الفصل الأول
لم تكن تتوقع أن تُقابل محاولتها الأخيرة بهذا الكم من البرود والاحتقار.
وقف أمامها مدير المطعم، ينظر إليها بنفاد صبر، قبل أن يقول بنبرة قاطعة:
“نعتذر، لكننا لا نوظف نساءً تجاوزن الثلاثين.”
ولوّح بيده بإشارة ملولة كمن ينهي محادثة لا تستحق الاستمرار.
تراجعت المرأة بصمت، لا غضب في عينيها ولا دهشة، بل شيء يشبه اللاشيء…
لكن قبل أن تبتعد تمامًا، التقطت أذناها عبارته التالية، همسًا لا يخلو من القسوة:
“من سيتحمّس لدخول مطعم نادلته تبدو عجوزًا وبائسة؟”
عندها فقط، تجهم وجهها، وكادت تستدير لتدافع عن نفسها وتقول إنها لم تتجاوز الخامسة والعشرين…
لكن شيئًا ما منعها.
عينها التقطت انعكاس صورتها في زجاج النافذة.
توقفت، وأمعنت النظر في ذلك الوجه الذي بالكاد تعرفه.
وجه شاحب كأن الحياة هجَرته،
عينان غائرتان فقدتا نورهما،
شعر متشابك وجاف،
وملابس باهتة متهالكة تُضفي على مظهرها عمرًا إضافيًا،
كأنها تجاوزت الثلاثين بكثير.
زفرت ببطء، وكأنها تُخرج ما تبقى من أمل عالق في صدرها.
متى أصبحت بهذا الشكل؟
كيف استطاع الحزن أن يُشيخها بهذه السرعة؟
هي ما زالت في الخامسة والعشرين…
لكن السنوات الماضية كانت قاسية بما يكفي لتُطفئ بريقها وتثقل خطواتها.
ابتسمت ابتسامة صغيرة حزينة،
ثم مضت في طريقها، بخطى بطيئة كأنها تسير وسط رماد حلم محترق.
فجأة، توقفت سيارة فارهة خلفها.
لم يغب بريق سيارة مايباخ الفاخرة عن أعين مدير المطعم الذي انتصب واقفًا فجأة.
“الرئيس التنفيذي مراد! مرحبًا، مرحبًا!” قال بابتسامة متملقة وهو يركض نحو السيارة.
توقفت شيهانة مكانها، إذ تعرفت على الاسم فورًا.
خرج رجل طويل القامة من السيارة، وبجانبه امرأة شابة أنيقة تتعلق بذراعه.
“مراد، هل ترافقني للتسوق بعد قليل؟ سمعت أن متجر شانيل الجديد قد فتح أبوابه اليوم.” قالت تالين بدلال، متشبثة بذراعه.
رمقها مراد بنظرة باردة قبل أن يجيب باقتضاب: “إن!”
تجمدت شيهانة في مكانها.
لا يمكن أن يكون هو…!
دون وعي، استدارت ببطء… وعيناها وقعتا على وجهه.
إنه هو…
لم تكن تتخيل أن القدر سيجمعهما مجددًا، هكذا… بعد ثلاث سنوات من طلاقهما.
لقد كان لا يزال ذلك الرجل الوقور الذي يفيض سحرًا وهيبة. أما تالين، فقد بدت مشرقة وأنيقة كعادتها، وكأنها تنتمي إلى عالم آخر… عالم لا مكان فيه لشيهانة.
لقد انتهى بهما المطاف معًا في النهاية…
حاولت أن تقنع نفسها بأن الأمر لم يكن مفاجئًا. في النهاية، بعد رحيلها، كان من الطبيعي أن ينجذبا إلى بعضهما البعض.
“شيهانة؟” نطق مراد بذهول.
تصلبت تالين بجانبه، ثم شهقت بصوت مرتفع: “يا إلهي! هل هذه… أنتِ؟ ماذا حدث لك؟”
استفاقت شيهانة من شرودها، وأشاحت بوجهها سريعًا، تتمتم: “لقد أخطأتِ في التعرف على الشخص الخطأ.”
استدارت وغادرت على عجل.
لم يكن هناك أي احتمال لمواجهتهم اليوم… لا وهي في هذه الحالة البائسة.
