الفصل 121
لم يُخفِ تميم الحقيقة عن جودت، بل أجاب ببساطة، وعيناه تحملان مزيجًا من الهدوء والصراحة:
“يا كبير، إنها ابنة عمي، لكنها بالنسبة لي كأخت حقيقية.”
انعقد حاجبا جودت في ارتباك، ولم يلبث أن تساءل بنبرة مشوبة بالدهشة:
“كيف لم تذكر لي يومًا أن لديك ابنة عم بارعة في البرمجة؟ لحظة…” توقف فجأة، وكأن شرارة خاطفة اشتعلت في ذهنه، قبل أن يحدق في تميم بعينين متسعتين. “يا دكتور، لا تقل لي إن الكتب التي استعرتها مني كانت لها؟ وتلك اللعبة الصغيرة… هل هي من صُنْعها أيضًا؟!”
بلا كلمة، اكتفى تميم بهزة رأس هادئة، وكأن الأمر كان واضحًا منذ البداية.
في تلك اللحظة، أدرك جودت أن صديقة تميم، التي لم يسمع عنها من قبل، لم تكن مجرد هاوية للبرمجة، بل كانت تخفي وراء هدوئها حقائق مذهلة. لم تكن موهبتها مجرد مهارة عادية، بل شيئًا يتجاوز كل توقعاته.
ابتسم بمكر، ثم ضرب ذراع تميم بخفة وقال بنبرة مازحة، لكنها تحمل عتابًا خفيًّا:
“أيها الوغد المتسلل! كيف لك أن تخفي عني مثل هذه الموهبة الفذة؟! أكنت تخطط للاحتفاظ بها لنفسك؟”
ضحك تميم، نبرة صوته مزيج من الاعتذار والتفاهم:
“أختي تحب العزلة. لا تحب أن يتدخل أحد في شؤونها…”
وفجأة، شقّ صراخ حاد سكون القاعة، صوت مفعم بالدهشة والحماسة، قادم من بين الحشود:
“أدركتُ! أخيرًا أدركتُ هوية الآنسة شيهانة الحقيقية!”
استدار جودت بسرعة، محاولًا تحديد مصدر الصوت. كان المتحدث رجلاً في منتصف العمر، يرتدي بذلة أنيقة، ويبدو أن الأدرينالين قد اندفع في عروقه مع اكتشافه المفاجئ. تقدم إلى مقدمة الحشد بخطوات متسارعة، وعيناه تشعّان انفعالًا، قبل أن يهتف بحماس:
“رأيتها من قبل! في حفل عيد ميلاد السيد الصغير لين! لا عجب أنها بدت مألوفة للغاية…” توقف لثانية، ثم أسقط القنبلة الكبرى بصوت مشحون بالمفاجأة:
“إنها زوجة الرئيس التنفيذي مراد السابقة!”
ماذا؟!
اتسعت أعين جودت وشاهر في حالة صدمة.
كيف يمكن أن يكون هذا ممكنًا… شيهانة زوجة مراد السابقة!
ولسببٍ ما، تملّك كلاهما شعور غامض من التعقيد، وكأن هذا الكشف المفاجئ أثار داخلهما مشاعر مختلطة لم يستطيعا تفسيرها.
في إحدى غرف الاستراحة، جلس شيهانة ومراد وجهًا لوجه، تفصل بينهما طاولة صغيرة لكنها لم تستطع أن تخفي المسافة الشاسعة التي باتت تفصل بين حياتيهما.
منذ أن دخلت، كان مراد يحدّق بها بنظرة طويلة، نظرة تحمل حنينًا خفيًا، لكن أفكاره ومشاعره ظلّت حبيسة خلف عينيه الداكنتين.
مرّت دقيقة من الصمت، بدت فيها الغرفة وكأنها محاصرة بثقل الذكريات غير المعلنة. وحين رأت شيهانة أنه لا ينوي التحدث، قطعت الصمت ببرود:
“إذا لم يكن لديك ما تقوله، فسأغادر.”
رفع مراد عينيه نحوها أخيرًا وسأل بصوت هادئ لكن نافذ:
“أليس لديك أي شيء تودّين إخباره لي؟”
رمقته شيهانة باستغراب، وكأنها تحاول سبر ما وراء كلماته، ثم أجابت ببساطة:
“ماذا تقصد بذلك؟”
“اشرحي التغييرات الأخيرة.”
