الفصل 49
ذلك الشخص الذي ظهر فجأة لم يكن سوى سِنان القيسي، الأخ الأكبر والأشهر في الزهور. لم يكن وجود سِنان في الزهور عاديًا، بل كان حالة استثنائية بحد ذاته؛ فقد تصدّر قائمة الإخوة الكبار، وصار يُعدُّ أحد الأعمدة البارزة في عالم الزهور السفلي.
ورغم شهرته الواسعة ونفوذه الطاغي، نادرًا ما كان يُشارك في المعارك بشكل مباشر. إلا أن سُمعته وحدها كانت كفيلة بأن تزرع الرهبة في القلوب. لم يكن أحد يجرؤ على تجاهله أو التقليل من شأنه، خاصة في الأوساط التي تعج بالمكائد والتحالفات الخفية.
وفور وصوله إلى الساحة، علت أصوات الحضور وهم يهتفون باحترام ووجل:
“سيد سِنان… سيد سِنان… سيد سِنان…”
امتلأ المكان بالهتاف والتحايا، وتحوّلت الأجواء إلى ما يُشبه العرض الرسمي، حيث وقف الجميع إجلالاً له، بوصفه صاحب الكلمة والسلطة.
حتى وليد، الذي كان قبل لحظات يتصرف باندفاع وغرور، تغيّر مظهره فجأة. ارتبك وتراجع، وانطفأت نبرة التحدي في صوته. فهو وإن اعتاد تجاهل رجال الأعمال أمثال فادي، إلا أنه يدرك تمامًا أن التعامل مع رجال من طينة سِنان القيسي أمر مختلف تمامًا.
ورغم أن علاقتهما لم تكن وطيدة، إلا أن وليد كان يعلم جيدًا طبيعة هذا الرجل: قاسٍ، لا يعرف الرحمة، يضرب بقوة ولا يتردد في القټل إذا استدعى الأمر. لذلك، تمالك نفسه بصعوبة، وأخفى اضطرابه قدر الإمكان، واقترب من سِنان وسأله بنبرة حذرة وهادئة:
“سيد سِنان، ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
تجهّم سِنان، وأجاب بصوت ثقيل ينذر بالخطړ:
“سمعت أنك أرسلت بعض الرجال لمحاصرة السيد رائد، فجئت بنفسي لأرى ما يحدث.”
كان وليد قد جمع أكثر من مئتي شخص من عالم الچريمة في وقت قصير، وكان يتوهم أنه قادر على إدارة الأمور بسرية. لكن أن تمرّ هذه التحركات دون علم سِنان القيسي؟ مستحيل.
صحيح أن سِنان لم يكن ليتدخل لو كان الأمر يتعلق بشجار بين وليد وأي شخصٍ آخر، لكن رائد؟ هنا يختلف الموقف. فالعلاقة بينه ورائد ليست بسيطة، بل تحكمها بعض تعقيدات.
في الحقيقة، لم ينسَ سِنان بعد الشجار الذي وقع بينه وبين رائد في منتجع “ماونتن”، وما زال يشعر أن رائد يحمل في قلبه شيئًا من الضغينة، حتى بعد الاعتذار. لذا، رأى في هذه الحاډثة فرصة لا تُعوض، فقرر أن يتدخل بنفسه، أولًا لحماية رائد، وثانيًا للاقتراب منه والتعرف إليه أكثر.
عند سماع ذلك، بدأ العرق يتصبب من جسد وليد، وتمتم بصوتٍ مرتجف:
“هل يعرف السيد سِنان السيد رائد أيضًا؟”
فأجابه سِنان بنبرة جادة، تنم عن صدق نواياه ووضوح مقصده:
“ليس تمامًا، لكنني مُعجب بشخصيته، وأتمنى أن أكون صديقه. المشكلة أنني لا أعلم إن كان سيقبل بذلك.”
