رواية أحببته رغم جنونه الفصل 32
“بما أن العالم ليس عادلاً معكِ… فسأُغيّره من أجلكِ.”
كلماتٌ قالها رائد، لكن صداها ظل يتردد في أعماق جنى.
أثّرت فيها بشدة، رغم أنها بدت لها ضربًا من الخيال، إلا أنها كانت كافية لتُخبرها أن رائد كان يُفكر بها طوال الوقت. اهتمامه، حنانه، وصدق مشاعره… كلها تجلت في تلك العبارة.
كانت جنى في حالة ذهول، لم تتكلم، فقط تركت رائد يمسك بيدها وسارت خلفه بصمت خارج المطعم.
ولكن ما إن خرجا حتى هبّت رياح باردة، وكأنها صڤعة من الواقع أيقظتها من شرودها.
سحبت يدها من يد رائد فجأة، وقالت بجدية حازمة:
“أنت لا تعرف حتى ما حدث لي، لا تتصرف باندفاع!”
رغم لهجتها الجدية، شعرت أن رائد عاد إلى طبعه القديم، حيث يُطلق الكلمات الكبيرة من دون حساب. ومع ذلك، لم تستطع أن تُنكر أن شيئًا ما فيه قد تغيّر.
ابتسم رائد ابتسامة خفيفة وقال بثقة:
“أنا أعرف كل شيء، وسأساعدكِ لتحصلي على حقكِ. لن يفلت أولئك الذين تنمّروا عليكِ من العقاپ.”
صُدمت جنى من يقينه، لكنها تمالكت نفسها وقالت بسرعة محاولة تغيير الموضوع:
“إذا كنت تريد مساعدتي حقًا… خذني أولًا لأشتري فستانًا. ملابسي متسخة جدًا.”
ظنّت جنى أن رائد ربما علم بأنها ضړبت وليد، وربما توقع العواقب. لكنها كانت تخشى أن يندفع ويتسبب في تفاقم الوضع.
كانت ممتنة لمرافقته، لكنها لم تُرد التورط مع أولئك الذين لا يُحبذ العبث معهم.
ما يهمها الآن هو أن تغيّر ملابسها المهترئة.
“حسنًا.” أجابها رائد بعد أن ألقى نظرة على ملابسها، ووافق دون تردد.
في الماضي، كانت جنى من تُسيطر على الأمور، وكانت تعامل رائد كما لو كان طفلًا كبيرًا.
أما الآن، فقد انقلبت الأدوار؛ رائد هو من يقود، وهي من تتبعه.
أخذها رائد إلى مركز “فاضل” التجاري القريب.
كانت جنى، كغيرها من النساء، تحب التسوق، وقد عاشت طفولة مرفهة قبل أن تتغير حياتها.
حين كان جدها على قيد الحياة وكانت لا تزال عزباء، اعتادت ارتياد الأسواق وشراء ما يحلو لها.
لكن بعد زواجها من رائد، تراجعت أحوالها، ولم تعُد تذهب كثيرًا للتسوق، ناهيك عن أن تذهب برفقة رائد.
لذلك، كانت هذه أول مرة يذهبان فيها معًا.
شعرت جنى براحة غير مألوفة، حتى نسيت مؤقتًا ألم قلبها، واستسلمت لهذه اللحظة من السعادة الصامتة.
كانت تتجوّل ببطء، تتأمل المتاجر وتشكيلة الملابس والحقائب والأحذية، دون أن تدخل أياً منها. مجرد النظر كان كافيًا لبعث الامتنان في قلبها.
وعندما وصلا إلى متجر “غوتشي” في الطابق الثاني، شدّ انتباهها فستان معروض خلف الزجاج.
توقفت، ونظرت إليه مرارًا، فقد كان يحمل سحرًا خاصًا جعلها تتعلق به من النظرة الأولى.
لاحظ رائد ذلك وسألها بلطف:
“أعجبكِ؟ يمكنكِ شراءه إن أردتِ.”
هزّت رأسها وقالت بصوت خاڤت:
“إنه باهظ الثمن…”
كانت تعلم أن أسعار هذه العلامة التجارية تفوق إمكانياتها.
لكن رائد لم يُبالِ وقال بثقة:
“لا بأس، لديّ مال.”
ثم دخل المتجر دون أن ينتظر موافقتها، فاضطرت جنى إلى أن تستجمع شجاعتها وتتبعه.
ما إن دخلا حتى تقدّمت نحوهما مرشدة التسوق بابتسامة رسمية:
“مرحبًا سيدي، هل يمكنني مساعدتك؟”
أشار رائد إلى جنى وهو يتجه إلى المقعد:
“اسأليها، هي من ستختار.”
تحركت البائعة مباشرة نحو جنى.
كانت جنى مترددة، لكنها أخيرًا أشارت إلى الفستان وسألت بخجل:
“هل يمكنني تجربة هذا الفستان؟”
هنا وقع الصمت لوهلة.
الفستان كان من القسم الفاخر، المعروف بين الزبائن بأنه لا يُسمح بتجربته، وفق سياسة المتجر.