انعقد حاجبا شيهانة في حيرة، وقالت بلهجة لا تخلو من الحدة:
“ولماذا يجب أن أفعل ذلك؟”
لم تكن مدينة له بأي تفسير.
قرأ مراد أفكارها من خلال نظرتها الحادة، فقرر تغيير أسلوبه وسأل مباشرة:
“هل استعدتِ ذاكرتك؟”
“نعم.”
“هل كنتِ عبقرية في مجال الكمبيوتر قبل كل هذا؟”
“نعم.”
تأملها مراد للحظات، وكأن كل إجابة منها كانت تعيد رسم ملامحها في ذهنه بشكل جديد. ثم قال بصوت جاد، نبرته تحمل مزيجًا من الإعجاب والندم:
“لقد قلّلتُ من شأنك حقًا… أنا معجب.”
لكن شيهانة لم تُظهر أي تأثر، بل ردّت ببرود وهي تقطع الطريق على أي حديث شخصي:
“اعتقدتُ أننا هنا لمناقشة الشراكة.”
بالنسبة لها، كان الماضي مجرد حلمٍ انتهى. والآن، بعد أن استعادت ذاكرتها، باتت مستعدة للتخلي عنه بالكامل. لم تكن لديها رغبة في إعادة فتح ذلك الباب المغلق.
راقبها مراد بصمت، ولاحظ كيف أصبحت نظرتها أكثر حزمًا، وأكثر بُعدًا عنه من أي وقت مضى. للحظة، لمعت عيناه الداكنتان قبل أن يرسم ابتسامة خفيفة على شفتيه، وقال:
“حسنًا، إذًا لنناقش الشراكة…”
ثم مدّ يده بوثيقة إليها وهو يوضح:
“تحتوي هذه الوثيقة على البنود الأساسية. اقرئيها بعناية، وإذا وافقتِ عليها، يمكنكِ زيارة شركتي غدًا لتوقيع العقد.”
تناولت شيهانة الوثيقة دون أن تفتحها، وضعتها في جيبها، ثم نهضت من مقعدها استعدادًا للمغادرة.
نظر إليها مراد بذهول طفيف وسأل:
“ألن تنظري إليها؟ إلى أين أنتِ ذاهبة؟”
أجابت دون أن تلتفت إليه:
“سأعود بها إلى المنزل لدراستها جيدًا. إذا لم أجد فيها أي مشكلة، فسيأتي إليك الرئيس التنفيذي شاهر من شركتي لتوقيع العقد غدًا.”
الفصل 122
استدارت شيهانة لتنصرف، لكن مراد تحدث فجأة، ناظرًا إليها بثبات:
“وبما أن لدينا الوقت الآن، فقد يكون من الأفضل إنهاء الأمر مباشرة.”
توقفت شيهانة عند عتبة الباب، صمتت للحظة، ثم استدارت ببطء وعادت إلى مقعدها.
تناولت الوثيقة، وبدأت في تصفحها ببطء، عيناها تتنقلان بين السطور، بينما ظل مراد يراقبها بصمت، يدرس ملامحها كما لو كان يحاول فك شيفرة أفكارها.
تناول كوب الشاي بين يديه وتأملها من خلال بخاره المتصاعد. كانت مشاعره معقدة، متشابكة بين الدهشة والإعجاب.
لم يكن يتوقع أن تخضع شيهانة لمثل هذا التغيير الجذري.
كان الأمر أشبه بالشعور الذي يراود أقارب الأبطال الخارقين عندما يكتشفون هويتهم الحقيقية—صدمة تفوق التوقعات، تغير كل المفاهيم السابقة.
وهذا بالضبط ما حدث مع زوجته السابقة… أي رجل كان سيشعر بصدمة لا تُصدق لو وُضع في مكانه.
ومع ذلك، لم يندم مراد على الطلاق من شيهانة. بل على العكس، أدرك أن ذلك منحه فرصة لم تكن متاحة من قبل—فرصة للتعرف عليها من جديد، على المرأة التي تقف أمامه الآن، مختلفة تمامًا عن تلك التي كان يعرفها في الماضي.
