رواية زوجة الرئيس المنبوذة الفصول 41 من إلى 50

زوجة الرئيس المنبوذة

الفصل 40

حراس الأمن بشرٌ أيضًا، ويستحقون الاحترام الذي يُمنح للعمال والعاملات. من الطبيعي أنهم لم يكونوا راضين تمامًا عن الطريقة المتسلطة التي تعاملت بها ورد معهم.

“سيدتي ورد، قبل أن نقدم على أي خطوة، علينا تحديد من هو على حق ومن هو على باطل. وإذا كنتِ — كما ذكرتِ — المالكة الشرعية، فلا داعي للقلق. افتحي الحقيبة لإثبات ملكيتكِ لهذه الفيلا، وسنرافق السيدة شيهانة إلى الخارج دون تردد.”

“صحيح. إذا كنتِ المالكة الشرعية حقًا، فلماذا لا تفتحين الحقيبة؟”

تشنج وجه ورد من الغضب. لو كانت تعلم أن رجال الأمن عديمو الفائدة إلى هذه الدرجة، لما لجأت إليهم منذ البداية.

لكن… كيف كان بإمكانها أن تعرف أن شيهانة لديها مخبأ سري في المنزل؟

ورغم غضبها، كانت ورد تعلم أنها لا تستطيع السماح لشيهانة بفتح تلك الحقيبة. لم تكن لديها أدنى فكرة عما تحتويه، ولكن لو كانت شهادة ملكية حقيقية، فسيكون من الصعب عليها الدفاع عن قضيتها.

“شيهانة، أيتها الوغدة الوقحة! لم يُحسن والدك تربيتك، لذا سأساعده في تعليمك درسًا اليوم!”

رفعت ورد ذراعها عاليًا، عازمةً على صفع شيهانة بقوة تُسقطها أرضًا. بهذه الطريقة، ستتمكن من انتزاع الحقيبة بمجرد أن تسقط خصمتها.

لكن من كان يتوقع أن تكون شيهانة أسرع منها؟ في لحظة، انطلقت قدم شيهانة بركلة مباشرة نحو ركبة ورد.

صرخت ورد وسقطت أرضًا، تتلوى من الألم.

قد تبدو ركلة شيهانة ضعيفة، لكنها كادت أن تكسر رضفة ورد. يبدو أنها نسيت أن شيهانة كانت تحضر دروس الكاراتيه في صغرها.

“شيهانة، يا لكِ من حقيرة! كيف تجرؤين على ركلي؟!” صاحت ورد غاضبة، بينما كانت تحدق في شيهانة التي كانت منشغلة بفتح الحقيبة.

أخرجت شيهانة من الداخل دفتر صغير أحمر اللون.. وثيقةً كُتب على غلافها: شهادة ملكية العقار.

تلاشى الغضب من وجه ورد ليحلّ محله التوتر.

الحقيبة… تحتوي على الشهادة.

وضعت شيهانة الحقيبة جانبًا وفتحت الدفتر، لتكشف عن الأوراق المالية بداخله. رفعت الوثيقة أمام الجميع وقالت بنبرة واثقة:
“انظروا… اسم المالك هو أنا، شيهانة.”

انحنى الرجال المحيطون بهما ليتفحصوا الوثيقة عن كثب. لم يكن هناك ما يُشير إلى أنها مزيفة.

“هذا مُقلّد!” صاحت ورد وهي تنهض فجأة، متقدمة نحو شيهانة بأسنانٍ مشدودة وكأنها على وشك الانقضاض عليها.

تفادت شيهانة الهجوم بمهارة، لكنها قاومت رغبتها في توجيه ركلة أخرى إلى ركبة ورد. كانت تدرك أن الوقت لم يحن بعد لجرّها إلى الهاوية.

“ورد، قلتِ إن هذه مزيفة، فلماذا لا تُخرجين النسخة الأصلية؟ يمكننا ببساطة استدعاء الشرطة للتحقق من صحتها.” قالت شيهانة بنبرة باردة، وكأنها تُغرز خنجرًا في عناد ورد.

ردّت ورد من بين أسنانها وهي تكتم غيظها:
“لن أهين نفسي بإظهار النسخة الأصلية لتقومي أنتِ بمقارنتها بأوراقك المزيفة!”

ظنّت ورد أنها طالما رفضت الاعتراف بشرعية الوثيقة التي تحملها شيهانة، فلن تتمكن الأخيرة من الإيقاع بها.

لكن شيهانة لم تكن تنوي ترك الأمور تنتهي بهذه السهولة.

“أعتقد أنكِ لا تملكينها أصلًا… أو ربما ما لديكِ هو المزيّف.” مالت شيهانة برأسها قليلًا وأضافت بلهجة أكثر تهديدًا: “إذا رفضتِ إظهارها، فسأضطر لطلب طردكِ من المكان بمساعدة الحارسين.”

تبادل الحارسان نظرات مريبة، ثم ركّزا أعينهما على ورد.

تنفست ورد بعمق. منذ وفاة والد شيهانة، اعتادت حياة الدلال والرفاهية، ولم تعد تلك المرأة التي تتقبل الهزائم بسهولة.

كلمات شيهانة كانت كفيلة بإشعال غضبها.

“حسنًا!” صرخت ورد بحدة. “إذا كنتِ تريدين رؤية الحقيقة، فسأريكِ إياها الآن!”

غادرت الغرفة وعادت بعد لحظات تحمل كتابًا يحمل عنوان: شهادة ملكية العقار.

وضعت الوثيقة أمام الجميع… كانت تُشبه وثيقة شيهانة تمامًا، باستثناء أن الاسم المدون عليها كان: ورد.

رفع أحد الحارسين الورقتين وقارن بينهما. لم يكن هناك اختلاف يُذكر، سوى الاسم.

“الحقيقية معي بالطبع!” قالت ورد بنبرة متهكمة. “توفي والدها قبل ست سنوات، وكانت في التاسعة عشرة من عمرها فقط. لماذا يترك والدها العقار لفتاة صغيرة عديمة الخبرة مثلها؟”

قالت كلماتها بغطرسة، وكأنها تتحدّى الجميع لتحدي منطقها.

نظر الحارسان إلى بعضهما، ثم تحوّلت نظرات الشك مرة أخرى نحو شيهانة.

الفصل 41

تبادل الحارسان نظرات ذات مغزى، ثم عادت أعينهما لتستقرّ على شيهانة بترقب مشوب بالشك. بدا وكأن لورد بعض النقاط المقنعة أيضًا…

رسمت شيهانة ابتسامة هادئة على شفتيها، ابتسامة تحمل أكثر مما تبدو عليه. ثم قالت ببرود:

“إذًا… تقولين إن شهادتي مزيفة، وشهادتك هي الحقيقية؟”

رفعت ورد حاجبها بتكلف، وأجابت بنبرة زائفة القلق:

“سمعتِني جيدًا. شيهانة، لطالما كنتِ طفلة مزعجة. قررتُ التغاضي عن تصرفاتك حين كنتِ تقومين بتلك الأفعال الصبيانية ليه سمعة عائلة والدكِ. لكن الآن؟ الآن تحاولين الاحتيال على زوجة أبيكِ؟ كيف تجرؤين؟!”

تظاهرت بالأسى، ثم أضافت بصوت مثقل بالاستنكار:

“لم أعد أستطيع السكوت، حتى لو كان ذلك يعني خيانة وعدي لوالدكِ الراحل. سأفضحكِ اليوم، وسأكشف حقيقتك كمحتالة… وإلا ستتمادين أكثر!”

“حسنًا…” ردت شيهانة بهدوء وهي تهز رأسها بإيماءة صغيرة. “يبدو أننا متفقان على شيء واحد — يجب بالتأكيد الكشف عن عمليات الاحتيال.”

ثم تابعت بحدة مغلفة بالهدوء:

“والآن… لماذا لا تُظهِرين لنا شهادتك الحقيقية؟ أو… هل تفضلين أن أطلب الشرطة لتتعامل مع الأمر؟”

شحب وجه ورد للحظة، لكنها سرعان ما استعادت تماسكها وسألت بعبوس:

“لا داعي لذلك… لماذا؟”

دوى صوت صفارة سيارة الدورية في الخارج، معلنةً وصول الشرطة.

ابتسمت شيهانة ابتسامة جانبية وقالت ببرود:

“لا داعي للاتصال بالشرطة، فقد اتصلتُ بهم بالفعل… نيابةً عنك.”

تجمّد وجه ورد في لحظة ارتباك صارخة، وشحب لونها كما لو أن الدم جف في عروقها. لم تكن تتوقع أبدًا أن شيهانة قد تتخذ خطوة بهذه الجرأة.

متى؟ متى تمكنت تلك الفتاة الصغيرة من الاتصال بالشرطة؟

حدّقت ورد في شيهانة بنظرة كريهة مليئة بالخبث، وكأنها مستعدة لافتراسها في أي لحظة.

أما شيهانة، فبقيت هادئة كالمعتاد، كأنها تقول دون كلمات: كل شيء تحت سيطرتي.

“ورد…” قالت شيهانة ببطء، تنطق كلماتها بوضوح متعمد، “سندع الشرطة تقرر أي شهاداتنا هي الأصلية.”

