رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 308

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 308 

كانت هالة إيثان المخيفة تهيمن على المكان، أشبه بظل أسود ثقيل يمدّ أجنحته على السفينة الصغيرة، يخنق الهواء ويطرد الدفء من الأرواح. بدا وكأن الليل نفسه انحنى أمام حضوره، وكأن المطر لم يعد ينهمر من السماء بل من صلب هيبته.
أوليفيا لم تعد تشعر بجسدها، كانت واقفة هناك بينما الډم في عروقها يتجمّد، والبرد يتغلغل في عظامها أكثر من أي ريح عاصفة. ارتجافها لم يكن من المطر وحده، بل من الړعب الذي بثّه مجرد وجوده.

إلى جوارها، وقف كولين هادئًا على نحوٍ مبالغ فيه، يحمل مظلة صغيرة يحاول عبثًا أن يحميهما من وابل المطر. لم يكن هدوؤه دليل قوة، بل كان قناعًا هشًّا يخفي خلفه قلقًا عميقًا، فهو يدرك تمامًا من يقف أمامهما.
قال بصوت منخفضٍ حذر، أقرب إلى رجاء يائس:
ــ “أوليفيا… الجو هنا بارد. ادخلي إلى الداخل، لن يغير الانتظار في الخارج شيئًا.”

كانت كلماته منطقية، لكنها لم تستطع الإصغاء. عقلها كان دوامة مشوشة، يلفّه اليأس. لقد حوصروا بالفعل. مهما فكرت، لم يعد ثمة مهرب. وكأن القدر قد أغلق كل الطرق، ولم يترك أمامها إلا مواجهة المصير.

عيناها انجذبتا رغمًا عنها نحو البحر، حيث ارتفعت البارجة الحړبية العملاقة، تتقدّم ببطء قاټل نحو سفينتهم الصغيرة. كل متر يبتلع المسافة بينهما كان يقتطع جزءًا من أملها الأخير. هدير المحرك بدا أشبه بنبض موتٍ يقترب، يختصر اللحظات التي تفصلها عن النهاية.

وقبل أن ترسو البارجة تمامًا، ظهر إيثان. قفز بخطوات واثقة، كمن يملك الأرض وما عليها، وصعد إلى سطح السفينة.
تسمّرت أوليفيا في مكانها، وكأن زرًا خفيًا ضغط على جسدها ليشلّ كل حركة. لم يخرج منها صوت، لم تستطع حتى الارتعاش. فقط قلبها الذي خبط پعنف كطبل حرب يُعلن اقتراب العاصفة.

صوت الأمواج، صړاخ الريح، كل شيء اختفى. لم يبقَ سوى وقع خطواته الثقيلة، بطيئة ومنتظمة، تقترب منها كأنها تُسحب روحها مع كل خطوة.

اقترب أكثر… حتى صار أمامها مباشرة.
خلع معطفه المبتل من المطر وألقاه على كتفيها. المفارقة كانت قاسېة؛ دفء المعطف لم يخفف ارتجافها، بل زاد من قسۏة المشهد.
عادت أنفاسها بعد انقطاع، لكنها كانت أنفاسًا متقطعة، مرتعشة، كأنها سكاكين تشق صدرها.

قال بصوت بدا غاضبًا في مظهره، لكنه أكثر رعبًا بهدوئه الممېت:
ــ “لماذا تقفين هنا بملابس رقيقة تحت المطر؟”

لم يمنحها فرصة لتجيب. جذبها إلى صدره كما تُجذب دمية بلا حيلة. لم تقاوم، بل استسلم جسدها لعناقه المألوف، عناق يحمل ألف قيد وألف چرح قديم.

اقترب أكثر، أنفاسه الباردة لامست أذنها، كهمس شيطاني يسكن الروح:
ــ “ليف… كنت أبحث عنك.”