أما ذلك الماضي، فقد أصبح بالنسبة له مثلما هو بالنسبة لها—مجرد حلم قديم، لا يحمل أثرًا لا يُمحى.
ولكن من هذه اللحظة فصاعدًا، قرر شيئًا واحدًا.
لن يتجاهل هذه المرأة مرة أخرى.
لقد أراد التعرف عليها من جديد.
وضع مراد كوبه جانبًا، ثم قال بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة اهتمام: “خذي وقتك. إذا كان هناك شيء يشغلك، يمكنك سؤالي.”
رفعت شيهانة رأسها فجأة وكأنها التقطت تفصيلاً لم يكن واضحًا من قبل. “أرباح هذه الشراكة موزعة بنسبة أربعة إلى ستة؟”
أومأ مراد برأسه، مؤكدًا: “صحيح. لكن إن كنتِ ترين أن هذه النسبة غير عادلة، يمكننا تعديلها إلى خمسة مقابل خمسة.”
“لا، سبعة مقابل ثلاثة.”
رمش مراد بارتباك، حاجباه انعقدا للحظة قبل أن يسأل: “سبعة لك وثلاثة لي؟”
ظنّ أنها غير راضية عن التوزيع، لكنه فوجئ حين هزّت رأسها قائلة بثقة: “لا، أنا ثلاثة، وأنت سبعة.”
تجمدت نظرة مراد لوهلة. لم يكن هذا ما توقعه.
“لماذا؟” سأل، محاولًا فهم المنطق وراء هذا القرار غير المعتاد.
كان هذا أول موقف يواجه فيه شخصًا يعرض طواعية قبول صفقة غير منصفة لصالحه.
أجابت شيهانة بنبرة هادئة لكنها تحمل يقينًا لا يقبل الجدل: “كشكر لك على مساعدتك لي هذه المرة.”
أمعن مراد النظر في عينيها، محاولًا قراءة ما وراء كلماتها. ثم قال، بجدية تحمل في طياتها شيئًا من العتاب: “لستِ بحاجة لشكري. أنتِ والدة لين، ومن الطبيعي أن أساعدكِ.”
لكن هذا لم يكن صحيحًا تمامًا. نحن مطلقان. لا تربطني بكِ أي علاقة بعد الآن، ولستَ مُلزمًا بمساعدتي.
كلمتها الأخيرة حملت وقعًا لم يكن سهلًا على مراد. شعر بشيء أشبه بوخزة، لكنه أخفى انزعاجه بحرفية.
قال بهدوء مصطنع، وكأنه يسلّي نفسه بفكرة جديدة: “إذن، اعتبريه تعويضًا عن النفقة التي لم تطلبيها.”
لم تهتز ملامح شيهانة، واكتفت بالرد ببرود مهني: “حسنًا، سنبقي على النسبة أربعة إلى ستة. غدًا سيقابلك الرئيس التنفيذي شاهر لتوقيع العقد. لديّ أمر آخر… شكرًا على الاجتماع.”
لم يكن في كلامها أي تردد أو مواربة. أنهت جملتها وكأنها تقطع حبلًا غير مرئي، ثم نهضت استعدادًا للمغادرة.
مراد، الذي شعر وكأنه على وشك قول شيء آخر، سأل بدلًا من ذلك: “هل انتهيتِ من قراءة العقد؟”
“نعم.” جاء ردها حاسمًا، دون أن تتوقف أو تستدير وهي تتجه نحو الباب، وكأن بقاءها للحظة أخرى في الغرفة سيكون إهدارًا غير مبرر للوقت.
كانت تتعامل مع الصفقات التجارية وكأنها مهمات في لعبة—تحدد الهدف، تنجزه، ثم تمضي قدمًا بلا التفات.
الطقوس الاجتماعية التي تُمارَس بعد الاجتماعات، مثل تبادل الأحاديث الجانبية أو مشاركة فنجان شاي أو حتى الانخراط في جولات الجولف، لم تكن تعني لها شيئًا.
راقبها مراد وهي تغادر، بينما راودته فكرة لم يستطع تجاهلها: هل تدرك هذه المرأة أساسيات ممارسة الأعمال في المدينة، أم أنها ببساطة ترفض الانصياع لها؟
شعر بانزعاج غريب، وكأن الحديث في العمل مع شخص بمثل هذه العقلية الميكانيكية يترك أثرًا غير مريح في نفسه.