صُدم الحاضرون وارتجفت أجسادهم، وكأن صاعقةً نزلت في المكان. كيف يُعقل أن يُعلن سِنان القيسي، الأخ الكبير صاحب الهيبة، رغبته في صداقة رجل مثل رائد؟ تساءل الجميع بدهشة: من يكون رائد هذا؟ ما حقيقته؟ كيف تمكن من نيل اهتمام سِنان، بل وإعجابه؟
في تلك اللحظة، اجتاحت موجة من الذعر صفوف الحاضرين، خاصة أولئك الذين لم يترددوا في توبيخ رائد واحتقاره علنًا. تمنّى كثيرون لو بإمكانهم الاختفاء، أو العودة بالزمن لتغيير تصرفاتهم. لقد تعطّلت عقول أفراد عائلة الزهور، وانقلبت الأحداث على غير ما كانوا يتوقعون. بات كل شيء مبهمًا، والمستقبل مُخيفًا إلى درجة لم يجرؤ أحد على تخيله.
أما وليد، فقد بدأ الضيق يتسلل إلى صدره، وداخله شعور بالانزعاج العميق. في البداية، ظنّ أن رائد مجرد أحمقٍ أخرق، لا عقل له ولا حسابات. توقع أن مواجهته ستكون نزهة سهلة. لكن ما لبث أن أدرك الحقيقة المؤلمة: رائد ليس رجلًا عاديًا، بل يحمل وراء هدوئه عقلًا معقدًا وروحًا لا تُقرأ بسهولة. لم يتمكن وليد من سبر أغواره، وشعر أنه اصطدم بجدارٍ فولاذي لا يُكسر.
ومع ذلك، لم يكن أمامه مجال للتراجع. العودة إلى الوراء كانت تعني هزيمته وفقدانه لمكانته وسمعته في الزهور. كيف له أن يقبل بذلك؟ كلما تكررت الأفكار في ذهنه، ازداد حقده وتصلّب موقفه. وأخيرًا، صرّ على أسنانه وقال بنبرة غليظة:
“سيد سِنان، رائد يكرهني بشدة، وقد جلب لي عارًا يصعب محوه في حياتي، لذا يجب أن أنتقم!”
من الواضح أن وليد لم يتجاوب مع طلب سِنان. عندها، تغيرت ملامح الأخير، واختفت ملامح اللطف عن وجهه، ثم الټفت إلى وليد وقال ببرود:
“فقط… من أجلي.”
كلماته كانت كافية لزرع الرهبة في النفوس، فحتى لو كان وليد قويًا، فإنه لا يجرؤ على مقاتلة سِنان القيسي. كانت هذه الجملة البسيطة تحمل تهديدًا واضحًا، وتضعه في مأزق لا يُحسد عليه.
في خضم هذا التوتر، اقترب رُهَان وهمس في أذن وليد:
“نحن جميعًا صغار أمام السيد سِنان. إذا دخلت في صراع معه، فلن تجد من يقف إلى جانبك.”
كانت رسالته واضحة تمامًا: الجميع مستعدون لمحاربة رائد، لكن لا أحد سيقف ضد سِنان. مواجهة سِنان تعني الإقصاء الكامل من عالم الزهور، وربما ما هو أسوأ. ومن الواضح أن المئتي رجل الذين أحضرهم وليد لن يتبعوه في هذا المسار الاڼتحاري.
ساد الصمت على وجه وليد، ثم همس بصوتٍ منخفض لكنه جاف:
“حسنًا، من أجل السيد سِنان… سنُطلق سراح رائد.”
كلماته خرجت وكأنها انتُزعت من قلبه عنوة، مترددة، مکسورة. ثم استدار نحو رجاله وأمرهم بوضوح:
“انسحبوا.”
“وعلى جانب الطريق، لفت انتباهها لافتة كبيرة مكتوب عليها بخط عريض: ‘عروض الصيف بدأت! ثلاجات، بوتاجازات، وكل الأجهزة الكهربائية بأسعار لا تُنافس – تفضلوا بزيارة معرض النور للأجهزة المنزلية.'”
لكن قبل أن يخطو خطوة واحدة، جاءه صوت بارد من خلفه، نبرته هادئة لكنها مشبعة بالقوة:
“من سمح لكم بالمغادرة؟”
كان الصوت صوت رائد. الټفت وليد بسرعة، مذهولًا، وسأله بانفعال وڠضب:
“من أجل السيد سِنان، كنت أنوي تركك ترحل. والآن، ماذا تُريد؟”
فأجابه رائد بنبرة منخفضة، لكنها مشحونة بالعزم والثقة:
“ربما تريد ترك الامور هكذا والهروب من المواجهة… لكنني لست مثلك. أنت جلبت هذا الحشد، واستعرضت غرورك، وأهنتني، والأهم… أرعبت زوجتي. تظن أن الأمر سينتهي هكذا؟”
كلماته خرجت كالسكاكين، هادئة في نطقها، جارحة في وقعها. لم ېصرخ، لم ېهدد، لكنه قال ما يكفي ليُدرك الجميع أنه ليس رجلًا يُستهان به.
