه المتيقظتين، فعرف أن حدسه كان صحيحًا… إيثان قد وصل إلى الميناء.

أغلق كولن الهاتف ببطء، وأدار عينيه نحو أوليفيا. للحظة، أشرق الدفء في عينيه، يطغى على سحابة الهوس التي طالما غطت نظراته.
“أوليفيا… لقد وجدتكِ أخيرًا. حتى لو وقف المۏت نفسه في طريقي، فلن أدعكِ تُؤخذين مني.”

في الخارج، كانت الأوضاع تتصاعد. عدد السفن المتوقفة في المنطقة أخذ في الازدياد، والبحر امتلأ بأضواء حمراء وزرقاء، كأن مشهدًا من ح.رب على وشك الانف.جار.

بدأ الركاب والبحارة يتبادلون التوقعات:
“هل ڠرقت سفينة تابعة لدولة مجاورة؟”
“ربما نشبت ح.رب فجأة؟”

وقف بعضهم على سطح السفينة يحدقون في الأفق القاتم، بينما آثر آخرون الترقب بصمت.

لكن ما زاد قلق كولن هو العدد المتزايد من سفن الش رطة البحرية التي أخذت تطوق المنطقة. تساءل بجدية وهو يراقب الموقف:
“هل يمكن أن يكون إيثان قد وصل إلى حد استخدام الشرطة البحرية لخدمته؟”

بالنسبة لكولن، بدا أن الضباط يؤدون عملهم المعتاد، لكن أوليفيا لم تستطع خداع نفسها. ارتجفت عندما رأت البوارج المرقمة، وتذكرت المشهد القديم… كيف حاصر إيثان تلك الجزيرة برًا وبحرًا.

لو لم يكن يمتلك سلطة على هذا المستوى، لما تمكن من تحريك قوات كهذه.

اقتربت إحدى السفن البحرية الضخمة منهم، أضواؤها تخترق المطر الغزير. ازدادت شحوب ملامح أوليفيا، بينما قلبها ينبض كطبول ح.رب قادمة.

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top