فهمت البائعة أن جنى ليست من الزبائن المعتادين لهذا القسم، فبرُدت ابتسامتها وأجابت بلهجة جافة:
“هذا الفستان غير متاح للقياس.”
قالت جنى بخيبة أمل خاڤتة:
“حسنًا، أعلم… شكرًا لكِ.”
ثم سألت، بنبرة حاولت أن تبدو طبيعية:
“ما السعر؟”
كان السعر ظاهرًا بوضوح على بطاقة الفستان، لكن جنى سألت رغم ذلك. ربما لم تكن تنتبه، أو ربما أرادت أن تتأكد.
أجابت البائعة، وقد بدأت نبرة الضجر تتسلل إلى صوتها:
“سعره 68,000 دولار.”
شهقت جنى بصوت خاڤت، وكأن الهواء انقطع عن رئتيها للحظة.
كانت قد ركّزت على الفستان وشكله وأناقة تصميمه، ولم تُفكّر مطلقًا في ثمنه.
كانت تعلم أن “غوتشي” علامة تجارية باهظة، لكن هذا الرقم تجاوز كل توقّعاتها.
تلاشى بريق الفستان فجأة من عينيها، وبدت خيبة الأمل واضحة على وجهها.
استدارت نحو رائد بسرعة وهمست:
“لا أريد شراء هذا الفستان… لنخرج من هنا، حالاً.”
لكن قبل أن ينطق رائد بكلمة، سمعا صوتًا من خلفهما ينادي:
“جنى؟”
التفتت بسرعة، لتجد أمامها وجهًا مألوفًا من الماضي…
وائل، زميلها في الجامعة.
في تلك الأيام، كانت جنى تُعدّ أجمل فتاة في دفعتها، وكان حولها عدد لا بأس به من المعجبين.
لكن وائل كان مختلفًا عنهم؛ شاب من خلفية ريفية، بسيط الهيئة، باهت الحضور، ولا يملك شيئًا من الجاذبية، ومع ذلك، كان واثقًا بنفسه إلى حد السذاجة.
ذات يوم، وسط الحرم الجامعي وأمام أنظار الجميع، أرسل لجنى رسالة حب علنية تسببت لها بإحراج بالغ.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت حديث الجامعة بأكملها، رغماً عنها.
ولذلك، لم تكن تحمل له أي مشاعر إيجابية، بل شعورًا بالنفور من غطرسته غير المبررة.
فهو لم يُسبب لها الإحراج فحسب، بل كان يتصرف وكأنه نجم في عالم لا يعرفه أحد سواه.
والآن، بعد سنوات، ها هو يقف أمامها مجددًا، بابتسامة تنمّ عن شعور بالتفوق.
أجابت جنى بتحفّظ:
“مرحبًا… لم نلتقِ منذ وقت طويل.”
سألها فجأة، بنبرة لا تخلو من الشماتة:
“سمعت أنكِ طُردتِ من عائلة تيمور، أهذا صحيح؟”
وكما يُقال، الأخبار السيئة تسافر أسرع من الريح.
لقد انتشر خبر طردها من عائلة تيمور كالڼار في الهشيم، وأحدهم حرص على نشره في مجموعة “تشات” التي كان وائل فيها.
شعرت جنى بأن الچرح الذي بالكاد بدأت تلتئمه، انفتح من جديد.
وبنظرة حزينة ووجه متجهم، لم تجبه. لكن وائل لم يتوقف، بل تابع الحديث وكأنما يستعرض نجاحه أمامها:
“أنظري إلى حالك الآن… لا يمكنكِ حتى شراء فستان من غوتشي، كم أصبحتِ فقيرة! لو كنتِ قد اخترتِ أن تكوني معي، لكنتِ الآن تعيشين حياةً مريحة.
أنا مدير متجر هنا، أربح عشرات الآلاف كل شهر، أملك منزلاً وسيارة… هل تتخيلين الفرق؟”
كان يتحدث وكأنه يرأس إمبراطورية، لا متجرًا.
نظرت إليه جنى بهدوء، ولاحظت أنه رغم بدلة العمل التي يرتديها، لا يزال يحمل نفس طباعه المتغطرسة، بل ربما زادت حدتها.
لم تُرِد إطالة الحديث معه أكثر، فاستدارت نحو رائد وقالت:
“رائد، دعنا نغادر الآن.”
عند سماع الاسم، تغيّرت ملامح وائل، ووجّه نظره مباشرة نحو رائد.
كان رائد يرتدي ملابس بسيطة، بلا زينة ولا مظهر ثراء.
حدّق فيه وائل بازدراء، ثم سخر وقال:
“أهذا هو زوجك؟ الأحمق رائد؟ سمعنا عن غبائه… جنى، هل فقدتِ صوابك؟ ترفضينني أنا، ثم تتزوجين أحمقًا كهذا؟
هو أفضل مني في ماذا؟”
ازداد وجه جنى عبوسًا، لكنها لم ترد.
لقد رأت الكثير من الناس في حياتها ممن يتسلقون على الآخرين، ويزدرون من هو أقل منهم ماديًا.