لكن، من الواضح أن شيهانة لم ترَ في أسلوبها أي خطأ.
بالنسبة لها، طالما أن الصفقة قد أُبرمت، فلا داعي لإضاعة الوقت في أي شيء آخر.
في طريق العودة، لم يستطع كل من تميم وشاهر إخفاء دهشتهما حين أخبرتهما أن الشراكة قد تمّت، وانتهى الأمر بكل بساطة.
الفصل 123
أومأت شيهانة مؤكدة: “أجل، كل شيء جاهز. شاهر، يمكنك توقيع العقد غدًا. لقد قرأت العقد، ولا توجد أي مشكلة.”
“…حسنًا.” احتفظ شاهر بانتقاده لنفسه، لكن ملامحه لم تخفِ تحفظاته.
أما تميم، فلم يكن بنفس الدبلوماسية. قال وهو ينظر إليها باندهاش: “أختي، هذه الشراكة مهمة جدًا. كيف يُمكنكِ إنهاء كل شيء في أقل من خمس دقائق؟ أليس هذا تسرعًا؟ ألا تخشين أن يستغلنا مراد؟”
رفعت شيهانة حاجبها قليلًا قبل أن ترد بسؤال هادئ: “وما الميزة التي لدينا؟”
“…” لم يجد تميم إجابة فورية، وشعر بصدمة للحظة. ما الذي كانوا يملكونه حقًا ليضعهم في موقف قوة؟
في الواقع، كان مجرد موافقة مراد على التعاون معهم مكسبًا بحد ذاته.
أدرك شاهر ذلك أيضًا. وبعد أن اطّلع على تفاصيل العقد، اكتشف أن الشروط التي قدمها لهم مراد كانت أكثر سخاءً مما توقع.
قال أخيرًا، بابتسامة سرعان ما اختفت: “إمبراطورية شهيب قدّمت لنا صفقة جيدة، ولا بأس بالتعاون معهم. لكن الحقيقة أننا انتزعنا هذا العقد من مجد، ومع الإذلال الذي تعرض له اليوم، أخشى أنه لن يترك الأمر يمر بسهولة.”
ثم نظر إلى شيهانة بجدية، ونبرته تحمل تحذيرًا صريحًا: “آنسة شيهانة، كوني حذرة جدًا. مجد ليس من النوع الذي يتقبل الخسارة، وإذا قرر الانتقام، فلن يتردد في ارتكاب أبشع الأفعال.”
كان تميم قلقًا بحق، ونظراته تتنقل بين الطريق ووجه أخته المنعكس في مرآة السيارة.
قال بصوت خافت لكنه حاد:
“أختي… ألا ترين أنه من الأفضل أن نستأجر حراسًا شخصيين؟ لستُ خائفًا من مجد، لكن سلامتكِ أهم من أي عناد أو ثقة.”
ردّت شيهانة بابتسامة مائلة وهدوء لا يناسب الموقف:
“أعتقد أنه لن يجد وقتًا لمهاجمتنا.”
رمقها تميم بنظرة مذهولة عبر المرآة:
“لماذا؟”
أجابت وكأنها تشرح أمورًا بديهية:
“لأنه ببساطة مشغول جدًا.”
“…أختي، هذا ليس وقت النكات!”
شعر تميم بالعجز أمام هدوئها اللامبالي. كان يفهم المنطق… لكن عقله لم يكن مستعدًا لقبول برودها.
ما لم يعرفه، هو أن منطق شيهانة كان دقيقًا جدا.
في مكانٍ آخر، كان مجد يغرق.
بعد هزيمته المدوية في مسابقة الهاكر، لم يعد أمامه سوى خيار واحد:
الانعزال داخل مقر شركته، والدعوة لاجتماع طارئ للمساهمين.
كان يدرك أن ما حدث لا يشكّل مجرد خسارة منافسة، أو ضياع شراكة محتملة.
لقد كان سقوطًا مدويًا أمام العلن… سقطة قاسية لرجلٍ بنى سمعته على السيطرة والهيبة.
لقد بالغ مجد في الترويج لشراكته القادمة مع إمبراطورية شهيب، ونشر التصريحات وكأنه قد ضمن الصفقة.