أي امرأة ستفعل الشيء ذاته — تهرب من مواجهة زوجها السابق الثري وحبيبته الأنيقة عندما تكون بهذا الشكل؟
لكن صوت مراد لاحقها:
“شيهانة، انتظري!”
لحق بها وأمسك بذراعها.
صرخت وهي تحاول الإفلات منه: “دعني أذهب! أنا لست شيهانة… أنا لست هي!”
كانت تركز بشدة على التخلص من قبضته، ولم تلحظ السيارة المسرعة التي تقترب.
“شيهانة! انتبهي!” صرخ مراد، لكن الأوان كان قد فات.
تردد صوت الفرامل الحاد في المكان، ثم وقع الاصطدام.
طار جسد شيهانة وسقط أرضًا بقوة.
وفي تلك اللحظة، غرق عالمها كله في ظلام دامس…
الفصل الثاني: القديم والقبيح الآن
حلمت بكل ما حدث قبل أن تبلغ التاسعة عشرة من عمرها، واستعادت ذكريات ظنت أنها فقدتها إلى الأبد.
أدركت أن شيهانة في الماضي لم تكن امرأة يسهل كسرها؛ لم تكن لتصل إلى هذه الحالة البائسة بسهولة.
كانت ذات يوم فخر عائلتها… والآن…
غمرتها مشاعر الأسى وهي تتذكر المحن التي اضطرت لتحملها، فانهمرت دموعها بصمت على وجهها الشاحب.
في غرفة المستشفى، كان الطبيب يشرح حالة شيهانة لمراد:
“المريضة ما زالت فاقدة الوعي، لكن حالتها مستقرة إلى حد كبير. لقد تعرضت لارتجاج خفيف في الرأس، ولكن من المفترض أن يكفيها أسبوع أو أسبوعان من الراحة لتتعافى تمامًا. مع ذلك، ستحتاج إلى مكملات غذائية بسبب معاناتها من سوء التغذية لفترة طويلة…”
قطّب مراد جبينه بقلق.
كيف يمكن أن تعاني شيهانة من سوء التغذية لفترة طويلة؟
التفت ينظر إليها، وفي اللحظة التي فعل فيها ذلك، لاحظ دموعها وهي تنساب على وجهها المنهك.
اهتزت عيناه قليلاً بينما اجتاحته موجة من المشاعر المتضاربة.
شيهانة… ما نوع الحياة التي أصبحت تعيشينها بعد طلاقنا؟
إلى جانبه، كانت تالين تحدق في شيهانة هي الأخرى، غارقة في أفكارها.
نظرت إلى المرأة التي كانت تظن يومًا أنها سرقت مراد منها… والآن؟
ابتسمت في سرها، وشعرت بسعادة خفية وهي ترى شيهانة في هذه الحالة المزرية.
شيهانة… لقد خسرتِ أمامي من قبل، وسيكون سقوطك أكثر مأساوية الآن. عجوزة، ضعيفة، بالكاد أستطيع أن أجد فيك شيئًا يستحق القلق.
أشاحت تالين بنظرها بعيدًا، ثم وضعت يدها برقة على ذراع مراد وقالت بصوت ناعم:
“مراد، لا تقلق. أنا واثقة أن شيهانة ستكون بخير. ربما ينبغي أن نوفر لها ممرضة خاصة، أو… يمكننا ترك بعض المال لها. أعتقد أن هذا ما تحتاجه أكثر من أي شيء آخر الآن.”
أومأ مراد برأسه قليلًا، غير مبالٍ.
استغلت تالين الفرصة لتقول:
“مراد، لقد تأخر الوقت. لدينا عشاء عائلي الليلة لمناقشة زفافنا… ألا ينبغي أن نذهب؟”
عندها فقط تذكر مراد الموعد.
منذ طلاقه، لم يكن يفكر في الزواج مجددًا، لكن باعتباره الوريث الذكر الوحيد لعائلة شهيب، كان عليه أن يتزوج لضمان استمرار اسم العائلة.
كانت تالين صديقة طفولته، وعائلة شهيب بأكملها كانت تحبها. جمالها وذكائها جعلا منها اختيارًا مثاليًا. بعد طلاقه، بدأت العائلتان في ترتيب زواجهما.
كان مراد يرى تالين كشخص ودود، لكنه لم يكن يحبها. في الواقع، لم يكن يحب أي امرأة.