ازداد وجه ورد شحوبًا مع كل كلمة تنطقها شيهانة، وكأنها تُجرّ إلى حافة الهاوية.

كانت تعلم جيدًا أن الوثيقة التي بحوزتها مزورة، ولا يُمكنها السماح للشرطة بالتدقيق فيها.

“سيدتي… الشرطة هنا!” جاء صوت السيدة تقوى مرتعشًا من الطابق السفلي.

عندها، تحركت ورد بسرعة خاطفة. أمسكت بالوثيقة بين يديها ومزّقتها دون تردد.

“أوقفوها!” أمرت شيهانة بحدة.

تحرك الحارسان فورًا، مندفعين للقبض على كتيب الشهادة، لكنهما كانا بطيئين جدًا…

ببراعة مدهشة، دفعت ورد الصفحة الممزقة في فمها وابتلعتها بجشع، مجبرةً نفسها على بلعها رغم الألم الذي ظهر على وجهها.

نظر إليها الجميع في ذهول… حتى شيهانة نفسها لم تستطع إخفاء اندهاشها.

تجهم وجه ورد من الجهد، لكنها رفعت رأسها بغطرسة وقالت بنبرة متحدية:

“لن أسمح لكِ أبدًا بالحصول على أي دليل ضدي!”

ابتسمت شيهانة ابتسامة باردة، ازدراء واضح في عينيها.

“لا أحتاج إلى تلك الورقة لأُحاسبكِ… ما فعلتِه أكبر بكثير من هذه الحيلة الصغيرة.” توقفت لثانية، ثم أضافت بنبرة تهديد خافتة:

“لا تقلقي… سيأتي دورك.”

شيهانة لم تكن تسعى لسحق ورد في ذلك اليوم، بل كانت تخطط فقط لدفعها خارج الفيلا… أما الحساب الأكبر، فسيأتي لاحقًا، عندما يحين وقته.

لكن ورد؟ لم تستوعب ذلك. بل ضحكت ضحكة خافتة، متوعدة.

ربما خسرتُ أمامها هذه المرة… لكن في المرة القادمة؟ فكّرت ورد بغيظ. سأجعلها تدفع الثمن غاليًا.

في تلك اللحظة، دخل شرطيان إلى الغرفة.

“من هي شيهانة؟” سأل أحدهما بنبرة رسمية.

أومأت شيهانة برأسها قائلة: “أنا.”

“لماذا اتصلتِ بالشرطة يا آنسة؟”

تنهدت شيهانة بنبرة مزيج من الملل والتصميم، ثم قالت:

“هناك من يحتل منزلي بشكل غير قانوني منذ سنوات… طلبتُ منها بأدب المغادرة، لكنها رفضت. لذا، لم يكن أمامي خيار سوى طلب مساعدة الشرطة. أعتذر عن هذه الفوضى.”

قالت كلماتها ببرود، لكنها لم تُبعد عينيها عن ورد. كانت تحدّق فيها كما لو كانت تنظر إلى ذبابة مزعجة، تصرّ على التحليق حول رأسها بلا هوادة.

شعرت ورد بذلك التحديق يخترقها، وارتجفت أعصابها رغم محاولتها التظاهر بالتماسك.

لا يمكنني البقاء هنا لفترة أطول… فكرت بقلق.

رغم أن الشرطة قد لا تجد مبررًا قانونيًا لطردها، إلا أن الحراس لديهم كل الحق في إجبارها على الخروج.

يه سمعة شيهانة؟ راودتها الفكرة للحظة. بإمكانها نشر أكاذيب عنها، فضح أفعالها “العقيمة” أمام الجميع… لكن في النهاية؟ ستتلطخ سمعتها أيضًا.

ورد كانت تدرك تمامًا أنها لم تكن نموذجًا يُحتذى به في هذا الموقف. غرورها، انفعالها، وحتى تصرفها الطائش بتمزيق الوثيقة… كلها أفعال أظهرتها بمظهر المرأة اليائسة.

ليس الآن… ليس بعد كل ما بنيته.

سنوات من العمل الدؤوب مكّنتها أخيرًا من التسلل إلى الطبقة العليا في المجتمع، حيث كانت الهيبة تُكسب بصعوبة وتُفقد بسهولة. لم تستطع المخاطرة بكل ذلك.

ثم كان هناك شيء آخر…

ابنتها.

الفصل 42

لقد تزوجت ابنتها مؤخرًا، وانضمت إلى عائلة معروفة بسمعتها الطيبة. أي خطوة طائشة الآن قد تُفسد تلك العلاقة، وقد تدفع ابنتها ثمن تهورها.

لا… لا يمكنني السماح بذلك.

الأمر لا يتعلق فقط بسمعتها الشخصية — بل بابنتها شهد أيضًا.

لن يُلطّخ اسمي وحدي… بل ستُجرّ شهد معي في الوحل!

كانت هذه الفكرة أكثر ما أخافها. بعد سنوات من الطموح والجهد، أصبحت جزءًا من مجتمع النخبة… مجتمع لا يرحم الساقطين.

ومع ذلك… لماذا كل هذا العناء من أجل هذه الفيلا التافهة؟

بالمقارنة مع الميراث الضخم الذي تركه زوجها، تلك الفيلا لا تساوي شيئًا. مجرد فتات… فتات لا يستحق حتى الالتفات إليه.

ورغم ذلك، لم تستطع ورد منع نفسها من السخرية بصمت من شيهانة.

وماذا لو سرقت الفتاة الفيلا؟ فكرت بازدراء. في النهاية، الميراث كله باسمي… طالما أتنفس، تلك اللقيطة الصغيرة لن تحصل على فلس واحد من ميراث عائلة شيا!

بالنسبة لورد، كانت الفيلا لا أكثر من صدقة تُلقى للمتسولين.

ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجهها وهي تستدير نحو شيهانة.

“أتعلمين؟” قالت ببرود، وكأنها تُلقي بسهم مسموم، “هذه الفيلا؟… لا تُناسب إلا المتسولين أمثالك!”

كانت تنتظر أن ترى ملامح الغضب ترتسم على وجه شيهانة، لكنها لم تجد شيئًا.

شيهانة كانت هادئة… باردة كالجليد.

“هذا هو الباب إذا انتهيتِ من عرضكِ السخيف.” قالت شيهانة ببرود، ثم أضافت بازدراء: “لا تُطيلي البقاء، فأنتِ تُلوّثين منزلي بجراثيمكِ.”

تشنج وجه ورد، وأطلقت بصقة غاضبة على الأرض قبل أن تستدير وترحل.

جمعت ورد القليل من ممتلكاتها الثمينة، تاركة خلفها الباقي. نظرت إلى ما تبقى بازدراء، وكأنها تُقنع نفسها بأن ما تركته لا يستحق شيئًا.

“تصدُّق للمتسولة…” فكرت بمرارة، ورغم محاولتها التظاهر بالكبرياء، إلا أن شعورًا ثقيلًا بالإذلال ظلّ يطاردها.

هذا المنزل؟ كان ينبغي أن يكون ملكها. كان ينبغي أن تكون هي من تُطارد شيهانة إلى الخارج… لكن الأمور انقلبت رأسًا على عقب.

لطالما عرفت ورد أن الفيلا كانت باسم شيهانة، لكنها كانت تراهن على أمرين: فقدان شيهانة لذاكرتها… وعدم عثورها على الشهادة الأصلية.

ومن كان يظن أن تلك الفتاة الصغيرة ستستعيد ذاكرتها في الوقت المناسب؟

ومع ذلك… رغم كل هذه الخسارة، كان هناك شيء واحد يمنح ورد شعورًا بالرضا:
موت والد شيهانة المفاجئ… ذلك الحدث غير المتوقع الذي سمح لها، ببعض الحيل الذكية، بتحويل كل ثروته إلى اسمها.

سحبت ورد حقيبتها إلى أسفل الدرج بعصبية. عندما التقت عيناها بنظرات السيدة تقوى المذهولة، اجتاحها شعور جديد بالإهانة… وكأنها تُجرد من سلطتها أمام الجميع.

فجأة، وفي انفعال غاضب، ألقت ورد الحقيبة في اتجاه السيدة تقوى بفظاظة وقالت بحدة:

“اتبعيني… واعتني بحقيبتي جيدًا!”

ارتبكت السيدة تقوى، وسألت بتردد:

“إلى أين نحن ذاهبون؟”

“لماذا تهتمين؟” قالت ورد بنبرةٍ مشبعةٍ بالغرور، صوتها حادّ كحدّ السكين. “أقسم أنه أفضل بكثير من هذا المكان المُهمَل.”

رغبت في أن تبدو قوية، واثقة… لكن الحقيقة؟ كانت هذه الكلمات مجرد قناع تخفي خلفه إحساسًا يتصاعد في صدرها — إحساسًا خانقًا بالهزيمة.

كانت تعرف أن تلك الكلمات لم تكن سوى محاولة يائسة لتثبيت قدميها في المعركة التي خسرتها لتوها. ربما انتصرت شيهانة اليوم، لكن الحرب؟ الحرب ما زالت ملكها… أليس كذلك؟

رغم محاولتها إخفاء توترها، كانت أصابعها تشتدّ على مقبض الحقيبة وكأنها تُمسك بشيء أكثر من مجرد أمتعة… تُمسك بكرامتها المهددة بالانهيار.