فارتفعت الأسهم، وتحرك السوق بثقة عمياء خلف كلماته.
لكن تلك الثقة تبخرت حين ظهرت شيهانة.
بكلمات مختصرة وتصرف محسوب، نسفت كل ما بناه.
أهانته أمام جمهور من المستثمرين، وأعلنت انتهاء أي احتمال للشراكة.
كانت تلك الضربة لا تُغتفر.
كان مجد يعلم أن لحظة إعلان هذه الفضيحة للرأي العام ستُطلق شلالًا من الخسائر.
وسيقع الانهيار حتمًا… غدًا.
ظلّ سجين شركته تلك الليلة، يتنقّل بين الجداول والمخططات، يحاول إيقاف التدهور، لكن الوقت كان قد نفد.
حتى هاتفه ظل يرن دون رد، في الجهة الأخرى كانت شهد تنتظر.
لكن شهد لم تكن تعلم بعمق الورطة.
كل ما عرفته هو أن زوجها خسر أمام شيهانة.
وذلك وحده، في نظرها، كافٍ للإعلان عن حرب.
لا يهم كيف… لا يهم متى.
المهم أن تدفع شيهانة الثمن.
فكرت: إن لم يكن بالإمكان تحطيمها علنًا، فلتُمحَ من الوجود سرًا.
وعندما يعود مجد، ستطلب منه ببرود مروّع أن يكلّف شخصًا بإنهاء حياتها. لا تنبيه، لا تهديد، فقط… اختفاء.
تلك الفكرة وحدها كانت كفيلة بتحسين مزاجها.
أخذت ورد، التي كانت لا تزال تئن من جراحها النفسية بعد مواجهتها مع شيهانة، إلى منتجع فاخر.
غرفة هادئة، مساج شياتسو، عطور استوائية، موسيقى هادئة…
استرخاء مصطنع يُخفي نية قاتمة.
لم تعلم كلتاهما أن هذه ستكون آخر ليلة تنعمان فيها بالهدوء.
فمع أول ضوء من صباح اليوم التالي، وقع شاهر رسميًا عقد الشراكة مع مراد.
أُعلن الخبر على الفور.
وفي غضون دقائق، تلقّت شركة مجد كوربس الضربة الأولى.
الأسهم… بدأت تتساقط كأوراق خريف لا ربيع بعدها.
ومجد، رغم كل احتياطاته، لم يتوقّع أن يكون السقوط… بهذه الوحشية.
الفصل 124
لم يكن بمقدور مجد فعل شيء لوقف هذا التراجع المفاجئ. ففي أقل من ساعة، تكبدت شركة مجد خسارة فادحة لا يمكن تعويضها.
ومع تطور الأحداث، أصبح واضحًا أن إفلاس الشركة سيكون أمرًا حتميًا في غضون يومين فقط.
سقط مجد على الأرض في يأس، عيناه مشدوهتان وهو يراقب انهيار كل ما بناه أمامه. كان في حالة من الصدمة، وكأن العالم قد انهار من حوله.
حتى مجموعة شيهانة لم تكن تتوقع أن يصل الأمر إلى هذا الحد.
لقد أنهت شيهانة شركة مجد بدون أن تلمسها يدها، تاركة إياه ينهار بمفرده تحت وطأة أفعاله.
صرخ تميم، صوته مليء بالفخر والانتقام:
“لقد نال ما يستحقه! مجد صنع لنفسه أعداء كثر على مر السنين. الجميع يتمنى نهايته، فكيف لهم أن يضيعوا هذه الفرصة الذهبية لتدميره؟ حتى الشعب يقف إلى جانبنا! انتهى مجد، وانتهت معه شهد وورد أيضًا!”
لم يكن حماس شاهر أقل.
كانت عيناه ملتهبتين من شدة التأثر.
“هل هذا حقيقي؟… إنها النهاية لمجد.”
قبل أسبوع فقط، كان حلمه أن يرى مجد ينال جزاءه العادل. والآن، بعد أن تحقق ذلك، شعر وكأنما هو في حلم… حلم تحقق بكل تفاصيله.