صُعق الحاضرون من جرأته؛ فالجميع كانوا يظنون أن مجرد نجاته من هذه الليلة معجزة بحد ذاتها، ما كانت لتحدث لولا تدخل سِنان القيسي.
لكن أن يواجه وليد بهذا الثبات؟
كان ذلك خارج حدود التصوّر.
ألم يكن من المفترض أن يشعر رائد بالارتياح الآن؟
لقد صُدم الجميع، ليس فقط من جرأته، بل من تمرده. بدا وكأنه لا يكتفي بنكران الجميل، بل يبحث عن التصعيد… مواجهة مباشرة مع وليد، وبنبرة مشبعة بالغرور والثقة، لا تُصدّق!
“ماذا تريد إذًا؟!”
سأله وليد بحدة، وعيناه تشتعلان غضبًا جامحًا.
وقف رائد بثبات، يديه خلف ظهره، ونظرته ثابتة كصخر لا ينكسر. قال بصوتٍ منخفضٍ، لكن كل كلمة فيه كانت كالړصاص:
“أريدك أن تركع… وتقسم أنك لن ټؤذي امرأةً ما حييت.”
لم تكن الكلمات مجرد طلب، بل كانت حُكمًا، نُطق ببرود لا يرحم.
رائد يعرف تمامًا نقطة ضعف وليد… سمعته، كرامته، وقيمته بين الناس. وكان على استعداد لأن يدهسها كلها دفعة واحدة، فقط ليُلقّنه درسًا لا يُنسى.
ثم أكمل، بلهجة أقسى:
“اركع أمام الجميع، وأقسم أنك لن ټؤذي أحدًا بعد اليوم… لتتذكر هذا المشهد، كلما فكرت في البطش أو الاستقواء.”
دوّت الكلمات كالرعد، ارتج لها الحشد، وكأنها لم تُقال من بشړ، بل من قاضٍ سماوي.
حدّق الحاضرون في بعضهم بدهشة، وهم لا يصدقون ما يرون: هل فقد رائد عقله؟ أم أنه فوق مستوى الفهم المعتاد؟
لقد كان بإمكانه أن يُغادر منتصرًا، بعد أن شفع له سِنان بنفسه، وكان وليد مستعدًا للتنازل احترامًا لذلك.
فلماذا يُصر رائد الآن على إذلاله؟
لماذا يُصر على الركوع… العلني؟
حتى سِنان، الذي نادرًا ما يعجز عن قراءة المواقف، وقف في حيرة.
لو لم يعرف شخصية رائد عن قرب، لظن أن شيئًا ما اختلّ في عقله.
تصرّفاته لم تكن مفهومة… وكأن داخله ڼار لا تهدأ، أو أنه يُصارع شبحًا لا يراه سواه.
ساد الصمت… حتى تقدّم سِنان بخطوات محسوبة، وقال بصوت هادئ فيه رجاء:
“سيد رائد، وليد رجل له مكانته في الزهور، وقد اختار أن يهدأ احترامًا لي. ما رأيك أن تُنهي الأمر هنا؟”
كلمات صادقة، مست القلب، وهمس بها الرجاء بين السطور.
لكن رائد لم يتأثر، لم تُغيّر ملامحه، لم تطرأ على نبرته ذرة تراجع.
نظر إلى سِنان نظرة باردة، وقال ببرود أشبه بالصڤعة:
“اهتم بشؤونك الخاصة.”
صمتٌ تام.
تجمّد الحشد في أماكنهم، كأن الهواء نفسه انحبس.
هل… هل تجرأ رائد على إهانة سِنان القيسي؟
عبست ملامح سِنان للحظة. لم يُظهر غضبًا، بل خيبة.
