رواية أحببته رغم جنونه الفصل الرابع عشر

رواية أحببته رغم جنونه

الفصل 14 

كانت السيدة العجوز، التي لا تُدير فقط شركة بل تُدير عائلة بأكملها، معروفة بعقلها الحاد، واتزانها الذي لا يتزعزع، وهيبتها التي لم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب منها. امرأة صلبة، رزينة، لا تفقد السيطرة أبدًا. لكن في تلك اللحظة، انكسرت هذه القاعدة.

صړخت بصوت دوّى في أرجاء القاعة، وفقدت أعصابها لأول مرة على الإطلاق.

“خمسون مليون دولار؟!”

حدّق الجميع فيها بذهول، ولم يفهموا من أين أتت تلك الصړخة المفاجئة.

لم يتمالك بلال نفسه وسأل باندفاع:
“جدتي، ماذا تعنين بخمسين مليونًا؟!”

لكن السيدة العجوز لم تُجبه. تجاهلته تمامًا كما لو أنه غير موجود. رفعت عينيها ببطء نحو جنى، وقطّبت حاجبيها، ثم قالت بحدة لم تخفِ شكوكها:
“جنى… أنتِ لم تزوّري هذا العقد، أليس كذلك؟ كيف يعقل أن تمنحنا شركة فاضِل طلبية بهذه الضخامة؟ خمسون مليون دولار؟!”

كانت كلماتها كالسياط. الشك، الاتهام، عدم التصديق، كلها في عبارة واحدة.

أصبح الجو في القاعة أكثر توترًا، وتبادل الحضور النظرات فيما بينهم. الآن فقط فهم الجميع سبب صدمة السيدة العجوز. كيف يمكن لشركة صغيرة ناشئة أن تُبرم صفقة بهذه القيمة؟

بدأت همسات عائلة تيمور تتعالى من جديد، هذه المرة بلهجة أكثر عنفًا:
“مستحيل! جنى لا تقول الحقيقة.”

“هذه الشركة بالكاد تجاوزت مرحلة التأسيس. خمسون مليون؟ غير منطقي.”

“واضح أنها اختلقت القصة لتُجنب نفسها الطرد.”

“مخادعة. مثل ما توقّعنا دائمًا.”

كل تلك الاټهامات طعنت جنى في أعماقها. وجهها بدأ يرتجف، لكنه لم يكن ارتجاف خوف… بل ارتجاف من الڠضب المكبوت والانكسار في آنٍ واحد.

هي التي خرجت صباحًا تواجه السخرية والشكوك، وعادت بإنجاز يُحطم كل التوقعات. لكن بدلًا من الامتنان، كان الاستقبال إهانة، حتى من جدتها نفسها. لم يُصدقها أحد. ولم يُمنح لها ولو لحظة فخر واحدة.

رفعت رأسها، واستجمعت شجاعتها، وقالت بصوتٍ عالٍ وواضح:
“العقد يحمل الختم الرسمي لشركة فاضل. وإذا كنتم لا تصدقون، فتحققوا بأنفسكم.”

ظهرت على ملامحها ثقة صلبة، لم يسبق لأحد أن رآها بها من قبل.

ضحك بلال ساخرًا، ثم قال متحديًا:
“حسنًا، سأتصل بالشركة بنفسي.”

أخرج هاتفه بسرعة واتصل بمكتب شركة فاضِل، وألقى سؤاله دون مقدمات.

ساد صمتٌ ثقيل بينما الجميع يراقب ملامحه المتبدلة. ومع أول ردٍ من الطرف الآخر، اتسعت عينا بلال تدريجيًا، وتجمد وجهه، وبدأت يده ترتجف بخفة.

أغلق المكالمة ببطء وكأن الكلمات ثقلت عليه، ثم تمتم، ووجهه شاحب كالأوراق:
“إنهم… يؤكدون أن الطلبية حقيقية. شركة فاضِل تتعاون معنا بالفعل.”

