رواية أحببته رغم جنونه الفصل التاسع عشر

رواية أحببته رغم جنونه

الفصل 19 

كان رائد فريدًا في طبيعته، متفردًا بين أبناء عائلة الهاشمي، بل يُعدّ الأبرز بينهم. لُقّب بالعبقري منذ نعومة أظفاره، إذ كان يتعلّم أي مجال يخوضه بسهولة ويسر، وكأن الفهم يسعى إليه.

جمع بين الذكاء الحاد والبراعة الجسدية، فأتقن مهارات متعددة ومتنوعة. تميّز في العزف على القيثارة، وأبدع في الشطرنج، كما أظهر ذوقًا رفيعًا في الخط العربي والرسم.

خذ الرسم مثلاً، فقد بلغ فيه مستوى مذهلًا خلال فترة وجيزة. كان تفوقه واضحًا إلى درجة أن أستاذه، الذي لم يحتمل الشعور بالتفوّق عليه، قدّم استقالته بعد شهرين فقط.

لكن الرسم لم يكن بالنسبة إلى رائد سوى نزوة عابرة. وحين شعر أنه بلغ قمته، فقد شغفه به وتوقف عنه دون تردد.

ورغم قلّة لوحاته، فإنها تركت أثرًا كبيرًا في أوساط الفنانين والنقّاد، لما فيها من عبقرية وتميّز فني.

كانت لوحته الشهيرة “النمر المنطلق” من أبرز أعماله.

عندما رأى جاد زَهْرَة تحدّق في اللوحة وقد استغرقها الصمت، مال نحوها وسأل بلطف:
“هل أعجبكِ هذا، يا زَهْرَة؟”

انهمرت دموع الدهشة والفرح من عينيها، وأومأت برأسها بحماس:
“نعم، أعجبني كثيرًا! شكرًا لك على هذه الهدية الثمينة.”

أما سامر، الجالس إلى جانبهما، فأثنى على اللوحة بإعجاب شديد، قائلاً:
“لوحات مروان نادرة لا تقدّر بثمن، وهذه تحديدًا، ’النمر المنطلق‘، قد تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات. السيد جاد شاب كريم بحق!”

ابتسم جاد وقال بهدوء عميق:
“الأشياء الثمينة يمكن شراؤها بالمال..”

كان رجلًا حقيقيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ كريمًا، أنيقًا، ذا ذوق رفيع في كل شيء.

وبينما كان الحاضرون يتبادلون أطراف الحديث، لم تفعل جنى وجين سوى التحديق بهما من الجانب، صامتتين كأن الصدمة كبّلتهما.

“هذه اللوحة مزيفة.” فجأة، قُطع الصمت بصوت رائد، الرجل الذي نُسي وجوده طوال هذا الوقت، وقد أعاد كلماته بنبرة واثقة، أثارت الذهول.

حتى رائد نفسه لم يكن يتخيل أن لوحته — وتوقيعه العفوي — قد نالتا كل هذه الأهمية. ومع ذلك، ما كان معروضًا أمامه لم يكن إلا نسخة مزيفة، شديدة الدقة في تقليد المظهر، لكنها خالية من الروح.

عند النظرة الأولى، ظن أنها لوحته، لكن كلما تأمل فيها أكثر، ازدادت قناعته بأنها تقليد أجوف. المزيفون قد يُحاكون الشكل، لكنهم لا يستطيعون نسخ النبض الداخلي للعمل.

لوحته الأصلية “النمر المنطلق” كانت حية، تنبض بالغضب والكبرياء، كوحش حبيس لقرون يوشك على الانطلاق. تلك العدوانية الصامتة كانت مستحيلة التزوير.

اختار رائد مواجهة جاد تحديدًا لأنه لم يكن يحتمل نفاقه: مظهر مصقول، وداخله مليء بالمراوغة. كان هذا بالضبط النوع الذي يثير اشمئزازه.

تجمد الجمع عند سماع كلماته، فقد كانوا مبهورين باللوحة. لم يصدقوا أن أحدًا قد يجرؤ على التشكيك في أصالتها.

صرخت زَهْرَة مدافعة: “مروان هو مثلي الاعلى، ودرست أعماله سنوات، أؤكد لك أنها أصلية! من أنت لتقول خلاف ذلك؟”

كانت زَهْرَة صادقة في دفاعها، لكن مشاعرها كانت مختلطة: إعجاب باللوحة، وغيظ من رائد.

أما بلال، فقد انفجر غاضبًا: “هل جننت؟ أتريدني أن أضربك؟ لا أحد هنا يريد سماع هرائك!”

جاد، الذي دفع ثمن اللوحة بثروة قبل سنوات، شعر بالإهانة، ونظر إلى رائد بنظرة جدية حادة: “لماذا تتهم لوحتي بالتزوير؟”

رد رائد بصلابة، وعيناه تخترقان عيني جاد:
“لأنني من رسم ’النمر المنطلق‘. ولهذا، أعلم يقينًا أن لوحتك مزيفة.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top