من الطابق الثاني، كانت شيهانة تراقب بصمت. وجهها كان جامدًا كالصخر، نظراتها باردة كالجليد. لم تتكلم، لم تُظهر انتصارها، لكنها فعلت ما هو أسوأ…

تجاهلتها.

وذلك أشدّ ما كان يحرق ورد من الداخل.

ترددت السيدة تقوى للحظة، عيناها تتنقلان بين ورد وشيهانة. كانت تعرف أن البقاء مع ورد يُشبه السباحة في مياهٍ عكرة، لكن في نظرها… تلك المياه كانت أكثر أمانًا من الوقوف بجانب شيهانة وسط هذه العاصفة.

“سيدتي، انتظريني لحظة… سأذهب لأحزم أغراضي. سأكون سريعة.”

ركضت السيدة تقوى إلى غرفتها، بينما كانت ورد تُراقب الساعة بعيون تضيق غضبًا. كل ثانية تمر كانت تُشعرها بأنها تُغرس أعمق في وحل الإهانة.

خرجت السيدة تقوى تحمل حقيبتها أخيرًا، لكن ورد كانت قد فقدت صبرها تمامًا.

“اللحاق بي!” صاحت بصوتٍ لاذع وهي تندفع نحو الباب بخطواتٍ غاضبة.

لكن قبل أن تصل إليه… جاءها ذلك الصوت.

“ورد…”

توقفت ورد في مكانها، كأن الهواء قد أصبح ثقيلًا حولها. استدارت ببطء، محاولةً إخفاء التوتر الذي بدأ يتسرّب إلى ملامحها.

ابتسمت بسخرية مريرة وقالت بوقاحة:

“ماذا تريدين؟ لن تحصلي على أي شيء آخر مني، أيتها الحقيرة!”

شيهانة بدأت تنزل الدرج بخطواتٍ هادئة وثابتة، كمن يُحدد خطوات خصمه في معركة.

حين وقفت أمام ورد، كانت عيناها ثابتتين، مباشرة في عينيها… لا غلظة، لا عصبية… بل هدوء قاتل.

“أريد فقط أن أخبرك…” قالت بصوتٍ منخفض لكنه مشبع بتهديد مبطّن، “من اليوم فصاعدًا، لن تطئي عتبة منزلي مرة أخرى.”

توقفت لحظة، جعلت كلماتها تتخلل عقل ورد، قبل أن تتابع بنبرة أكثر ثقة:

“وأيضًا… سأستعيد يومًا ما كل ما تملكينه. كل قرش. كل قطعة أثاث. كل عقار سلبته مني… سأعيده لحوزتي مع كل ما عليه من فوائد.”

ورد جاهدت للحفاظ على ثبات ملامحها، لكنها شعرت برعدةٍ خفيفة في أصابعها. كان هناك شيء في صوت شيهانة جعل كلمتها تُشبه وعدًا أكثر من مجرد تهديد.

لكن ورد لن تُظهر ضعفها… ليس أمام هذه الفتاة.

ضحكت ضحكة مجلجلة — ضحكة كانت فارغة من أي شعور بالنصر.

“في أحلامكِ!” هتفت بازدراء، لكنها مالت قليلًا نحو شيهانة وهمست ببطء:

“لكن تذكّري… لن أنسى كيف أذللتِني اليوم.”

الفصل 43

أجابت شيهانة بصوتٍ هادئ لكنه يحمل في طياته ثقة لا تتزعزع:

“سنرى.”

سخرت ورد من تلك الثقة، ابتسامة ساخرة ارتسمت على زاوية شفتيها.

“تتصنعين القوة… لكنكِ لا تعرفين من تتحدين.”

ضغطت على أسنانها بقوة، محاولةً كبح غليان الغضب الذي يتصاعد داخلها.

حاولت ورد — قدر استطاعتها — أن تغادر ورأسها مرفوعًا، تُقنع نفسها أن الكبرياء وحده قادر على تغطية إحساسها المُرّ بالهزيمة. لكنها كانت تعلم… مهما حاولت، لن تستطيع محو الحقيقة: لقد خسرت.

خرجت من بوابة فيلا عائلة شيا تحت نظرات شيهانة الجليدية، نظرات باردة كحدّ السكين، كأنها تُرافقها حتى آخر خطوة.

شيهانة لم تُحرّك ساكنًا. فقط وقفت هناك، تُراقبها وهي تبتعد.

هذا مجرد بداية… قريبًا سأستعيد كل شيء، ولن أترك مجالًا للخطأ هذه المرة.

رسمت ابتسامة خافتة على طرف شفتيها… ابتسامة حملت شيئًا يشبه الوعد.

ورد، استمتعي بأيامكِ القليلة المتبقية… فالنهاية تقترب.

استدارت شيهانة أخيرًا، لكن قبل أن تعود للداخل، لفت نظرها وجه مألوف يقف على شرفة الطابق الثاني في المبنى المقابل.

توقفت.

كان مراد.

تفاجأت للحظة، لكنها سرعان ما استجمعت رباطة جأشها.

كان مراد يرتدي قميصًا أبيض بسيطًا، لكنه بدا كعادته… أنيقًا بلا مجهود. وقف هناك بثبات، يحمل كأسًا من العصير في يده، بينما تساقطت أشعة الشمس على جسده المهيب، كأن الضوء يختاره ليُبرز حضوره.

كانت نظراته ثاقبة، مركّزة عليها كالصقر الذي يُراقب فريسته.

“كم من الوقت كان واقفًا هناك؟ وكم رأى؟”

شعرت شيهانة بنظراته تتغلغل تحت جلدها، وكأنها تفتش عن إجابات.

ردّت عليه بنظرة فارغة، بلا تعبير… كأنها تُخبره أن كل ما رآه لا يعني شيئًا بالنسبة لها.

ثم، ببساطة، أدارت ظهرها وتراجعت إلى داخل الفيلا، تُغلق الباب خلفها دون اكتراث.

على الجانب الآخر، كان مراد لا يزال يُراقب الباب المغلق.

“ماذا تنظر إليه؟” جاء صوت جودت بجانبه، وهو يرفع حاجبيه بتساؤل.

لم يُجب مراد.

كان الحفل يجري في الداخل، أصوات الضحكات والموسيقى تتعالى، لكن مراد ظل واقفًا في مكانه منذ البداية… منذ أن لمح شيهانة واقفة أمام فيلا عائلتها.

رآها وهي تواجه ورد بثباتٍ لم يعهده فيها من قبل… تلك الفتاة التي كانت تتهرب من المواجهة في الماضي، اليوم وقفت كأنها وُلدت لتقود المعركة.

“متى أصبحت هكذا؟”

لقد فاجأته بالفعل في المستشفى، حين واجهته بنظراتٍ باردة لم يرَها في عينيها من قبل. أما اليوم…

اليوم بدت مختلفة أكثر.

أكثر حزمًا.

أكثر خطورة.

ارتشف من كأسه ببطء، وعيناه لا تزالان ثابتتين على الباب المغلق.

“ماذا حدث لكِ… شيهانة؟”

الفصل 44

“ماذا يحدث هناك؟” سأل جودت وهو يحدّق في مشهد الشرطة وأفراد الأمن وهم يغادرون الفيلا المقابلة.

أجاب مراد بلهجة باردة وهو يهز كتفيه: “من يدري… دعنا نعود إلى الداخل.”

كان صوته هادئًا، لكن عقله كان مشغولًا.

لحسن الحظ، تشتّت انتباه جودت بسرعة وسار إلى الداخل، تاركًا مراد واقفًا للحظات أخرى، يُحدّق في الباب المغلق على الجانب الآخر من الطريق.

شيهانة…

أخيرًا، أدار ظهره وعاد إلى الحفل، لكن أفكاره ظلت عالقة هناك.

في الداخل، أغلقت شيهانة الباب خلفها وأطلقت زفيرًا طويلًا.

استدارت ببطء، تحدّق في المكان الذي كان يومًا ما منزلها… المكان الذي انتُزع منها ظلماً بعد وفاة والدها.

جالت عيناها على الجدران، على الأرائك التي غُطيت بأقمشة بالية، على الطاولة التي تحمل آثار الزمن… وكأن كل ركن كان يهمس لها بقصص الماضي.

خطت ببطء داخل الغرفة، تمسح بأطراف أصابعها سطح الخشب البارد. شعرت وكأنها تلمس ذكرياتها… ذكريات تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تركض هنا ضاحكة، ووالدها يلاحقها بضحكة دافئة.

لكن تلك الأيام أصبحت الآن ذكرى باهتة.

لم يعد هذا مجرد منزل… إنه نقطة بداية.

ارتفع بريق الأمل في عينيها، وارتسمت ابتسامة خافتة على شفتيها.

“هذه البداية…”

كانت تعلم أن طريقها لن يكون سهلاً. أرادت أن تواجه إمبراطورية شهيب وجهًا لوجه… ليس فقط لاسترداد حقها، بل لاستعادة ما هو أهم… حضانة ابنها.

أخذت نفسًا عميقًا، تُذكّر نفسها بأنها لا تملك رفاهية التراجع.