هل حقًا انتهت قصة مجد إلى هذا الحد؟
هل سمع الله دعائي؟
لم يكن أحد قادرًا على مشاركة شاهر جنونه العاطفي، لأنه لم يمرّ أحد بما مرّ به من ألم وذلّ. لكن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة له. بالنسبة لشاهر، كان مجد يستحق ما هو أسوأ من ذلك بكثير!
علّقت شيهانة بصوت هادئ، ولكن غامض:
“هذا غريب…”
“أختي، ماذا تعنين؟” سأل تميم، محاولًا فهم ما يدور في ذهنها.
“لم يكن من المفترض أن تنخفض أسهم شركة مجد كوربس بهذا الشكل المفاجئ.”
ضحك تميم بخفة، وهو يتطلع إليها بنظرة ساخرة.
“أختي، هذه هي الحياة. الأفعال الشريرة لا تمر دون عقاب. مع كل الشرور التي ارتكبها مجد، لن أستغرب إذا مات. لقد نال جزاءه.”
كان تميم محقًا. فعلاً، لماذا يقلقون على مصير مجد؟
لكن شيهانة لم تستطع التخلص من شعور غريب يراودها. كان هناك شيء غير طبيعي في هذا الانهيار السريع. كان هناك شخص ما يسحب الخيوط خلف الكواليس، وإلا لما انهارت أسهم مجموعة مجد بتلك السرعة.
كما أن فكرة أن مراد قد يكون متورطًا لم تغادر ذهنها.
في تلك اللحظة، كان جودت يتصل بمراد عبر الهاتف.
“هل كان هذا من صنع يديك؟” سأل جودت، صوته يحمل نغمة من الفضول المتوجس.
“انخفاض أسهم شركة مجد كوربس كان مبالغًا فيه. قليلون في هذا البلد يمكنهم التأثير في مثل هذا الحدث.”
أجاب مراد ببساطة:
“مجد لديه العديد من الأعداء، وما حدث هو انعكاس لنوايا الجمهور.”
رغم ذلك، لم يكن جودت مقتنعًا. ابتسم وقال بتهكم:
“أنت لا تعترف، ولكنني أعرف أن لك يدًا في هذا. كما أنني سعيد جدًا لما حدث لشركة مجد.”
ابتسم مراد في صمت. لم يعترف ولم ينكر. لكن في عينيه العقيقيتين دخلت ظلال من البرودة، كما لو كان يُخفي شيئًا أعمق.
أولئك الذين لا يعرفون مراد عن كثب قد يظنونه رجلًا نبيلًا، لكن من يعرفه جيدًا، يدرك أنه قد يكون قاسيًا بلا رحمة عندما يقرر ذلك.
مع دخوله في اللعبة، لم تكن هناك أي فرصة لإحياء شركة مجد.
“لكن لماذا استهدفت مجد؟ هل من أجل الآنسة شيهانة؟” سأل جودت، وكأن السؤال كان يحيره. هذا هو ما كان يشغل تفكيره أكثر من أي شيء آخر.
رد مراد بصوت حازم، دون أن يطيل الحديث:
“هذا ليس خطًا ساخنًا للأسئلة. سأغلق الآن.”
وبعدها، قطع المكالمة دون أن يعطي إجابة، تاركًا جودت في حالة من الحيرة والدهشة.
شتم جودت على الطرف الآخر من الخط. كيف يمكن أن يُغلق الهاتف فجأة في وقت كهذا؟ هل كان استهداف مجد حقًا بسبب شيهانة، أم أن هناك شيئًا آخر في الخلفية؟
لماذا يذهب مراد إلى هذا الحد من أجل زوجته السابقة؟
حكّ جودت ذقنه بتفكير عميق، وكأن الفكرة بدأت تتكون لديه. يبدو أنه بدأ يكتشف سرًا عميقًا، ولكنه غير قادر على تفسيره بعد…
في تلك الأثناء، لم يعد مجد إلى منزله طوال الليل.
في صباح اليوم التالي، استفاقت شهد متأخرة، وكأن الساعات قد تلاعبت بها. نزلت من الطابق العلوي بتثاقل، وتوجهت إلى غرفة المعيشة حيث خادمة تمرّ بالقرب منها.
سألتها:
“هل السيد عاد إلى المنزل بعد؟”
أجابت الخادمة باحترام:
“نعم سيدتي، السيد لم يعد إلى المنزل بعد.”