بعد عدة أشهر من الحبس في المنزل.
ورغم أنهم يعيشون في أمريكا، إلا أن المقاطعة التي يقطنون فيها تتميز بكثافة سكانية مسلمة، مما يجعل هذه الڤضيحة أكثر تأثيرًا وتعقيدًا. الجيران والناس لم يهدأوا لحظة عن الحديث عنها؛ همس البعض في الخفاء، فيما ضحك آخرون بسخرية وقالوا:
ــ”شايفين بطنها؟ ولسه تقولك ما عملتش علاقة، ولا عارفة ازاي بقت حامل!”
ــ “عيلة زايد بنتهم فضحتهم قدام الناس، وڤضيحة الحمل دي مش هتعدي بسهولة!”
ــ “والغريب إن الخطوبة مع عيلة الطارق لسه مستمرة! أنا مش مستوعبة. “
ــ “دي أصلًا كانت مش لايقة عليهم من الأول، لا في شكل ولا في التعليم. دلوقتي بعد الڤضيحة دي؟ ياريتها تختفي من هنا خالص!”
وسط كل هذا القيل والقال، جاء ريان طارق بنفسه إلى منزلهم.
كانت نورا قد اقتربت من نهاية حملها، وبطنها المنتفخ بدا واضحًا تحت ملابسها الفضفاضة.
جلس والد نورا مع ريان في غرفة المكتب، يحاول أن يتحدث برفق.
قال مترددًا:
“بص يا ريان… إنت ناوي تفسخ الخطوبة ولا لسه؟”
ظل ريان صامتًا للحظة، ثم رد ببرود:
“لأ… جدي مش موافق خالص.”
لم يكن لأحد أن يعارض قرار عائلة طارق، فهم من الطبقة الثرية النافذة، وكان بوسعهم إنهاء الخطوبة دون أي تبرير.
فلماذا هذا الإصرار على الاستمرار؟
كان الڠضب يأكل قلب ريان كلما تذكر وجه نورا، فتمتم بينه وبين نفسه:
“أنا أصلا كنت مش طايق شكلها، ودلوقتي كمان حامل؟! ليه أنا اللي أشيل الليلة دي كلها؟!”
سارع والد نورا يقول مطمئنًا:
“ما تشيلش هم… أول ما تولد البنت، هاخدها وأبعدها بعيد عنكم.”
وفجأة، وبعد صمت طويل، رفعت نورا رأسها، ونظرت إليهم بثبات قائلة:
“لأ.”
خلال الأشهر القليلة الماضية، مرت عليها ليالٍ كانت تبكي فيها بصمت، وأيامٌ شعرت فيها أن العالم كله انطفأ حولها.
لكن مع مرور الوقت، أصبح نبض صغيرها ينبض داخلها بقوة، يعلن وجوده، يفرضه عليها كحقيقة لا يمكن إنكارها.
رغم كل شيء، لم تستطع إلا أن تحبه.
كان طفلاً بريئًا، لا ذنب له.
لا ينبغي أن يكون ضحيةً للقرارات الظالمة.
أرادت نورا أن تهرب، أن ترفض، أن تُلغي هذا الزواج المقيّد…
لكن في تلك اللحظة، حين بلغ الألم أوجه، وانقبض بطنها بتشنجاتٍ مفاجئة، فهمت…
لقد حان وقت الولادة.
بعد خمس سنوات.
ضوء الشمس الخفيف تسلل عبر نوافذ الطائرة الخاصة، حيث كانت النسمات الباردة تلامس خدود المسافرين بهدوء.
“ماما، أصحي! الطيارة خلاص قربت تهبط.”
جاء الصوت الرقيق ليخترق غفوة نورا، فتحت عينيها ببطء لترى أمامها وجهًا صغيرًا ناعم الملامح، تضيئه عيناها الواسعتان كحبتين من العنب الأسود اللامع.
شيري، طفلتها التي أنقذتها بكل ما تملكه من قوة.
