الفصل السادس والعشرون
بقلم الباحث المفقود
دوّى صوت المرافق وهو يهتف بالأسماء اللامعة، كأن صوته صدى جبالٍ ينذر بحدث جلل.
وما هي إلا لحظات، حتى ظهرت سبع شخصيات مرموقة دفعة واحدة، فأضاء نورهم السماء الرمادية فوق السهل الغربي، كما لو أن الشفق قد انبعث من أعينهم.
كل واحد منهم يملك من القوة والنفوذ ما يكفي ليُخضع نصف المدينة بإشارةٍ من يده.
وقد اجتمعوا جميعًا الآن، ودخلوا فندق بريز، في مشهد أخّاذ، يبعث على الذهول.
في ردهة الفندق، وقفت عائلة تيمور وقد تملّكهم الذهول، عندما سمعوا الأسماء تتردد كالزلازل في آذانهم. تحولت أنظارهم تلقائيًا نحو البوابة، يرقبون أولئك العظماء يدخلون الواحد تلو الآخر، كأنهم يشاهدون موكب أساطير لا يُصدّق.
أن يلتقي أحدهم بإحدى تلك الشخصيات، شرفٌ لا يُنال إلا نادرًا. أما أن تُتاح لهم الفرصة لرؤية جميع رموز السهل الغربي في لحظة واحدة، فهو أمر يتجاوز الخيال.
تسارعت نبضات قلوبهم، كأنها تهتف بانبهار.
لكن المفاجأة، أن تلك الشخصيات لم تُلقِ لهم بالاً، كأن وجودهم غير مرئي. ولم يكن هذا تجاهلاً عشوائيًا، بل لأن السبب الوحيد لهذا التجمع الكبير كان شخصًا بعينه: رائد.
كان واضحًا أن حضورهم جاء بدعوة مباشرة من فاضل، الرجل الذي يُشرف على كل عمليات مجموعة فاضل في منطقة الشيخ، وهو شخص تُعبّر مكانته عن نفسها دون مقدّمات.
لقد كانوا جميعًا هناك عند العشاء الأخير في فندق يو، عندما شهدوا القتال الشرس بين رائد ورعد. ومنذ ذلك الحين، أدركوا عظمة رائد وقوته المتفردة.
أما اليوم، فقد أعد رائد خطته المحكمة، وكان الهدف منها أن يفرض حضوره أمام عائلة تيمور، ويثبت لهم أنه ليس مجرد صهر عادي، بل قوة لا يُستهان بها.
وهؤلاء السبعة، بما فيهم رعد، أرادوا لعب دور الداعمين، ليمنحوا رائد مجده المستحق.
كانوا جميعًا أذكياء بما يكفي ليُدركوا أن العلاقة مع رائد كنز استراتيجي، واستعدادهم لإرضائه بدا واضحًا؛ إذ جلب كل واحدٍ منهم هدية ثمينة، تقديرًا لمكانته.
وما إن دخلوا الردهة، حتى بدأوا يفتّشون بأعينهم عن رائد، لكنهم لم يجدوه.
صدمتهم المفاجأة: أين رائد؟
تقدّمت سوسو، المديرة العام لفندق بريز وأحد كبار الشخصيات النسائية في الشيخ، ونظرت إلى مدير البوابة، وئام، وسأله بجدية:
– “أين السيد رائد؟”
رد وئام بتردّد:
– “أي سيد رائد تعني؟”
تدخل جياني، الواقف إلى جانب سوسو، وقال بلهجة حاسمة:
– “ذلك الذي وصل على متن سيارة مايباخ، وكان آخر من حضر.”
أومأ وئام بفهم، ثم أوضح سريعًا:
– “يبدو أنه تعرّض لصدمة نفسية وتم نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية.”
ساد صمت ثقيل.
تغيّر لون وجوه السبعة دفعة واحدة، وكأن السماء انقلبت فوق رؤوسهم.
لم يكن أحد منهم يتوقع أن يتحول بطلهم المفترض إلى مريض عقلي.
قال جياني بوجهٍ عابس:
– “الأمور تغيّرت… لنذهب إلى المستشفى ونكتشف الحقيقة.”
وافقه الآخرون بالإيماء، فقد أصبحت الأولوية الآن العثور على رائد وفهم ما جرى.
لكن ترك عائلة تيمور دون كلمة واحدة سيكون خرقًا للذوق العام. فبالرغم من أنهم من طبقة ثانية، إلا أن ارتباطهم برائد، رفع من مقامهم، وأكسبهم احترامًا جديدًا بين الناس.