ضجّ المكان بصمتٍ أشد وقعًا من أي صړاخ. وجوه مذهولة، أفواه مفتوحة، عيون تتناقل النظر بين بلال وجنى.

أما جنى، فقد رفعت عينيها، ونظرت إلى الحضور نظرة ثابتة وهادئة. في عينيها بريق انتصارٍ حقيقي. الانزعاج الذي كان ينهش روحها، تبدد شيئًا فشيئًا، وحلّ محله شعور بالهدوء العميق.

كانت تلك اللحظة… لحظة انتصارها.

في تمام السادسة مساءً، كانت السيدة غادة قد أعدّت طاولة عامرة بأشهى الأطباق، ووقفت تنتظر جنى بقلقٍ يختبئ خلف ابتسامة مصطنعة. قلب الأم كان يعرف أن ابنتها تواجه يومًا عصيبًا، فقررت أن تُطفئ ڼار الخيبة المحتملة بطبق دافئ وحضن أكثر دفئًا.

بمجرد أن دلفت جنى إلى المنزل، سبقتها غادة بالكلمات، تحاول طمأنتها:
“جنى، حتى لو طُردتِ من عملكِ… لا تدعي ذلك يُكسركِ. شخص بقدراتكِ لن يصعب عليه إيجاد فرصة جديدة.”

كانت كلماتها مملوءة بالعطف، لكنها مغموسة بالحذر أيضًا. لم ترغب في تعميق جرحٍ ربما لم يُفتح بعد.

نظرت غادة إلى جنى نظرة فاحصة، فقد رأت توترًا خافتًا خلف ملامحها الهادئة، وسألتها باندهاشٍ مفاجئ:
“آه؟ هل… هل غيّرت السيدة العجوز رأيها؟”

في نظرها، لم يكن هناك احتمال لنجاة جنى إلا إذا تخلّت العجوز عن قسۏتها وأظهرت رحمة غير متوقعة.

لكن جنى هزت رأسها، وعيناها تلمعان بصدقٍ هادئ:
“لا، لم تغيّر رأيها… أنا وقّعت طلبًا بقيمة خمسين مليونًا.”

تجمّدت غادة في مكانها، وكأن الزمان توقف للحظة. فتحت فمها بدهشة غير مصدّقة، وقالت وهي تحدّق بابنتها:
“ماذا؟ خمسون مليون؟ جنى… هل تمزحين؟! متى حَظيتِ بيوم محظوظ كهذا؟! انظري لي… هل أبدو كمَن يُصدّق هذا؟!”

تنهدت جنى، ثم تمتمت بشيء من الذهول:
“أنا نفسي لا أصدق ذلك. ما حدث اليوم يبدو كأنه حلم… وكأنني لا أزال نائمة.”

وفي لحظة عاطفية مفاجئة، اندفعت غادة نحو جنى، وضمتها إليها بحرارة. دموع الفرحة تلمع في عينيها، وابتسامتها تسبق صوتها:
“ابنتي العزيزة، أنتِ مدهشة… أنا فخورة بكِ، وأحبكِ كثيرًا!”

ضحكت جنى بخفة، وهي ترى وجه أمها مفعمًا بالفرح الحقيقي. ولأول مرة منذ زمن، شعرت بالدفء يتسلل إلى قلبها.

أما رائد، الذي كان واقفًا بصمت إلى جانبها، فقد ابتسم بدوره. لم يتكلم، لكن راحته انعكست في نظراته.

عند الساعة العاشرة ليلًا، كانت جنى مستلقية في سريرها، تنظر إلى السقف، ټغرق في بحر أفكارٍ متلاحقة.

منذ أن تزوجت رائد قبل ثلاث سنوات، تتابعت عليها النكبات واحدة تلو الأخرى. ۏفاة جدها كانت البداية، ثم انحدارها وسط عائلة لا ترحم، وعيون لا ترى فيها سوى عبء. عانت من القسۏة والخذلان، وذبلت تحت وطأة التوقعات والتهكمات.