رفعت شيري ذقنها الصغير على كفيها وقالت وهي تبتسم:
“ماما، إحنا رجعنا أمريكا عشان ندور على بابا، مش كده؟”
ابتسمت نورا ابتسامة باهتة، واستندت بظهرها إلى المقعد الجلدي الفخم قائلة:
“مفيش بابا، يا شيري.”
تنهدت الصغيرة بعمق، محاولة أن تبدو أكبر من عمرها:
“يا ماما، أنا مش طفلة صغيرة عشان تتعاملي معايا كده… يعني إيه مفيش بابا؟! هو أنا ظهرت من العدم كده ولا طلعت من تحت الأرض؟!”
ضحكت نورا بهدوء ولم تُجب، بينما كانت ترتب خصلات شعرها الناعم الذي انسدل حتى كتفيها.
كانت بشرتها الوردية، وعظام وجهها الدقيقة، وابتسامتها الرقيقة، تجعلها محط أنظار الركاب القلائل من حولها.
استمرت شيري في الدندنة بتذمر طفولي:
“طب لو مش جايين عشان بابا، يبقى جايين ندور على أخويا الكبير بخمس دقايق، صح؟!”
الأخ الأكبر…
للحظة، انطفأ البريق في عيني نورا، واستعادت ذكريات مؤلمة.
في ذلك اليوم الأسود، وضعت توأمين.
صبيًا وبنتًا.
لكن لم يُسمح لها إلا بالاحتفاظ بطفل واحد… شيري.
أما الطفل الآخر، فقد سُلِب منها عنوة، دون رحمة.
ورغم أنها حاربت بكل جوارحها، هبطت من سرير الولادة، زحفت على الأرض في محاولة بائسة لاستعادة رضيعها، لكنها لم تنجح.
دُفنت دموعها مع حرمانها، وتحطمت قوتها مع فراقه.
لاحقًا، اڼهارت صحتها انهيارًا شبه كامل، وأنقذتها عمتها في اللحظة الأخيرة، لتنقلها للعلاج بالخارج.
واحتاجت لسنوات خمس كاملة لتعيد بناء نفسها…
استعادت صحتها، وانتصرت على السمنة التي عانت منها بسبب اضطرابات الطفولة.
وبالرغم من أن عودتها الظاهرية كانت لإنهاء زواجها رسميًا مع عائلة طارق، إلا أن قلبها كان يعرف الحقيقة…
لقد عادت لتبحث عن ابنها.
بعد نصف ساعة، توقفت الطائرة تمامًا وسط أزيز خاڤت للمحركات.
وضعت نورا شيري فوق الحقيبة، ودفعتهما برشاقة وسط الزحام.
كانت خطواتها ثابتة، لكن بداخلها كان قلبها يرتجف.
وما إن فتحت هاتفها المحمول، حتى استقبلتها مكالمة فورية.
رفعت الهاتف إلى أذنها، وجاءها صوتٌ دافئ مشحون بالطاقة:
“أنتي، خلي بالك! الأوضاع هنا مش سهلة زي الأول!”
سألت نورا بهدوء خالٍ من الدهشة:
“ليه يعني؟”
أجاب المتصل بنبرة شبه مرحة:
“فارس قاسم… عارفاه طبعًا؟ الراجل الكبير بتاع العيلة الأولى هنا… بيجمع معلومات عنك من كل مكان! ناوي يوصل لك المرة دي مهما حصل!”
ردّت نورا بتثاؤب بسيط:
“… أوه.”
أكمل الصوت بحماس:
“أيام ما كنتي بره، مكنش قادر يقرب منك. إنما دلوقتي وإنتي هنا… مفيش مفر!
وعلى فكرة… الراجل ده مش بس غني، ده قمر! لو حصلت بينكم قصة حب، دي تبقى حكاية تتكتب في الكتب!”
ابتسمت نورا بهدوء، نظرت إلى شيري، ثم همست في سرها:
“أنا هنا مش عشان أعيش قصة حب… أنا هنا علشان أرجّع اللي ضاع.”