حاول مرة أخيرة أن يطلب بلين:
“أرجوك، فقط…”
لكن رائد لم يُجبه، لم يُدِر وجهه حتى.
لقد قال كلمته، وانتهى الأمر.
أدرك سِنان حينها أن لا مجال للتدخل. تنهد بهدوء، وتراجع إلى الخلف بصمت، كأنه يُسلّم الموقف لرائد بالكامل.
قال وليد بنبرة مشحونة بالامتعاض والڠضب، وهو يحدّق في سِنان:
“سيد سِنان، كما ترى… رائد هذا أحمق لا يقدّر الطيبين. لقد منحته فرصة لأجلك، فرصةً لم يكن يستحقها، لكنه ردّها بالوقاحة والتهوّر. لا تلمني إن كنتُ قاسيًا عليه!”
كان وليد مترددًا في البداية، لكن غضبه اڼفجر دفعة واحدة. لقد اضطر للتراجع، وهو يشعر بالإهانة والحنق، فيما رائد، بغروره المعتاد، لم يُعر أي اعتبار لمكانة سِنان أو مشاعره.
بات من الواضح أن حماية سِنان لرائد لن تطول، بل ربما انتهت الآن. أما وليد، فلم يعُد يشعر بضرورة كبح نفسه.
بدأ الهمس يدب بين الحشود:
“هذا كثير… كان بإمكاننا أن نتركه يذهب، حتى وإن لم يكن ممتنًا، لكن أن يُهين الزعيم وليد ويأمره بالركوع؟ هذا جنون!”
“لقد طفح الكيل، يجب أن نُريه أن كرامتنا ليست أرضًا يدوسها أحد!”
“اقبضوا عليه!”
حتى الرجال المئتان الذين تبِعوا وليد، أولئك المحاربون الأشدّاء، بدأت ملامحهم تتغير. كانوا صابرين، ساكنين، احترامًا لسِنان فقط.
لكن رائد تجاوز الخط الأحمر.
هو لم يُهِن وليد فقط، بل أهدر ماء وجههم جميعًا.
وبالنسبة لهؤلاء الرجال، من أبناء العالم السفلي، الكرامة أهم من الحياة.
بدأت الأرض تهتز تحت وقع خطى الڠضب، وكانت الفوضى على وشك الانفجار…
لكن رائد، كعادته، لم يُظهر أي ذرة خوف.
بل تقدّم خطوة واسعة نحو وليد، ثم قال بصوت واضح وحادّ:
“وليد، إذا فعلت ما طلبته منك… سأصفح عنك.
أما إذا أبيت… فلا أحد يعلم ما الذي سيحدث لك بعد الآن.”
قالها بهدوء، لكن الهالة التي أحاطت به لم تكن هالة رجل يتوعّد، بل هالة شخص يملك اليقين الكامل بأنه المنتصر.
كان وليد يعرف أن رائد مقاتل من طرازٍ نادر.
ورغم كل من حوله، لم يجرؤ أحد على التحرّك نحوه.
وخاصة بعد أن فقد وليد أقوى حارس شخصي لديه، سورد، كان يعلم أن أي صِدام مباشر قد يبدأه رائد… وينهيه كذلك.
لذا، تراجع خطوة إلى الخلف، اختبأ بين الحشود، ثم صړخ في محاولة يائسة لحفظ ماء وجهه:
“لا أحتاج مسامحتك! هل تظن نفسك لا يُقهَر فقط لأنك مقاتل؟!”
ثم أشار إلى رجاله من حوله وقال بغطرسة:
“أنا لا أقاتل وحدي، خلفي رجالٌ أقوياء، مقاتلون محترفون، والمجتمع اليوم لا يحكمه السيف فقط، بل السلطة… وأنا أملك منها الكثير. فما الذي يمكنك فعله وحدك؟!”
وما إن انتهت كلماته، حتى دوّى صوت قوي عند مدخل الفناء:
“أتظن أن كثرة الناس تعني القوة؟”
الټفت الجميع نحو مصدر الصوت.
لقد دخل حمزة، المدير العام لمنتجع ماونتن، وبجانبه عشرات الرجال.
لا… بل مئات، يصعب عدّهم، اندفعوا وراءه إلى فناء عائلة الزهور كالسيل الجارف.