لكن اليوم… بعد صڤعة ليان المهينة، حدث ما لم يخطر ببال أحد.

جياني، نائب رئيس شركة فاضِل، قدّم لها ما لم تقدمه عائلتها يومًا: التقدير.

والأهم… الثقة.

صفقة بقيمة خمسين مليون دولار لم تُغيّر فقط مستقبلها المهني، بل أيقظت داخلها تلك الفتاة التي كادت تنساها… جنى التي كانت تحلم.

همست لنفسها، شبه ضاحكة، شبه حزينة:
“متى سأتمكن من عيش الحياة التي أريدها؟”

جاءها صوت رائد، فجأة، من تحت اللحاف:
“أستطيع أن أمنحكِ كل ما تحلمين به.”

تنهدت جنى، ورفعت الغطاء لتغطي وجهها وقالت بتنهيدة مشاكسة:
“سأكون ممتنة… فقط لا تورطني معك.”

ثم غطّت رأسها بالحاف، محاولةً أن تسرق بعض الراحة.

وفي صباح اليوم التالي، اهتزّت أرجاء مدينة الشيخ بخبر لم يتوقعه أحد:
شركة فاضل وقّعت عقد تعاون مع شركة أنجول للديكور.

الدهشة انتشرت كالڼار في الهشيم.

شركة فاضِل، عملاق العقارات، والتي كانت لعقودٍ ترفض التعاون مع معظم الشركات المحلية، اختارت الآن أن تُبرم عقدًا مع شركة أنجول التي لا أحد يأخذها على محمل الجد؟!

كان الخبر كالصاعقة.

لم يفهم أحد سبب اختيار شركة فاضِل لشركة صغيرة وغير معروفة مثل “أنجول للديكور”، لكن، وبغض النظر عن الدافع، فقد ذاع صيت الشركة هذه المرة في أرجاء مدينة الشيخ.

شعرت عائلة تيمور بفخر عارم لأن “أنجول للديكور” باتت تحت جناح فاضِل العملاقة.
أما السيدة العجوز، فقد غمرها الفرح، أخيرًا حصلت حفيدتها جنى على شرف يليق بالعائلة.

احتفالًا بهذه اللحظة الاستثنائية، قررت السيدة العجوز إقامة مأدبة فخمة في فندق يو، احتفاءً بما حققته جنى.

عند الساعة الحادية عشرة صباحًا، وقفت السيدة غادة خارج غرفة النوم تنادي:
“جنى، هل أنهيتِ استعدادك؟ أنتِ بطلة هذا اليوم، لا تتأخري!”

رد صوت ناعم من الداخل:
“قريبًا… فقط دقائق.”

كانت جنى تولي أهمية كبيرة لهذا اليوم. رأته بداية جديدة، وانطلاقة مختلفة، وأرادت أن تظهر في أبهى حلة.
وبعد عشر دقائق، خرجت من غرفتها كأنها خرجت من قصة خيالية؛ فستان أبيض رقيق، حذاء بكعب عالٍ، ومكياج خفيف أبرز نعومتها.

كانت جذابة… ساحرة.

جلس رائد على الأريكة، ولم يستطع أن يمنع نفسه من التحديق بها، مرارًا.

علّقت السيدة غادة بفخر:
“ابنتي فاتنة اليوم!”
ثم التفتت إلى رائد باستياء وأضافت:
“لكن للأسف، من سوء حظها أنها تزوّجت من أحمق مثلك!”

تدخلت جنى بسرعة، وهي تأخذ ذراع والدتها:
“أمي، لا تتكلمي عنه هكذا. دعينا نذهب فحسب.”

لكن السيدة غادة لم تتمالك نفسها، فعادت لرائد وقالت وهي تشير بإصبعها نحوه:
“وما الذي أتى بك معنا؟ كان عليك البقاء في المنزل!”