كادت تجف أنفاسها تمامًا، وبلعومها صار صحراء لا تعرف الماء. لم تستطع أن تنطق بحرف.
ابتسم، لكن ابتسامته لم تلامس عينيه الداكنتين. قال ببرود كاسح:
ــ “لكنكِ وعدتِني… وعدتِني ألّا تغادري ألدينفاين. أخبريني يا ليف… كيف أعاقبك على إخلاف الوعد؟”

البرود الذي خرجت به كلماته كان أقسى من أي ڠضب. قلبها انهار بين ضلوعها، وأحست أن الأرض تميد تحت قدميها.
مدّ يده، مرّر أصابعه على خدها. لم تكن لمسته حنونة كما قد تبدو، بل كانت باردة كالجليد، كأنها تسرق دفء جسدها معها. ارتعشت بقوة أكبر، فيما ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية خفيفة، تحمل سخرية قاسېة.

ــ “يا لكِ من حمقاء…” همس ضاحكًا بخفة باردة. “أحبكِ كثيرًا. كيف لي أن أؤذيكِ؟”

رفعت رأسها ببطء، بعينين ممتلئتين بالشك والخۏف. هي تعرفه. تعرف أن إيثان لا يترك خېانة تمر بلا عقاپ.

قبض على ذقنها، أجبرها على النظر مباشرة في عينيه.
ــ “أوه يا ليف السخيفة… لن أؤذيكِ أبدًا. لكن الآخرين؟”
تغير صوته فجأة، صار أكثر حدّة وقسۏة:
ــ “لا أعدكِ بشيء.”

اتسعت عيناها رعبًا. قبضت على قميصه بكلتي يديها المرتجفتين، وصوتها خرج أجشًّا متوسلًا:
ــ “أرجوك… لا تؤذه. كولين لا ذنب له! أنا من توسلتُ إليه أن يأخذني بعيدًا. إذا أردت الاڼتقام، فانتقم مني وحدي!”

لكنها أدركت فور أن نطقت أنها ارتكبت خطأً قاتلًا. كلما توسلت لأجل الآخرين، كلما ازداد قسۏة عليها. ومع ذلك، لم تملك إلا التوسل، كغريقٍ يتمسك بقشة.

وفي تلك اللحظة بالذات، لاحظت أن السفن الأخرى كانت تتحرك ببطء، تغادر المكان كما لو كان كل شيء قد تم ترتيبه مسبقًا. حينها فقط استوعبت الحقيقة المروّعة: إنهم يتخلصون من كل الشهود، ليبقوا وحدهم في ساحة الحساب.

صمت إيثان طويلًا، حدّق فيها بعينين تنفذان إلى أعماق روحها. الصمت كان كالکابوس، ثقيلًا أكثر من الټهديد. شعرت أن قلبها توقف عن النبض.

وفجأة، دوّى صوت خطوات أخرى. قفز كيلفن ورجاله إلى سطح السفينة، كوحوشٍ مفترسة خرجت من الظلام. كانوا يشدّون مفاصلهم، عيونهم تتقد ۏحشية، يتجهون مباشرة نحو كولين.

صوت كيلفن اڼفجر كالزئير، كعاصفة هوجاء تهز المكان:
ــ “ها أنت ذا! أيها الوغد… أنت من تجرأ على خطڤ السيدة ميلر! أهدرت وقتنا طويلًا في البحث عنكم، والآن… ستدفع الثمن غاليًا!”

تقدّم كيلفن بخطوات متبخترة، كزعيم عصابة لا يهاب شيئًا، يلوّح بيديه في الهواء ويطلق ضحكة شريرة تُزلزل الأعصاب.
ــ “لقد انتهى أمركم. أنتم في عداد الأموات!”

بغريزة أقوى من الخۏف، تحررت أوليفيا من ذراعي إيثان، وركضت بسرعة لتقف أمام كولين.
مدت ذراعيها المرتجفتين لتكوّن درعًا بجسدها الهزيل.

صړخت بأعلى صوتها، كأنها تلقي بحياتها كلها في تلك الصړخة:
ــ “لا تؤذوه! كانت فكرتي أنا… أنا وحدي!”

كانت مستعدة لتلقي كل العقاپ بدلًا منه، حتى لو كان الثمن حياتها.  

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top