تجوّلت شيهانة في أرجاء الفيلا، تتحقق من كل زاوية وركن، وكأنها تُحصي ما تملكه وما ستحتاج لإصلاحه.

بعد أن انتهت، أمسكت بهاتفها واتصلت بصانع أقفال ليُغيّر جميع المفاتيح — خطوة بسيطة لكنها ضرورية لتعلن أن هذا المنزل أصبح ملكًا لها وحدها مرة أخرى.

ثم رتّبت مع عمال تنظيف للتخلص من كل ما يخص ورد، تُريد محو أثر وجودها بالكامل. بعد طلاءٍ جديد وبعض التعديلات، سيعود المكان كما كان… وربما أفضل.

أعدّت شيهانة أخيرًا وجبة بسيطة لتميم، تذكّرت أنه بالكاد تناول شيئًا اليوم وسط تلك الفوضى. تركت له الطعام على الطاولة، مع ملاحظة صغيرة كتبت فيها:

“اهتم بنفسك. نحن أقوى مما يظنّون.”

غادرت شيهانة الفيلا وهي تشعر بثقلٍ أقل على كتفيها، وكأن حملاً كبيرًا قد أزيح… لكن هذا الشعور لم يدم طويلًا.

لم تبتعد كثيرًا حتى لاحظت سيارة تتبعها ببطء.

قلبها بدأ يدق بعنف. توقفت فجأة والتفتت خلفها…

السيارة توقفت بدورها.

نزلت النافذة ببطء، ليكشف الزجاج عن وجه مراد. ذلك الوجه الوسيم الذي يمكنه أن يجعل قلب أي امرأة يضطرب… لكن ليس قلبها.

نظرت إليه نظرة ثابتة، خالية من المشاعر.

لم تكن هذه هي النظرة التي عرفها فيها من قبل — لا تلك النظرة الخائفة التي كانت تملأ عينيها عندما تزوجا، ولا تلك النظرة المرتبكة التي رأها في لقائهما الأول بعد الطلاق.

هذه النظرة كانت مختلفة… واثقة، باردة، كأنها تنظر إلى غريب.

قال مراد بنبرة خفيفة، وكأنه يختبر رد فعلها:

“اركبي، سأوصلك.”

حدّقت به لثوانٍ، ثم أدارت رأسها وأكملت طريقها دون أن تعيره انتباهًا إضافيًا.

رفع مراد حاجبه ساخرًا.

هل رفضته للتو؟

ضحكة قصيرة ساخرة أفلتت منه.

لطالما كان معتادًا على أن تُفتتن النساء به… لكن شيهانة؟ لقد رفضته أكثر من مرة مؤخرًا.

يقال إن الصداقة بعد الطلاق مستحيلة… فهل هذا صحيح؟

مع ذلك، لم يرَ سببًا يجعل الأمور بينهما تتحول إلى عداوة دائمة.

قاد سيارته ببطء إلى جوارها وقال من خلال النافذة المفتوحة:

“لا تفهميني خطأ… أريد فقط التحدث معك عن لين.”

توقفَت شيهانة فور سماع اسم ابنها.

التفتت نحوه بحذر وسألت:

“ماذا عنه؟”

أشار برأسه إلى مقعد الراكب.

“اركبي.”

كان واضحًا أنه لن يقول شيئًا إضافيًا ما لم تنفذ طلبه.

ترددت لثوانٍ قبل أن تستدير وتعبر أمام سيارته، ثم فتحت الباب وجلست بصمت.

تفاجأ مراد قليلاً؛ كان يعتقد أنها ستصرّ على عنادها.

نظر إليها من طرف عينه…

كانت مختلفة حقًا.

هذا التغيير لم يكن مجرد مسألة مظهر — رغم بساطة ملابسها وعدم وضعها لأي مكياج أو إكسسوارات فاخرة، بدت وكأنها تنتمي لهذا المقعد الفاخر في السيارة التي تساوي ثروة.

كأن وجودها هنا هو الذي منح السيارة قيمة… لا العكس.

تأملها للحظة، ولمع في عينيه بريق فضول.

من أين جاءت هذه الثقة الجديدة؟

“إلى أين؟” سألها وهو يدير المحرك.

“المستشفى.”

لم يرد على الفور، لكنه تذكر أمرًا شغله مؤخرًا — الفاتورة الطبية.

بعد الحادثة، طلب من أحد معارفه في المستشفى الاستفسار عنها. قيل له إن الفاتورة، التي بلغت 300 ألف دولار، قد سُددت بالكامل.

لم يكن ذلك مفاجئًا فقط… بل محيرًا.

على حد علمه، كانت شيهانة تعيش بالكاد لتدبر نفقاتها.

من أين حصلت على هذا المبلغ؟

أبقى مراد تساؤلاته لنفسه؛ كان يعلم أنها لن تجيبه حتى لو سأل.

فجأة قطعت شيهانة الصمت قائلة، بصوت ثابت لكنه يحمل توتراً خفياً:

“تحدّث.”

أفاق مراد من شروده، استغرق لحظة ليُدرك ما قصدته.

“لين حصل على أفضل رعاية ممكنة في السنوات الماضية…” قال بنبرة هادئة. “نادراً ما يذكرك.”

خفضت شيهانة رأسها، وكأنها تحاول الانكماش داخل ألمها.

كلماته اخترقت جدار صلابتها، وضربتها في الصميم… لكنها كانت تعرف أنها تستحق ذلك.
فهي من اختارت الرحيل، وهي من تخلّت طوعاً عن زواجها… وعن طفلها.

رمقها مراد بنظرة خاطفة، وكأن كلماته التالية خرجت رغمًا عنه:

“لكنه لا يزال يهتم بك.”

اهتزّت أنفاسها، ارتعش جسدها قليلاً… ثم همست بصوت بالكاد يسمع، كأنها تكلم نفسها:

“هل… هل فعلاً يفتقدني؟”

الفصل 45

“إنه يفعل ذلك… لا يعبر بالكلمات، لكنني أراه في عينيه.”

نظرت إليه شيهانة بتساؤل:

“لماذا تخبرني بهذا الآن؟”

تنهد مراد وكأنه يستجمع شجاعته قبل أن يقول:

“لين سيحتفل بعيد ميلاده الرابع قريبًا. إذا لم يكن لديك مانع… أود منكِ الحضور.”

توقف لثوانٍ، ثم أكمل بنبرة أكثر هدوءًا:

“أعلم أننا مطلقان، لكنني لن أمنعك من رؤية ابننا.”

كانت هذه الجملة مألوفة لها… لقد أخبرها مراد بالأمر نفسه عند طلاقهما. ومن بين كل ما قيل يومها، كان هذا ما جعلها واثقة من أنه سيكون أبًا جيدًا، بل الأفضل لابنهما.

لهذا السبب تحديدًا، قررت ترك ابنها في رعايته من البداية.

لطالما عانت في السنوات الماضية من نوبات شوق جارحة لرؤيته… لكنها كانت تتراجع في كل مرة.

لم تستطع مواجهة طفلها لتقول له إن والدته كانت شخصًا ضعيفًا وعاجزًا عن حمايته.

لكن الآن… الأمور مختلفة.

“حسنًا.”

لم تعرف لماذا قالتها بهذه السهولة، لكن كلماتها خرجت ثابتة وواضحة.

لسببٍ ما، شعر مراد بالارتياح. لم يكن يتوقع أن توافق بهذه البساطة… بل كان مستعدًا لمواجهة رفض جديد.

لماذا كان يتطلع إلى سماع موافقتها بهذه الدرجة؟

غرق كلاهما في صمتٍ ثقيل طوال الطريق.

عندما وصلا إلى المستشفى، فتحت شيهانة الباب وغادرت السيارة مباشرةً، دون أن تلتفت إليه ولو لمرة واحدة.

تابعها مراد بنظراته حتى اختفت خلف أبواب المستشفى، ثم أدار محرك سيارته وانطلق.

في طريقها إلى غرفة عمها، كانت أفكار شيهانة منشغلة بالكامل بشيء واحد…

لين… هل سيتذكرني؟ هل سيعرفني؟

رغم أنها اعتادت مواجهة أصعب المواقف بصلابة، إلا أن فكرة رؤية ابنها جعلت قلبها يضطرب كمن يقف على حافة الهاوية.

استقبلها صوت تميم بفرحة صادقة:

“أختي، لقد عدتِ!”

ابتسمت رغم تعبها. في الأيام القليلة الماضية، شعرت أن تميم بدأ يعتمد عليها أكثر من أي وقت مضى.

“أختي، هل هذه لي؟ رائحتها رائعة!” قال وهو يأخذ الأكياس التي تحملها بين يديها، ويشمّ علب الطعام الساخنة داخلها.

“نعم، إنها لك.”

“وأنتِ؟ هل أكلتِ؟”

“نعم.”

جلس تميم على الطاولة الصغيرة وبدأ يرتب غداءه بحماس. كانت وجبة دسمة، حتى أنها تحتوي على قطعة لحم… أمر نادر في ظروفهما الحالية.

بينما كان يلتهم الطعام بنهم، سأل بفضول:

“أختي، متى وجدتِ الوقت لتحضير هذه الوجبة؟ وبالمناسبة، كيف سارت عملية البحث عن منزل؟ هل وجدتِ لنا مكانًا؟”

“وجدتُ واحدًا.”