ردت جنى ببرود:
“أنا من دعوته. لن أتركه لېموت جوعًا.”

تنهدت والدتها وقالت بامتعاض:
“طيبة أكثر من اللازم.”
ثم اقتربت من رائد وحذّرته:
“حافظ على صمتك هناك، وإلا لن تسلم مني عند عودتنا.”

حجزت عائلة تيمور أكثر من اثني عشر مقعدًا في فندق يو.
وحين وصلت جنى، كان جميع أفراد العائلة قد سبقوها، وحتى السيدة العجوز وصلت باكرًا.

وما إن ظهر رائد، حتى علت الهمسات، والنظرات المليئة بالاحتقار سرعان ما توجهت نحوه.
لكن، ولأن جنى كانت نجمة اليوم، فقد نبهت السيدة العجوز الجميع مسبقًا ألا يوجهوا له أي كلمة.

لأول مرة، التزمت العائلة الصمت تجاهه.

لوّحت السيدة العجوز حالما رأت جنى، وقالت بصوت دافئ:
“جنى، تعالي واجلسي بجانبي.”

كان هذا أمرًا استثنائيًا. مكان السيدة العجوز لا يُشارك إلا مع من يحمل مكانة خاصة في العائلة—شيوخها أو أبناؤها المفضّلون.
لكن الآن، ها هي جنى تتلقى هذا الشرف.

لم تتمالك نفسها من الفرح، وشعرت بقلبها ينبض بالأمل. ربما، إن اجتهدت أكثر، ستنال التقدير أخيرًا… وربما، ستكسب اعتراف العائلة.

اعتدلت في وقفتها، وبتألق وهدوء، اتجهت لتجلس بجانب جدتها.

أما رائد، فقد تبعها دون دعوة، وجلس بجانبها.

رفعت السيدة العجوز حاجبيها وقالت ببرود واضح:
“هذا ليس مكانك.”

كان لكلماتها وقع ثقيل، لكن رائد لم يتزحزح. تجاهلها تمامًا.

فهمت جنى الموقف على الفور، فتمتمت على عجل:
“اذهب واجلس في مكان آخر.”

أطاعها رائد دون أن ينطق بكلمة، وتوجه إلى ركنٍ بعيد وجلس.

عند الساعة الثانية عشرة، بدأت المأدبة. ساد الصمت القاعة الفخمة.

رفعت السيدة العجوز كأسها وقالت بنبرة عالية:
“اليوم، جنى ساهمت في إنجاز عظيم. لقد رفعت اسم عائلتنا عاليًا… تستحق الاحترام والتقدير.”

كانت كلماتها كالموسيقى في أذني جنى. شعرت وكأنها تلميذة حصلت أخيرًا على إشادة أستاذها.
ردّت بخجل:
“شكرًا لكِ يا جدتي.”

لكن بلال، الذي جلس بالقرب منها، لم يستطع إخفاء غيرته، فقال بنبرة ساخرة مغطاة بالمدح:
“بصراحة، جدتي هي من تستحق الشكر. هي من رأت موهبة جنى، ولو لم تنقلها إلى قسم الأعمال، لما كان هذا الإنجاز ليرى النور.”

كان يقصد أن جنى مجرّد منفّذة، لا أكثر.

ابتسمت السيدة العجوز ولم تُنكر كلام بلال، ثم نظرت إلى جنى وقالت:
“هيا، أخبرينا كيف حصلتِ على الصفقة؟”

وقبل أن تفتح جنى فمها…

اندفع شخص من بين الحضور فجأة، وسكب كأسًا ممتلئًا على وجهها!

في تلك اللحظة، انطلق صوت نسائي حاد يخترق القاعة:
“أيتها الثعلبة! أغويتِ مديري وتسببتِ في طردي! وقحة!”

رواية أحببته رغم جنونه الفصل الخامس عشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top