رواية حتى بعد الموت الفصل 82

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 82

“دكتور… كيف حاله؟”
خرج صوت نوران مرتعشًا وهي تشدّ على كمّ معطفها بقوة، كأنها تتشبث بالأمل الهارب. كان قلبها يخفق بعنف، وكل خلية في جسدها تتوجس من سماع…

الأسوأ.

لكن الطبيب، رغم التعب الظاهر في ملامحه، منحها بصيصًا من الطمأنينة حين قال:
“لحسن الحظ، لاحظت الطاقم التمريضي تدهور حالته بسرعة، وتمكنا من التدخل في اللحظة المناسبة. لقد أنقذناه هذه المرة يا نوران… لكنني لن أُخفي عنكِ الحقيقة.”

تسمرت نظراتها فيه، بينما هو يضيف بصوت حازم:
“والدكِ في وضع حرج للغاية. نحن بحاجة إلى تدخّل جراحي دقيق في الدماغ، ولا أحد مؤهل لهذه المهمة سوى الدكتور الاجنبي ليو، أخصائي الأعصاب الأشهر في هذا المجال والعالم.”

توقف لبرهة، ثم أنهى كلامه بنبرة ثقيلة:
“إن لم نتمكن من إحضاره فورًا، فقد لا يُكتب لوالدك النجاة في المرة القادمة.”

شعرت نوران بقلقٍ عميق يعصف بها. كانت تتمنى العثور على ليو منذ فترة، وكانت قد حاولت بشتى الطرق، حتى استعانت بصديقها كريم، لكن كل المحاولات باءت بالفشل.
شبكت يديها أمام وجهها في يأسٍ صامت، وبدت عاجزة أمام الواقع القاسي.

وعندما تم نقل جاد إلى غرفة العناية المركزة، تبعته بخطوات واهنة. وعندما رأته مستلقيًا هناك، بدا لها كأنه شخص آخر.

كان وجهه شاحبًا، وعيناه مغلقتين بإحكام كأنما يهربان من هذا العالم.
اقتربت منه ببطء، وهمست بصوت مكسور:
“أبي…”

لكن صوتها ارتدّ إليها كصدى بعيد. لم يحرّك ساكنًا. كانت كمن تنادي في صحراء موحشة.

نظرت إلى يده اليسرى، التي خرجت من تحت البطانية، فوجدتها نحيلة، متغضنة، وقد أكل العمر من جلدها. يد كانت تمسك بها في طفولتها، تشد على يدها بحنان، لكنها الآن تبدو هشة، بالكاد تُمسك بالحياة.

بكت نوران، بدموع لم تكن مجرد دموع خوف، بل دموع عجز.
وضعت رأسها على صدره، وارتجف صوتها:
“أبي… لا تتركني الآن… لا تتركني وحدي.”

ورغم كل ما فعله لغيره، لم يُقْسُ عليها يومًا. لم يرفع صوته عليها، لم يكسر قلبها، لم يُهِنها. كيف تقف اليوم أمامه، عاجزة، وهو يُصارع الموت؟

فجأة، ومضة من الذكريات انبثقت في عقلها.
تذكرت ذلك اليوم المظلم، يوم فكرت في إنهاء حياتها بالقفز، وتذكرت كيف أن أحمد هو من أنقذها.
في لحظة صدق، قال إنه يستطيع الوصول إلى ليو، وإنه إن أرادت ذلك، يمكنه مساعدتها. كان يعرفه، وله علاقاته، وقدراته.
لكن… ذلك كان في وقتٍ لم تكن تكرهه فيه كما تكرهه اليوم.

أحمد، الذي أصبحت تراه خصمًا، كان اليوم أملها الوحيد.

كيف تطلب منه المساعدة الآن؟ بعد أن قطعته من حياتها تمامًا؟ بعد أن أقسمت أنها لن تراه مجددًا؟

لكن المو.ت لا ينتظر الكرامة.

مسحت دموعها سريعًا، وخرجت من غرفة العناية، وقد قررت.

سألت هشام، مساعد والدها، إن كان يعرف مكان أحمد، وبعد دقائق كانت قد استقلت سيارة أجرة إلى…

النادي الفضي.

لم يكن المكان مألوفًا لها. أضواؤه خافتة، موسيقاه صاخبة، وفضاؤه يعجّ بروائح العطر والشراب والدخان. راقصات يتمايلن بإغر.اء، ووجوه سكر.ى.

تجاهلت كل ذلك، وسارت بعزم نحو إحدى الغرف الخاصة في عمق النادي.
فتح هشام الباب، ودخلت إلى قاعة فاخرة تتسع لأكثر من مئة شخص، غارقة في صخب وضجيج لا يشبه حياتها.

ورغم الزحام، رأت أحمد فورًا.
كان جالسًا على كرسي جلدي، مغمض العينين، وكأن لا شيء في العالم يعنيه.

بجانبه جلس نديم الطائي، رجل أنيق يرتدي ملابس رمادية غير رسمية، يغمس قدميه في حوض ماء دافئ.
وفيما الآخرون يحتسون الشراب بأنواعه، كان هو يحتسي شاي الأعشاب. رجل يعامل المكان كمنتجع صحي، لا نادٍ ليلي.

وفجأة، اقتربت امرأة جر.يئة من أحمد، وانحنت تحاول تق.بيله.
استيقظ أحمد على الفور، أنفه ملأته رائحة عطرها القوي، وبلا تردد، دفعها بقس.وة بعيدًا.

صرخت المرأة وسقطت على الأرض، رافعة تنورتها القصيرة، وسط موجة من صفير الرجال وضحكاتهم الرخيصة.

وقفت نوران هناك، تشعر بالاختناق.

تلاقت عيناها بعيني أحمد، الذي بدا ساخرًا، غير متفاجئ.
كانت تعلم أنه سيظن أنها عادت من أجل شيء.

وكان محقًا.

لكنها لم تعد لتستجديه، بل لتُنقذ حياة والدها.

اقتربت منه وسط نظرات الفضول والدهشة، بينما علّقت إحدى النساء باستهزاء:
“يا فتاة، أظنكِ دخلتِ الغرفة الخطأ.”

تجاهلت نوران السخرية، وتقدّمت أكثر، وقالت بلهجة رسمية:
“سيد القيسي… هل يمكننا التحدث على انفراد؟”

رد أحمد وهو ينظر إليها ببرود:
“تعالي إلى هنا.”

ضجّت الغرفة بالهمسات، ونظرات الاستغراب.
اقتربت نوران، ووقفت أمامه بثبات، رغم أن جسدها كان يرتجف من الداخل.

ابتسم نديم وقال:
“مرحبًا، نوران. مضى وقت طويل. هل ترغبين بنقع قدميك؟”

ردّت باقتضاب:
“شكرًا، لا.”

فبدأ بإلقاء محاضرته المعتادة حول فوائد نقع القدمين، لكن أحمد قاطعه بضجر:
“نديم… اذهب للنوم.”

وساد الصمت في القاعة، بينما سألها أحمد أخيرًا بنبرة خالية من أي عاطفة:
“لماذا أنتِ هنا؟”

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 83

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top