اتسعت ابتسامته بحماس:

“رائع! أراهن أنكِ أعددت هذه الوجبة هناك، صحيح؟ أين يقع؟ ما مساحته؟ وكم ايجاره؟”

“لا تتحدث وفمك ممتليء.” وبخته بلطف، ثم أضافت بتهرب واضح: “ستعرف قريبًا بشأن المنزل.”

ثم غيرت الموضوع سريعًا:

“كيف حال عمي؟”

ابتلع تميم لقمته قبل أن يقول:

“حالته تتحسن. أبي تناول دواءه وعاد إلى النوم…” ثم ابتسم بسعادة وهو يرفع شريحة اللحم بتبجيل:

“أختي، لقد مر وقت طويل منذ أن تناولت شريحة لحم لذيذة بهذا الطعم… أشعر وكأنني سأموت من السعادة الآن!”

رغم فقرهما، استطاع تميم أن ينمو إلى شاب طويل القامة، لكنه كان مجرد عظام بلا عضلات، نتيجةً لشح الطعام الجيد في حياتهما.

نظرت إليه شيهانة بحنان وقالت:

“في المستقبل، يمكنك الحصول عليها متى شئت.”

ابتسم تميم ابتسامة عريضة، وغمغم وهو يأخذ لقمة أخرى:

“حسنا…”

شعر تميم بتحسّن كبير يملأ حياته أخيرًا.

استعادت أخته ذاكرتها، وسيتخرج قريبًا ليبدأ العمل، كما أن صحة والده بدأت تستقر أخيرًا.

لكن ما أدهشه حقًا هو التحول المفاجئ في شيهانة… شقيقته التي عرفها دائمًا كشخصية هادئة ومستسلمة أصبحت فجأة عبقرية في البرمجة، تتعامل مع الأكواد المعقدة كأنها تحل أحجية بسيطة.

في الأيام القليلة الماضية، بدا وكأن الحياة أخيرًا بدأت تأخذ مسارًا صحيحًا.

تميم، الذي عاش سنوات طويلة محاصرًا في دوامة لا تنتهي من الأزمات، شعر لأول مرة أن بإمكانهم أخيرًا بناء حياة أفضل. كانت خطوتهم التالية واضحة: جمع ما يكفي من المال لشراء منزل خاص بهم — منزل يمنحهم الأمان الذي طالما افتقدوه، حيث لن يضطروا بعد الآن للعيش تحت رحمة الآخرين.

لكن ما لم يكن يعلمه تميم… هو أن شيهانة كانت قد سبقته بخطوة، وخطوة كبيرة أيضًا.

مرّ أسبوع آخر حمل معه بشرى سارة؛ فقد خرج والدهم، توفيق، من المستشفى بعد تحسن ملحوظ في حالته الصحية. سيكمل الآن فترة تعافيه في المنزل، حيث الأجواء الهادئة والرعاية التي يحتاجها.

لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في عودته… بل في ذلك “المنزل” نفسه.

أخذتهم شيهانة إلى الفيلا — منزلهم الجديد.

وقف تميم في المدخل، يحدق في المبنى الفاخر بعينين متسعتين، وكأنه لا يصدق ما يراه. 

الفصل 46

وقف تميم أمام الفيلا الفسيحة يتأملها بذهول، وكأن المشهد أمامه يرفض أن يترسخ في عقله. بجانبه، كان توفيق أكثر دهشة، بل أقرب إلى الصدمة… فهو يعرف هذه الفيلا جيدًا.

“أليس هذا منزل عائلة شيا القديم؟” تساءل في نفسه بقلق.

لماذا أحضرتهم شيهانة إلى هنا؟ هل ضلت الطريق في مكان ما؟

لاحظت شيهانة تعابير الحيرة التي غطّت وجهيهما، فسارعت لتوضيح الموقف بنبرة واثقة:

“عمي، هذه الفيلا كانت ملكي دائمًا. والآن وقد استعدت ذاكرتي، استرجعتها بطبيعة الحال.”

نظر إليها توفيق بدهشة أكبر، وكأن كلماتها حملت لغزًا مستعصيًا.

“ورد كانت مستعدة للسماح لك بذلك؟” سأل وهو لا يكاد يصدق.

أجابت شيهانة بلهجة ثابتة:

“شهادة الملكية تحمل اسمي منذ البداية، لذا اضطرت للتخلي عنها، رغم أنها حاولت المقاومة. لقد طردتها… ومن اليوم فصاعدًا، هذا سيكون منزلنا.”

ثم أردفت وهي تفتح الباب الأمامي بحركة حاسمة:

“هيا بنا… لنبدأ من جديد.”

تبادل توفيق وتميم نظرة قصيرة، قبل أن يستند الأب على ابنه ويدخلا معًا إلى الفيلا. كانت خطواتهما ثقيلة، وكأنهما يسيران على أرض غريبة رغم أن المكان ليس غريبًا عليهم.

الفيلا كانت كما يتذكرانها… فخمة، باذخة التفاصيل، تفيض برفاهية لم يألفاها منذ سنوات. ومع ذلك، شعرا بالغربة وكأنهما ضيفان في منزل لا ينتميان إليه.

وقف تميم في منتصف غرفة المعيشة، يتأمل الأرائك المزخرفة والثريات المذهّبة وكأنه لا يصدق ما تراه عيناه. ثم التفت إلى شيهانة وسألها بتردد:

“أختي… قلتِ إن كل شيء هنا لكِ؟”

ابتسمت شيهانة برقة، وكأنها تطمئنه:

“لا… كل شيء هنا، بما في ذلك المنزل، ملكنا جميعًا، وليس ملكي وحدي. من الآن فصاعدًا، هذا بيتنا… بيت العائلة.”

هزّت كلماتها شيئًا عميقًا في نفسه. شعر تميم بحرارة غريبة تتسلل إلى قلبه، وبعينين لامعتين تمتم بصوت خافت:

“بيت العائلة…”

أما توفيق، فقد شعر بمزيج من الفخر والقلق في آنٍ واحد. ورغم الدفء الذي تسلل إلى صدره، لم يستطع منع نفسه من التفكير بالمخاطر القادمة.

“شيهانة…” قال بجدية وهو يتجه نحوها. “لقد طردتِ ورد بعيدًا… أخشى أنها لن تدع الأمر يمر بهذه السهولة.”

ارتفع صوت تميم على الفور، نبرته كانت حادة مليئة بالغضب:

“إن عادت لتسبب المتاعب… فسأكون أنا من يطاردها هذه المرة!”

كان يمسك قبضته بإحكام، وكأنها تحمل سنواتٍ من الغضب والقهر.

ابتسمت شيهانة ابتسامة خفيفة، لكن عينيها كانتا تلمعان بوميض حاد… وميض يحمل عزيمة لا تلين.

“لا تقلق… سأستعيد كل ما هو لنا… عاجلًا أم آجلًا.”

كانت كلماتها أشبه بوعد… وعدٍ يفيض بإصرار امرأة واجهت الكثير وخسرت أكثر، لكنها الآن تمسك بزمام الأمور ولن تسمح لأحد بانتزاعها منها مجددًا.

“أختي…” قال تميم بحماس، وقد تألق الأمل في عينيه. “تذكري أن تأخذيني معكِ، أريد أن أكون هناك لأرى ذلك بعيني!”

بشكل لا يُصدق، كان يؤمن تمامًا بقدرتها على تحقيق وعدها. بعد كل ما رأى من صلابة وإصرار في شيهانة، بات واثقًا بأنها قادرة على استعادة كل ما سُلب منهم.

ابتسمت شيهانة بثقة ووضعت يدها على كتفه:

“أعدك بذلك.”

ثم غيرت الموضوع بحنان واضح:

“عمي، ما زلتَ في طور التعافي… لذا، الأفضل أن تذهب إلى غرفتك وتستريح. لقد أنزلتك مؤقتًا في الطابق السفلي حتى لا تتكبد عناء الصعود.”

رمقها توفيق بنظرة امتنان ممزوجة بالمفاجأة:

“هل… هل كل شيء مستقر بالفعل؟”

أجابت وهي تمسك بيده بلطف، تقوده برفق نحو غرفته:

“نعم، طلبت المساعدة في تنظيف المكان مسبقًا، وأمتعتنا موجودة بالفعل هنا.”

هز توفيق رأسه بامتنان وهمس بصوت متأثر:

“شكرًا لكِ…”

كانت تلك الكلمة تحمل أكثر مما بدا على السطح؛ شكرًا على الجهد، على العناية، على الأمل الذي أعادته لهم من بين الأنقاض.

عندما دخل توفيق غرفته، وقف للحظة يحدّق في المساحة الفسيحة بدهشة. كانت الغرفة مضاءة جيدًا، بأثاث أنيق يفيض بالدفء والراحة. بدا كل شيء متناغمًا؛ الستائر الناعمة تتمايل برفق مع تيار الهواء الخفيف، والسجادة الوثيرة تحت قدميه بدت كأنها تدعوه للاسترخاء.

جلس على السرير الناعم، وشعر براحة غريبة تتسلل إلى جسده المنهك، كأن هذا المكان كان ينتظره منذ زمن. كانت هذه الغرفة مختلفة تمامًا عن تلك الزوايا الضيقة التي اعتاد أن يطوي جسده فيها خلال السنوات الماضية.