لذا تقدّمت سوسو بخطى واثقة نحوهم، وقالت بابتسامة رسمية:
– “نتشرف بوجودكم هنا، تفضلوا بالعشاء، إنه لمن دواعي سرورنا أن نخدمكم!”
كانت سوسو امرأة استثنائية. لم تكن فقط مالكة فندق بريز، بل كانت أيضاً ذات نفوذ ممتد في السياسة والاقتصاد والعالم الخفي للمدينة. ولم يكن أحد يجرؤ على معاداتها.
أما عائلة تيمور، فقد بدؤوا يشعرون بقلق داخلي وهم يرون الحديث عند البوابة. لكن عندما اقتربت منهم سوسو، انقلب التوتر إلى حماس.
كانت الجدة أول من بادرت، نهضت سريعًا، وردّت باحترام:
– “سيدة سوسو، هذا كرم لا يُنسى منكم!”
ثم تبعها جياني و رعد والبقية بتحياتهم الودودة.
شعرت عائلة تيمور كلها بالفخر والإطراء، حتى أن السيدة تيمور نفسها أغمضت عينيها وهي تبتسم، غير مصدقة ما يحدث.
لكن سرعان ما غادر الضيوف الكبار بعد تلك التحية القصيرة.
وقفت العائلة في الردهة، وكأنهم في حلم.
قال أحد أفرادها بدهشة:
– “ما الذي يحدث؟”
عندها قالت الجدة بنبرة واثقة، وقد بدا على وجهها الفخر:
– “الآن فهمت… هذا كله بفضل زوجي، والآن جاءوا جميعًا لإظهار احترامهم. لقد أعدّوا هذا اللقاء المفاجئ تقديرًا لعائلتنا. إن الرجل العجوز كان له باع طويل في هذه العلاقات، والآن نحصد ثماره.”
تلك الكلمات تركت أثرًا عميقًا في نفوس الأحفاد. فهم الآن يُدركون أن كل هذا التكريم لم يكن سوى امتدادًا لتأثير جدّهم الراحل.
حتى في غيابه، ظل اسمه سببًا في عزّهم، وسببًا لتجمّع الكبار من أجلهم.
وبينما كانت الأضواء تنعكس على موائد العشاء، فهموا جميعًا:
لقد كانت هذه الوليمة، وليمة إمبراطورية، مهداة لتيمور الكبير… احترامًا وإجلالًا.
انتهى الغداء الفاخر في فندق بريز وسط أجواء من البهجة والدهشة، وترك بصمته في سجل المجد لعائلة تيمور، ليصعد اسمهم إلى مصاف الشهرة في مدينة الشيخ.
عند الساعة الثالثة مساءً، اجتمع أفراد العائلة في قصر “تيمور”، في الردهة الكبرى، حيث جلست السيدة العجوز في صدر المجلس، متربعة بثبات ووقار، كقاضية تستعد لإصدار حكمها النهائي. أمامها وقفت كل من غادة وابنتها جنى، تترقبان مصيرهما.
كانت السيدة العجوز تحمل في قلبها حقدًا دفينًا تجاههما. ففي نظرها، كانت غادة سبب ۏفاة ابنها، بينما جنى، ابنتها، تزوجت رجلاً اعتبرته العائلة أحمقًا جلب لهم الخزي وشوّه سمعتهم. والآن، وقد لاحت بوادر الصعود والنجاح للعائلة، حان وقت “تنظيف البيت” — كما كانت تراه.
نظرت إلى من حولها، ثم قالت بلهجة حاسمة لا تقبل التراجع:
“أُعلن من هذه اللحظة: غادة وجنى تيمور لم تعودا جزءًا من هذه العائلة. وجنى ممنوعة من العودة إلى أنجول، ولن تطأ الشركة أقدامها مجددًا.”
ارتجّ جسد جنى، وسرت القشعريرة في أطرافها، وشعرت وكأن الأرض تهتز تحتها. لم يكن وقع الخبر سهلاً، فقد اجتمعت عليها المصائب من كل جانب، ولم يكن ينقصها سوى أن تطعن بخنجر من أقرب الناس إليها.
“جدتي… هذا كثير…” تمتمت والدموع تترقرق في عينيها.
أما غادة، فقد شهقت وكأن صاعقة ضړبتها، وقالت بذهول:
“سيدة تيمور، أرجوكِ… لقد أخطأت، نعم، لكن هذا جزاء قاسٍ!”
غير أن السيدة العجوز ظلت صلبة القلب، جافة النظرات، وقالت ببرودٍ جليدي:
“القرار نهائي. لقد رميت النرد، ومصيركما تقرر. ارحلا.”