كانت العائلة الأولى في البلاد إمبراطورية قائمة بذاتها، ذات تجارة ضخمة وشبكة معقدة من العلاقات الشخصية المتشابكة.
لهذا، كانت نورا تدرك تمامًا أنه لا ينبغي لها أن تتورط في صراعات الطبقة العليا، سواء العلنية منها أو السرية.
لقد عادت إلى الولايات المتحدة من أجل هدفٍ واحد فقط: البحث عن ابنها.
لا وقت لديها للمشاكل الجانبية.
بينما كانت تقترب من بوابة الخروج في صالة الوصول، التقطت عيناها شخصية مألوفة بين الحشود.
تنهدت ببرود وأجابت هامسة وهي تغلق الهاتف:
“باين عليا مش محظوظة كفاية.”
وضعت الهاتف في جيب معطفها بلامبالاة، وأخفضت عينيها وهي تمضي في طريقها.
لم تكن تتوقع أن تصادف وجهه بهذه السرعة…
وهناك، وسط الزحام، وقف رجل يرتدي بدلة أنيقة، ملامحه تعبر عن مزيج غريب من الغطرسة واللهفة.
لقد كان ريان طارق… خطيبها السابق.
كان أكثر نضجًا مما كان عليه قبل خمس سنوات، لكن ملامحه احتفظت بنفس الغرور البارد.
كان يحمل لافتة بيده ويتأفف بانزعاج واضح:
“هو فين بقى البنت التخينة النحس دي؟ هتطلع امتى؟!”
اقترب منه كبير خدمه، يهمس بتحذير:
“يا سيد ريان، بالله عليك خليك هادي… السيد العجوز أوصى حضرتك إن كل حاجة تتم بهدوء، حتى لو قررتوا تفسخوا الجواز.”
أطلق ريان زفيرًا غاضبًا، وعقد حاجبيه بضيق:
“هادي إيه بس؟! دي كانت تخينة زمان تخن مش طبيعي… متخيل زادت أد أيه بعد ما ولدت؟!
أكيد دلوقتي بتحلم نكمّل جوازنا بأي شكل!
إيه المصېبة دي اللي حطيت نفسي فيها؟!”
كانت كلماته البذيئة تتسلل إلى آذان نورا كطعنات باردة، لكنها لم تحرك ساكنًا، ولم تُظهر أي تأثر.
طوال السنوات الخمس الماضية، حاولت مرارًا وتكرارًا فسخ هذه الزيجة المشؤومة، لكن لا آل زايد ولا آل طارق وافقوا.
من كان يبتز من؟
من كان بحاجة إلى الآخر حقًا؟
أسئلة توقفت نورا عن البحث عن إجابات لها منذ وقتٍ طويل.
لم تكن تريد أي صلة بريان طارق.
كل ما أرادته الآن هو الرحيل فورًا مع شيري، دون أن تلتفت إلى الوراء.
ولكن…
بينما كانت تهم بالمغادرة، الټفت ريان مصادفة، فرآها.
وسرعان ما اتسعت عيناه بدهشة غير مصدقة!
فقد كانت أول امرأة خرجت من بوابة المطار…
ساحرة بشكل لا يوصف.
خطواتها هادئة وواثقة، وجهها مضيء، وكأن هالة من الجمال الخالص تحيط بها.
للحظة، بدا وكأن المطار بأسره قد أضاء بنورها.
عدل ريان من وقفته سريعًا، وسوّى ياقة بدلته، ثم ابتسم بثقة متعجرفة وهو يتقدم نحوها قائلاً:
“إزيك يا قمر؟ ممكن أعرف اسم الجميلة دي؟”
كان منظره أشبه بطاووس ينفش ريشه أمام أنثاه.
توقفت نورا في مكانها، وألقت عليه نظرة باردة كأنها سهم.
ثم قالت بهدوء قاټل:
“نورا.”