رفع بصره نحو السقف المزخرف وأخذ نفسًا عميقًا… كم تحمّلوا؟ كم عانوا تحت وطأة الظروف؟

اختلط الفرح بالحزن في صدره… الفرح لأنهم أخيرًا استعادوا ما سُلب منهم، والحزن لأن الطريق إلى ذلك كان مرصوفًا بالخسائر.

جلس تميم وشيهانة إلى جانبه لبعض الوقت. تبادلوا الأحاديث، واسترجعوا ذكرياتهم القديمة بألفة دافئة افتقدوها طويلًا. كأن هذه اللحظة كانت تعويضًا عن سنوات الفقد والتعب.

عندما بدأت جفونه تثقل، ابتسم لهما بامتنان خافت قبل أن يغرق في نومٍ عميق، نوم لم يشعر بمثله منذ زمن.

غادر تميم وشيهانة الغرفة بهدوء، لكن خطاهما لم تسر بهما مباشرة إلى غرفتيهما. بدت أقدامهما وكأنها تقودهما في جولة غير واعية بين أرجاء الفيلا.

وقف تميم في منتصف الردهة يتأمل الجدران المزينة والدرابزين المصقول. لسنوات كان يأتي إلى هذا المكان زائرًا لعمه وابنته، لكنه لم يتخيل يومًا أنه سيصبح منزله يومًا ما.

زفر طويلًا، وكأن أنفاسه تحمل ثقل سنوات من الضيق والقهر.

“يا أختي…” همس بصوت مرتجف.
“ظننت أننا لن نغادر تلك الشقة القذرة ما حيينا… لكننا الآن نعيش في فيلا. قولي لي إنني لا أحلم…”

الفصل 47

كان تميم بطبيعته شخصًا متفائلًا، يرى النور حتى في أحلك الظروف. لكن سنوات الفقر الطويلة والخيبات المتكررة نالت من ذلك التفاؤل، فبات يخشى التعلق بالأمل كي لا يُخذل مجددًا.

لهذا، كان الانتقال المفاجئ إلى الفيلا يبدو له كأنه جزء من حلم هشّ… لحظة جميلة يخشى أن تتبخر ما إن يفتح عينيه.

سمعت شيهانة همسه، فابتسمت ابتسامة دافئة وقالت برقة:
“تميم… سأعيد إليك نصيحةً سبق أن قدمتها لي ذات مرة: لا تُرهق نفسك بالتفكير في الماضي. أعدك أن مستقبلنا سيكون أفضل. على أي حال… لا تُضيع وقتك بالقلق، تعال لأريك غرفتك.”

لمعت عيناه ببريق طال غيابه، وارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة كأنها تُحيي طفولته من جديد. رد بحماس:
“حسنًا!”

قادته شيهانة إلى الطابق الثاني، حيث كانت غرفته تنتظره. فتح الباب ببطء، وما إن وقعت عيناه على الداخل حتى ثبت في مكانه.

الغرفة كانت واسعة، يغمرها ضوء الشمس المتسلل عبر نافذة كبيرة. الديكور أنيق وبسيط، يحمل لمسات دافئة تبعث على الراحة. خزانة ملابس كبيرة تملأ الجدار المقابل، وبجانبها طاولة دراسة متينة تتوسط المساحة. 

لكن ما جذبه أكثر كان ذلك الحاسوب المحمول الموضوع فوق الطاولة… طراز حديث، متطور… تمامًا من النوع الذي لطالما حلم بامتلاكه.

ركض إليه بسرعة، وكأنه يخشى أن يختفي إن تأخر للحظة. وضع يده على سطحه برفق، ثم التفت نحو شيهانة متسائلًا بحماس:

“أختي… هل هذا لي؟”

ابتسمت شيهانة بحرارة وهي تومئ برأسها.

“هل أعجبك؟”

ضحك تميم بفرح طفولي وهو يقول:

“بالطبع! أختي، أنتِ رائعة جدًا! أعجبني… أعجبني كل شيء هنا!”

ثم أضاف بصوت مليء بالصدق:

“أنا سعيد… سعيد جدًا.”

لكن ابتسامته سرعان ما تلاشت قليلًا عندما خطر بباله شيء ما. نظر حوله مجددًا، متفحصًا الأثاث الجديد والتفاصيل الأنيقة التي أضفت مظهرًا متجددًا على الفيلا.

“أختي… لا بد أن هذا قد كلفك الكثير، أليس كذلك؟” سأل بصوت خافت، قلقًا من أن تكون قد أنفقت كل مدخراتها.

رفعت شيهانة كتفيها بلا مبالاة وقالت بثقة:

“يمكن للمرء دائمًا كسب المزيد من المال.”

تذكر تميم تلك الليلة العجيبة عندما ربحَت شيهانة مئات الآلاف من الرنمينبي بطريقة لم يفهمها تمامًا، لكنه كان واثقًا بأنها تعرف ما تفعله.

تنهد بارتياح وقال بلهجة جادة:

“أختي، سأبدأ العمل بعد بضعة أيام. سأساعدك… سأُضيف إلى ميزانية الأسرة!”

ابتسمت شيهانة مجددًا، لكنها لوّحت بيدها وكأنها تصرف الفكرة:

“لا داعي للتسرع. في الحقيقة… أحتاج مساعدتك في شيء ما.”

رمقها تميم باستغراب وسأل بفضول:

“مساعدتك؟ في ماذا؟”

“سأخبرك بعد بضعة أيام… لكن لا تذهب إلى العمل الآن، ابقَ في المنزل للاسترخاء ومساعدتي في رعاية عمي.”

لم يتردد تميم لحظة واحدة، فقد اعتاد أن يثق بقرارات أخته دون نقاش.

“حسنًا! سأفعل ما تقولينه.”

ثم تابع مازحًا:

“طالما أنني أُطيعك دائمًا، فلا تنسي أنني أستحق معاملة خاصة!”

ضحكت شيهانة برفق وقالت:

“حسنًا، ارتح الآن… سأدعك تستمتع بغرفتك الجديدة.”

استدارت لتغادر، لكن تميم ناداها فجأة.

“أختي… انتظري.”

استدارت وهي ترفع حاجبها باستغراب:

“ما الأمر؟”

تردد تميم للحظة، ثم سأل بجدية:

“أختي… هل اشتريتِ أي ملابس جديدة أو… أو مكياج لنفسك؟”

توقفت شيهانة في مكانها للحظة، متفاجئة من سؤاله غير المتوقع. رمقته بنظرة مستفسرة وقالت بحذر:

“لماذا تسأل شيئًا كهذا؟”

تفحّصها تميم بعناية، وكأنه يرى ما كانت تحاول إخفاءه. لاحظ وجهها الشاحب، وملابسها البسيطة التي تُخفي معالم شخصيتها، ففهم على الفور أنها، كالعادة، اختارت أن تُهمل نفسها.

زفر بامتعاض وقال بنبرة جادة تحمل في طياتها عتابًا دافئًا:

“يا أختي، عليكِ أن تهتمي بنفسكِ أكثر. أنتِ شابة وجميلة، ولا يليق بكِ أن تظهري بهذا الشكل المُتعَب. الناس يُقيّموننا من مظهرنا، وإن بدوتِ هكذا، قد يستهين بكِ البعض مهما كنتِ قوية.”

كانت كلماته مباشرة وصادقة، جعلت شيهانة تبتلع تعليقاتها الدفاعية.

“تميم…” حاولت الاعتراض، لكنه قاطعها بإصرار:

“أنا جاد. لا أريدكِ أن تعيوكأنكِ تحملين العالم وحدك. اعتني بنفسكِ كما تعتنين بنا.”

كانت كلماته بسيطة، لكنها ضربت وتراً حساسًا في داخلها.

فكرت في حديث تالين معها في ذلك اليوم… كلمات تميم لم تكن مختلفة كثيرًا. ما قاله صحيح: صورتها الحالية لا تعكس حقيقتها. مظهرها المُهمَل يمنح الآخرين فرصة للاستخفاف بها، مهما كانت قوتها.

“أفهم.” تمتمت بصوت خافت وهي تغادر الغرفة.

حين وصلت إلى غرفتها، توقفت أمام المرآة الطويلة، تُطيل النظر إلى انعكاسها.

ما رأته أمامها لم يكن غريبًا عليها تمامًا… لكنها بالكاد تعرّفت على تلك الفتاة التي تحدّق بها من الزجاج.

لم تكن طويلة بشكل استثنائي، لكن قامتها المستقيمة أضفت عليها حضورًا هادئًا. كان جسدها متناسقًا، وساقاها الطويلتان تمنحانها مظهرًا أنيقًا بالفطرة.

لكن وجهها… كان شاحبًا على نحو يُوحي بإرهاق متراكم. تحت عينيها هالات داكنة تُخبر عن ليالٍ طويلة بلا نوم. وكدمة قديمة على وجنتها كانت لا تزال تترك أثرًا باهتًا، كندبة تذكّرها بأيام الألم والانكسار.

أما ملابسها الفضفاضة والبسيطة، فقد كانت أشبه بدرع، ارتدته لتحمي نفسها من نظرات الآخرين، لكنها مع الوقت صارت تخفيها أكثر مما تحميها.