تابعت بنبرة أكثر قسۏة:
“تفاحتان فاسدتان لا مكان لهما بيننا، وجودكما هنا يجلب العاړ لا أكثر.”
“نحن لسنا جمعية خيرية، اذهبا وابحثا عن مأوى آخر لمن أمثالكما.”
“عيشي مع ذلك الأحمق الذي اخترته زوجًا، ووفّري علينا المزيد من الإحراج.”
وفيما كانت جنى تقف مکسورة، تتوسل، تعالت أصوات أفراد العائلة بتأييد الحكم وكأنهم وجدوا فرصة للشماتة.
تمزق قلبها، واندفعت الدموع كالسيل، حاولت التماسك لكنها همست، تائقة إلى بصيص رحمة:
“جدتي… أرجوكِ… لا تطرديني…”
لكن الرد جاء كالصقيع:
“اخرجي.”
كلمة واحدة، لكنها كانت كافية لتهدم كل ما تبقى في داخلها.
تجمدت ملامح جنى، وانطفأ النور في عينيها. غادرت وقد خلّفت وراءها رماد أمل محترق.
مشيت بجانب والدتها، غادة، ببطء، تثقلها خطوات مليئة بالخذلان. وفي قلبها غصّة لا تُنسى. غادة، من ناحيتها، كانت تحمل شعورًا غامرًا بالڠضب — ڠضب على هذه العائلة، وڠضب على رائد الذي قلب حياتهم رأسًا على عقب.
وفيما كانتا تهمّان بالرحيل تحت أعين العائلة المتحجرة، انطلق صوتٌ متهكّم من الخلف:
“انتظري.”
التفتت جنى پذعر، فرأت بلال يتقدم بخطى ثابتة.
“أنتِ مدينة بعشرين ألف دولار لصديق زهرة، وبما أنكِ لم تعودي فردًا من العائلة، آن أوان السداد، أليس كذلك؟”
كانت كلماته كطعڼة جديدة. لا رحمة، لا تعاطف، لا إنسانية.
أخرجت جنى مفاتيح سيارتها من حقيبتها، ورمتها إليه بلا مبالاة:
“خذ السيارة، تساوي أكثر من المبلغ.”
ثم أكملت سيرها، صامتة.
خارج الفيلا، سألت غادة بقلق:
“كيف تتخلين عن السيارة؟ كيف سنعيش من دونها؟”
ردت جنى بصوتٍ خاڤت، لا حياة فيه:
“خذي سيارة أجرة وعودي… أريد أن أتمشى وحدي.”
ثم تركتها، وسارت… أولاً بسرعة، ثم أبطأت خطاها تدريجيًا، إلى أن أصبحت تتجول كالأشباح، بلا وجهة، بلا روح.
كانت المدينة مزدحمة، والشمس مشرقة، لكن لا دفء يصل إلى قلبها.
مع غروب الشمس، كانت قد قضت ساعات تمشي بكعبٍ عالٍ وقدمين متقرحتين، ورغم الألم، استمرت بالمشي… وكأن الحركة هي الشيء الوحيد الذي يبقيها على قيد الحياة.
“يا إلهي، لماذا؟ ما الذي فعلته لأستحق كل هذا؟” صړخت في داخلها.
وفي زقاق هادئ، توقفت سيارة صغيرة بجانبها. فُتح الباب، وقبل أن تدرك ما يحدث، انقضّ رجلان عليها وسحباها إلى الداخل.
بعد ساعة. في ضاحية هادئة، داخل غرفة نوم مجهولة.
استفاقت جنى على سرير غريب، رفعت جسدها بفزع، تذكرت لحظة اختطافها، ونظرت حولها بقلق.
فُتح الباب، ودخل قصيّ وانِس.
قال بابتسامة خبيثة:
“سمعت أنكِ طُردت من العائلة؟”
شعرت جنى بالقرف يتصاعد داخلها، ارتجفت، وصړخت:
“لن أكون لك أبدًا! لن أتزوجك، حتى لو متُّ جوعًا!”
ضحك باستهزاء، واقترب منها، وقال:
“أنا لم أنوِ الزواج بك أبدًا، من سيريد امرأة متزوجة مثلك؟ كل ما أريده… هو أن أستخدمك!”
كانت كلماته كالسمّ، تجمّدت جنى في مكانها، وعيناها تتسعان رعبًا.
اقترب أكثر، وسحب حزامه ببطء، ثم قال بصوت مهدّد:
“اخلعي ملابسك!”