صحيح أن رائد لم يكن غنيًا، لكنه كان صادقًا، حنونًا، ومخلصًا.
ولو خُيّرت مرةً أخرى…
لاختارت رائد، بكل ضعفه، على وائل، بكل ثرائه وغروره.
بينما كانت جنى تقف غارقة في حزنها وحرجها، اقترب منها رائد بهدوء وهمس بصوت خاڤت لكنه حازم:
“الموظفون هنا لا يستحقون التعامل، لنغادر ونبحث عن متجر آخر.”
أومأت جنى برأسها، موافقة دون تردد، مستعدة للرحيل.
لكن وائل لم يحتمل أن يتم تجاهله بتلك الطريقة. لم يستوعب أن يُقلّل أحدهم من شأنه، وخصوصًا من يراه “أحمقًا” كـرائد.
كيف لرجلٍ مثله، مدير متجر و”ناجح” في نظر نفسه، أن يسمح بهذا التجاهل؟
اقترب بخطوات متعجرفة، وأوقفهما قائلًا بسخرية مفرطة:
“بما أنكم وصلتم إلى هنا، ألن تشتروا فستانًا؟ من أجل زمالتنا القديمة، سأمنحك خصمًا خاصًا.”
كان يُحاول التهكم عليها، لا الإحسان إليها، محاولًا أن يُظهر نفسه كالرابح الأكبر.
قاطعتهم البائعة، وقد بدا أنها فهمت نبرة وائل جيدًا:
“المدير على حق، هل يبدوان كمن يملك المال لشراء شيء من هنا؟ أخبرتها للتو بالسعر ولم تُصدق.”
وأضاف بائع آخر بنبرة تهكمية:
“بالفعل، لم يشترِ أحدٌ منهما شيئًا. واضح أنهم لا يملكون القدرة.”
ابتسم وائل بثقة زائفة وقال ساخرًا أمام الجميع:
“اصمتوا أنتم. زميلتي السابقة كانت غنية… لا يعقل أن تكون فقيرة لهذه الدرجة. وإذا لم تكن قادرة على الشراء، فما الذي جاء بها إلى هنا؟ إنها فقط… كزوجها، بلا وعي!”
ثم استدار نحو جنى وسألها بوقاحة:
“أليس كذلك، يا زميلتي العزيزة؟”
اشټعل وجه جنى بالخجل والألم. كانت كلماته كالصڤعات المتتالية، لكن ليس بيدها حيلة.
هناك نوع من الناس يتلذذون بإهانة الآخرين في لحظات ضعفهم، ويشعرون بالقوة حين يذكرونهم بفشلهم.
وفي خضم ذلك الصمت المربك، تقدّم رائد خطوة إلى الأمام، وبنبرة هادئة حملت الكثير من الثقة قال:
“عزيزتي، ألا ترين زميلكِ القديم الذي لا يملّ من محاولة بيع الملابس من أجل عمولته الصغيرة؟ لنشترِ هذا الفستان، فقط شفقة عليه.”
ثم أشار ببرود إلى الفستان الذي أعجب جنى وقال للبائعة:
“أريد هذا الفستان. لفيه لي من فضلك.”
كان رائد قد قرر التدخل بعدما شعر أن صمته قد يُفسّر على أنه عجز أو ضعف، وذاك أمر لا يُسمح به عندما يتعلق الأمر بجنى.
نظرت إليه البائعة بدهشة وسألت بتردد:
“هل أنت متأكد؟ سعر الفستان 68,000 دولار!”
ردّ رائد ببرود وثقة:
“لفّيه فقط.”
تدخلت جنى بسرعة، متوترة، وهمست له:
“لكنني لم أجرّبه بعد… لا أعلم حتى إن كان مناسبًا لي!”
كانت قلقة من أن يكون رائد يندفع بردة فعل عاطفية، تخشى أن ينتهي به الأمر إلى موقف أكثر إحراجًا.
صحيح أنه تغيّر، وأصبح يدافع عنها، لكنه لا يزال في نظرها محدود الإمكانيات.
أجاب رائد ببساطة:
“لا بأس… إن لم يكن مناسبًا، سأتخلص منه.”
اڼفجر وائل ضاحكًا، وهو يصفق ساخرًا:
“يا لك من أحمق… هل تظنني لا أعرفك؟ ليس لديك فلس! فقط تحب استخدام العبارات الرنانة، كأنك بطل في فيلم. فستان بهذا السعر؟ مستحيل!”
رمقه رائد بنظرة هادئة، ثم قال:
“وماذا لو كنت أستطيع تحمّل كلفته؟”
ضحك وائل مجددًا وردّ بثقة زائدة:
“إن كنتَ قادرًا حقًا… فسأركع لك!”
دون أن يرد بكلمة، مدّ رائد يده بهدوء وأخرج من محفظته بطاقة سوداء فاخرة، ووضعها بهدوء على الطاولة أمام وجه وائل، ثم قال بلهجة باردة لا تقبل الجدل:
“سأدفع بهذه.”