مدّت يدها ببطء ومرّرتها على وجهها… تُحاول تذكّر تلك الفتاة التي كانت عليها في الماضي. كانت ذات يوم تهتم بمظهرها… كانت تعرف كيف تُبرز جمالها دون تكلف، وكيف تُحسن اختيار ملابسها لتبدو واثقة وساحرة.

لكن تلك الفتاة… تاهت في زحمة المعاناة والخذلان.

“لقد أهملتُ نفسي كثيرًا…” همست لنفسها.

رغم ذلك، كانت تعلم أن ما فقدته ليس مستحيلًا استعادته. الجمال الذي كانت تمتلكه لم يختفِ… هو فقط ينتظر أن تمنحه فرصة للظهور من جديد.

لكن هذه المرة، لم تكن ترغب في مجرد تحسين مظهرها… بل كانت تريد ما هو أكثر من ذلك.

لقد تعبت من مجرد محاولة النجاة.

هذه المرة… كانت تنوي أن تزدهر.

ابتعدت عن المرآة وعينيها تتوهجان بتصميم حازم.

“هذه المرة… لن أكتفي بالقليل.”

لم تعد تفكر في مجرد مئات الآلاف التي ربحتها سابقًا. طموحها بات أكبر من ذلك بكثير.

ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكنها كانت تحمل في طياتها وعدًا قاطعًا:

“هذه المرة… سآخذ كل ما هو لي وأكثر.”

الفصل 48

لقد اكتفت تمامًا من العيش في فقرٍ مدقع.

كانت لديها خططٌ عظيمة لمستقبلها، لكنها كانت بحاجةٍ إلى المال لتحقيقها.

في صغرها، لم تكن شيهانة تقلق بشأن المال أبدًا. كانت تُنفق بسخاءٍ، واثقةً بأن مهاراتها كفيلةٌ بتعويض أي مبلغ تنفقه. حسابها البنكي كان دائمًا شبه فارغ، لكنها لم تهتم.

ثم تغيّر كل شيء.

عندما فقدت ثروة عائلتها، أدركت أخيرًا أن المال لم يكن مجرد أداة للرفاهية… بل أساسٌ للبقاء. حينها فقط بدأت تُقدّر كل قرشٍ يقع بين يديها.

الآن، كانت بحاجةٍ إلى المال، وبأسرع وقتٍ ممكن.

المشكلة لم تكن في قدرتها على كسب المال؛ بل في الحاجة إلى جمع مبلغٍ كبير خلال فترةٍ قصيرة.

عيد ميلاد لين كان يقترب، ولم تكن تستطيع أن تظهر أمامه بملابسها البالية المعتادة. لن تتحمل نظرات الشفقة أو الازدراء من الآخرين. لن تخذل لين، ولن تسمح لأحدٍ بإحراجه بسببها.

هذا يعني شيئًا واحدًا: كانت بحاجة إلى المال… والكثير منه.

لكن… من أين؟

أشعلت شيهانة جهاز الكمبيوتر الجديد الذي اشترته مؤخرًا، وبدأت تبحث عبر الإنترنت عن فرصٍ تُمكنها من كسب المال بسرعة.

الطريقة التي استخدمتها في الماضي لم تعد خيارًا. تكرارها الآن سيجعل تعقبها أسهل، وقد يُورطها في مشاكل لا طائل منها. والأسوأ من ذلك، تلك الحيلة كانت مُرهقة وتُدرّ عائدًا محدودًا بالكاد يُلبي احتياجاتها.

أمضت ساعاتٍ طويلة تتصفح المواقع، تقرأ الإعلانات، تبحث في كل زاويةٍ ممكنة… لكن دون جدوى.

في لحظة يأس، خطرت لها فكرة الذهاب إلى ورد للمطالبة بنصيبها من ميراث والدها. لكنها سرعان ما استبعدتها. استعجال الأمور لن يجلب لها سوى المتاعب، وعليها أن تتحلى بالصبر والحذر.

لكن الوقت لا ينتظر، والمال لم يعد مجرد حاجة، بل ضرورة مُلحّة.

فجأة، لمعت في ذهنها فكرة… منتدى القرصنة. ذلك العالم الخفي الذي ترددت عليه منذ فترة قصيرة.

بمجرد دخولها إلى المنتدى، اكتشفت أن الحيلة التي نفذتها سابقًا قد أثارت ضجة كبيرة بين مجتمع القراصنة… بل إن هناك خيوطًا بدأت تُنسج حول هويتها.

انتشرت عروض مغرية بمكافآت ضخمة لمن يكشف عن اسمها الحقيقي.

رمشت شيهانة وهي تحدّق في المبالغ المعروضة، ثم خطرت لها فكرة مجنونة:
ماذا لو باعت نفسها؟

ضحكت على سخافة الفكرة، وهزّت رأسها مستنكرة، قبل أن تواصل التصفح.

رأت أحدهم يعرض عليها تحديًا… الرهان: مليون دولار.

لم تحتاج للتفكير طويلًا. قررت أن تقبل، فلم يكن لديها ما هو أفضل لتفعله.

باستخدام حسابها المعروف باسم OP، تتبّعت عنوان الـIP الخاص بمنافسها.

لكن ما إن نجحت في الوصول إليه حتى اجتاحها شعور خانق بالندم…

لقد كان عنوان IP يعود إلى… إمبراطورية شهيب.

“001؟”

من الواضح أن الطرف الآخر كان متصلاً بالإنترنت، فقد وصلت رسالة إلى شاشة شيهانة فور اكتشافه لوجودها، وكأنّه كان يترقبها.

في اللحظة نفسها، أدركت أن ذلك الشخص يحاول اختراق جهازها أيضًا.

بهدوءٍ شديد، هيّأت شيهانة دفاعاتها الرقمية وردّت برسالة مقتضبة:

“الفضول يقتل القطة. توقّف، وإلا سأجعلك تندم.”

لكن الرد جاء سريعًا، وكأن الطرف الآخر كان ينتظر استفزازها:

“ثرثار جدًا. أعتقد أنك تعرف هويتي بالفعل… ومن العدل أن أعرف هويتك، أليس كذلك؟”

توقفت أصابع شيهانة فوق لوحة المفاتيح، ثم كتبت دون تردد:

“أنت… مراد؟”

كانت تعرف الجواب مسبقًا، لكن كان عليها أن تتأكد.

“نعم، أنا هو.”

تجمّدت أنفاسها للحظة، قبل أن تصلها رسالة أخرى:

“001، سمعت عنك أشياء رائعة… هل ترغب بالعمل في شركتي؟”

الفصل 49

كان السبب وراء تحدي مراد واضحًا… أراد جذب 001 إلى شركته.

رغم بعض التحفظات التي راودته بشأن هذه الشخصية الغامضة، كان مراد يؤمن إيمانًا راسخًا بأن 001 يمتلك موهبة استثنائية، ورفض أن يرى مثل هذه العبقرية تُهدر.

مع اسم إمبراطورية شهيب خلفه، كان متأكدًا أن 001 سيقبل غصن الزيتون الذي مدّه إليه.

جلس مراد في هدوءٍ مريب، واثقًا من أن الرد سيكون “نعم”.

لكن ما حدث لم يكن متوقعًا…

“غير مهتم!”

كان الرد صادمًا ومباشرًا.

قبل أن يتمكن مراد من استيعاب الموقف، انسحب العميل 001 من المحادثة، تاركًا خلفه شاشة نظيفة تمامًا… لا أثر، لا ثغرة، لا خيط يمكن تتبّعه.

حاول مراد على الفور تعقبه، لكن عبثًا… الأثر كان باردًا تمامًا.

جلس يحدّق في تلك الكلمتين: “غير مهتم.”

ارتعش فمه بانزعاج.

إلى أي مدى ساءت سمعته حتى بات الرفض يلاحقه بهذا الشكل؟

ومع ذلك، ورغم الإحباط، لم يستطع إنكار حقيقة أذهلته…

001 لم يكن مجرد هاكر موهوب — بل عبقري حقيقي. خلال محادثتهم القصيرة، حاول مراد تتبع هويته، لكنه فشل تمامًا.

ذلك النوع من المهارة لا يُكتسب بسهولة… بل يُولد مع صاحبه.

والأكثر من ذلك، أن 001 امتلك جرأةً استثنائية. رفض عرضه بحدة، رغم معرفته التامة بمن يتعامل معه.

“العباقرة الحقيقيون… دائمًا ما يكونون غريبي الأطوار.”

ورغم فشل المحاولة، وجد مراد نفسه أكثر اهتمامًا بـ 001 من أي وقت مضى.

أما شيهانة، فبعد أن أنهت المحادثة، جلست متجهمة الوجه.

لم تكن تتوقع أن تلفت انتباه مراد، ولا كانت ترغب بذلك.

حذّرت نفسها من أن تكون أكثر حذرًا في المستقبل. لم تكن تريد أي علاقة أخرى بمراد… فمن يدري ما هي الحيل الأخرى التي قد يستخدمها لتعقبها؟

كان واضحًا أن المنتدى لم يعد مكانًا آمنًا لصيد الفرص.

لكنها لم تشعر بالهزيمة. إن لم تجد حلاً اليوم… فالغد دائمًا حاضر.

وعلى الجانب الآخر، كان تميم الذي انتقل حديثًا إلى الفيلا يبدو أن حالته المزاجية بدأت تتحسن تدريجيًا.

في ذلك الصباح، قرر أن يُعدّ طعامًا منزليًا لعائلته. استيقظ باكرًا وتوجه إلى السوق، وهو يخطط للعودة في وقت الإفطار.

لكن بينما كانت شيهانة تُعدّ وجبة الإفطار، تركت حصته في الهواء الطلق حتى أصبحت باردة… والوقت يمر.

عندما اقتربت الساعة من الظهر ولم يعد بعد، قال توفيق بقلق:

“لماذا تأخر تميم كل هذا الوقت؟”

ردت شيهانة بنبرة مواساة: “سأتصل به وأسأله.”

رفعت الهاتف واتصلت برقم تميم. مرت عدة رنات قبل أن يُجيب أخيرًا، وصوته مشوّه كأنه يُحاول إخفاء شيء.

“أختي… لماذا اتصلتِ بي؟”

شيهانة كانت تُدرك جيدًا طريقته. نبرة التهكم المصطنعة في صوته أكدت لها أن هناك أمرًا ما.

“أين أنت؟ لماذا لم تعد من السوق بعد؟”

“آه، صحيح… نسيت أن أخبركِ، تلقيتُ اتصالًا من أحد أساتذتي السابقين. طلب مني مقابلته في الجامعة. على أي حال، لا يزال لديّ بعض الأمور لأهتم بها، فلا تنتظريني.”

كلمات تميم كانت مغطاة ببهجة مصطنعة لم تنطلِ على شيهانة. لم تُصدق حرفًا مما قاله.

“أين أنت بالضبط؟” سألت بلهجة صارمة، متحدية إياه أن يواصل كذبه.

تأخر تميم في الرد قبل أن يجيب بصوت ضعيف:

“عند بوابة المجمع السكني…”

فهمت شيهانة فورًا. وضعت الهاتف جانبًا والتفتت إلى عمها بوجه جاد:

“عمي، تميم تأخر بسبب بعض الأمور الدراسية. طلب منا ألا ننتظره. سأذهب لأحضر لك شيئًا لتأكله، ماذا تفضل؟”

لم يُدرك توفيق نبرة الكذب في صوتها، فاكتفى بالقول:

“أي شيء تحضرينه سيكون جيدًا.”

“حسنًا، استرح الآن. سأتصل بك عندما أعود.”

قال توفيق محذرًا:

“انتبهِ جيدًا، ولا تشتري الكثير. نحن فقط ثلاثة… لا تُثقلي نفسك بحمل ثقيل.”

ابتسمت شيهانة ابتسامة باهتة وغادرت مسرعة، وعقلها مشغول بما قد يكون أصاب تميم.

الفصل 50

غادرت شيهانة المنزل وأصداء تمنيات توفيق الطيبة تتردد في ذهنها، لكن عقلها كان مشغولًا بأمر واحد فقط: تميم.

المنطقة السكنية بدت أوسع من المعتاد، والشوارع كانت هادئة بشكل غريب… كأن العالم بأسره يُنذرها بمصيبة ما. الهواء كان مشحونًا بشيء ثقيل، يُشعرها وكأن قلبها يتعثر في صدرها مع كل خطوة.

ثم رأته.

كان تميم جالسًا تحت ظل شجرة بجانب بوابة المجمع، مُنحنِيًا على مقعد فولاذي، رأسه منخفض، وقميصه ممزق بالكامل.

ركضت نحوه بخطوات متسارعة، وصوتها خرج كصرخة خافتة:

“تميم!”

رفع رأسه ببطء عند سماعها، وشيهانة توقفت في مكانها للحظة…

وجهه كان مليء بالكدمات، عيناه متورمتان، وشفتيه تحملان آثار جرح حديث.

“أختي…” قال بصوت خافت، ثم خفض رأسه على عجل، وكأنه يُحاول إخفاء جروحه عنها.

لكن شيهانة لم تكن لتمرر ذلك.

انحنت أمامه وأمسكت بذقنه برفق، لترفع وجهه نحوها.

حدّقت في الكدمات التي غطت ملامحه… وتوهّج الغضب في عينيها كشرارة على وشك أن تُشعل حريقًا.

“من فعل هذا؟” سألت بحدة، صوتها كان أشبه بنصل يخترق الصمت.

تميم، الذي يعرف جيدًا مدى خطورة غضب أخته، حاول تهدئتها بابتسامة واهنة:

“أنا بخير… مجرد جروح صغيرة. يبدو الأمر خطيرًا فقط، لكنه ليس كذلك.”

لكن شيهانة لم تُصدّق حرفًا.

“سألتك… من فعل هذا؟” كررت بصوت منخفض هذه المرة، لكنه كان يحمل نبرة تهديد لا تقبل المساومة.

شيهانة… التي عُرفت ببرودها المعتاد، بحذرها، بقدرتها على كبح مشاعرها، تتحول إلى إعصار مدمر عندما يُؤذى أحد أحبائها.

وتميم… كان أكثر من مجرد شقيق.

تذكرت كيف كان منذ صغره؛ ذلك الطفل الطيب، المبتسم دائمًا، الذي كان يسبق الريح ليحضر لها كوب ماء عندما تُصاب بالحمى. لم يكن فقط شقيقها… كان جزءًا من روحها.

والآن… ترى ذلك الجزء محطمًا أمامها.

“أخبرني، من فعل هذا؟” كررت بنفاد صبر، نبرة صوتها تتراقص على حافة الانفجار.

تنهد تميم بضيق وقال:

“لا أعرف… عندما عدتُ من السوق، جاء رجلان من الجهة المقابلة واصطدما بي عمدًا. اعتذرتُ مع أنني لم أكن المخطئ، لكنهما لم يسمحا لي بالذهاب. قالا إنهما يريدان تعليمي درسًا… حاولتُ المقاومة، لكنني لم أكن قويًا بما يكفي… كان هناك اثنان منهما… أنا آسف يا أختي، آسف لأنني كنتُ عديم الفائدة…”

بينما كان تميم يتحدث، كانت شيهانة ترى المشهد يتجسد أمام عينيها… رجلان ينهالان عليه باللكمات والركلات، بينما يحاول يائسًا الدفاع عن نفسه.

شعرت بحرارة الغضب تتصاعد إلى رأسها. قلبها كان ينبض بعنف، وأطرافها ترتجف من شدّة الانفعال.

لن تسامح…

لن تسامح من تجرّأ على إيذاء تميم.

منذ تلك اللحظة، لم يعد السؤال: ماذا ستفعل؟
بل أصبح: متى؟ وكيف ستجعلهم يندمون؟

لكنها أجبرت نفسها على التماسك… الغضب لن يُفيد الآن. كان عليها أولاً أن تعرف من هم هؤلاء الرجال وأين يمكن أن تجدهم.

“أين حدث ذلك؟” سألت بصوت متماسك رغم الغليان في داخلها.

“على بعد مئات الأمتار من هذا الجانب…” تمتم تميم، صوته ضعيف ومتعب.

“تعال، سآخذك إلى المستشفى.” قالت وهي تسحبه برفق.

حاول تميم النهوض، لكن جسده خانه. شعر وكأن الأرض تتلاشى تحت قدميه، فتراجع مترنحًا إلى أسفل الكرسي.

شحب وجهه بشكل مخيف، وتلعثمت كلماته وهو يقول:

“أختي… من فضلك… انتظري لحظة… أحتاج إلى… أخذ قسط من الراحة…”

رأت شيهانة كيف بدأت عيناه تفقدان تركيزهما، والقلق اخترق قلبها كخنجر بارد.

“انتظر هنا!” قالت بقلق قبل أن تنطلق بسرعة بحثًا عن المساعدة.

لحسن الحظ، صادفت أحد رجال الأمن، وسرعان ما ساعدوها في نقل تميم إلى أقرب مستشفى.

كانت حالة تميم أسوأ مما تخيلت. فبينما كانت الكدمات والجروح واضحة على سطح جسده، كان النزيف الداخلي هو الخطر الأكبر.

صمد تميم بالكاد حتى وصلوا إلى المستشفى، وما إن عبروا الباب حتى انهار فاقدًا وعيه.

خرج الطبيب بعد فحصه، وكلماته خرجت ثقيلة مشبعة بالتحذير:

“لقد كان في خطر حقيقي… لو تأخرتم لحظة أخرى، ربما كنا فقدناه.”

اشتعلت النار مجددًا في صدرها، كأن شرارة كانت كامنة في الأعماق تنتظر لحظة لتنفجر. غضب عاصف اجتاحها، يعتصر أنفاسها ويشدّ قبضته على قلبها.

غضبت من تميم لأنه تحامل على نفسه بهذا الشكل، معاندًا الألم بدلًا من طلب المساعدة في الحال. غضبت من نفسها لأنها لم تدرك خطورة حالته منذ اللحظة الأولى التي رأته فيها.

لكن أكثر ما أثار غضبها… كان أولئك الرجال الذين تجرأوا على إيذاء شقيقها.

ستجعلهم يندمون… وبقسوة.

جميع فصول الرواية من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top