حتى زواجه من شيهانة لم يكن بدافع الحب، بل كان مجرد زواج مرتب.
بالنسبة له، لم يكن يهم من تشغل موقع الزوجة طالما أنها امرأة جذابة وتكفي احتياجاته.
بعد فشل زواجه من شيهانة، ازدادت لامبالاته. لذا، عندما اقترحت عائلته الزواج من تالين، وافق دون تفكير.
والليلة كان موعد العشاء الذي سيجمع العائلتين لمناقشة تفاصيل زفافهما.
لكن صباح ذلك اليوم، خرجا معًا للبحث عن مطعم مناسب لاستضافة حفل زفافهما، ثم قضيا بعض الوقت في التسوق لاختيار فستان الزفاف…
لم يكن لديهما أدنى فكرة أن هذا اليوم سيقودهما إلى مواجهة غير متوقعة.
لم يكن أي منهما يتخيل أنهما سيصادفان شيهانة.
زوجته السابقة، المرأة التي لم يرها منذ ثلاث سنوات كاملة.
لطالما تساءل مراد، في لحظات نادرة من التفكير العابر، تحت أي ظروف قد يلتقيان مرة أخرى.
هل سيصادفها في حفل فاخر، تضحك برفقة أصدقاء جدد؟
أم يراها تتألق في مناسبة اجتماعية كبرى، واثقة ومشرقة كما كانت دائمًا؟
لكن لا… أيا من تلك السيناريوهات لم يكن يشبه ما حدث اليوم.
بدلاً من ذلك، وجدها هنا… مرمية في هذه الحالة البائسة.
كيف؟
ألم تكن شيهانة هي الفتاة المدللة لعائلة شيا؟ كيف انتهى بها المطاف إلى هذا الحال؟
كانت رؤيتها هكذا أشبه بصفعة مباغتة، واحدة تركت في نفسه شعورًا غريبًا، مزيجًا من الذهول والقلق…
الفصل 3: سأتزوج أخيرًا من مراد
وتذكر مراد أنه ترك لشيهانة مبلغًا كبيرًا من المال بعد طلاقهما.
كان ذلك المبلغ كافيًا — وأكثر — لتعيش حياة مريحة دون الحاجة إلى القلق بشأن المستقبل.
فلماذا وجدها في تلك الحالة البائسة؟
هذا السؤال لم يغب عن ذهنه منذ أن غادر المستشفى.
“مراد، ما الذي تفكر فيه؟” سألت تالين بفضول وهي تراقب ملامحه المتجهمة.
أجابها ببرود: “لا شيء مهم.”
تنهدت تالين قائلة: “أنت تفكر في شيهانة، أليس كذلك؟”
تابعت بصوت يحمل شيئًا من الازدراء: “حتى أنا لم أصدق أن هذه هي شيهانة التي رأيناها هناك. لماذا اختارت أن تعيش بهذه الطريقة بينما تمتلك المال لحياة أفضل؟ لماذا هي بهذا الغباء؟”
عنيدة…
هذه هي الكلمة التي وصف بها مراد شيهانة دائمًا.
في بعض الأحيان، يمكن للعناد أن يكون سمة بريئة أو حتى جذابة… لكنه في حالة شيهانة، كان قاتلًا.
كانت شيهانة مزيجًا معقدًا من العناد والصلابة، وهذا الخليط جعل المشاكل تلاحقها أينما ذهبت — وأيضًا تلاحق من حولها.
في الواقع، زواجهما فشل بسبب عنادها ورفضها التراجع أو الاستماع.
ومع ذلك… لم يتوقع مراد أنها ستكون غبية بما يكفي لتترك نفسها تنحدر إلى هذه الحالة المزرية رغم المال الذي حصلت عليه.
كيف يمكن لها أن تفشل حتى في الاعتناء بنفسها؟
ظل مراد غارقًا في أفكاره حتى توقفت السيارة أمام المطعم.
في الداخل، كانت العائلتان قد اجتمعتا بالفعل.
وبما أن العشاء كان مخصصًا لمناقشة زفافهما، فقد كان من بين الحضور والديهما، بالإضافة إلى لين، ابن مراد وشيهانة.
كان لين في الرابعة من عمره الآن — فقد كان مجرد طفل صغير لا يتجاوز العام عندما وقع الطلاق.
“لماذا لا نحدد الثاني من نوفمبر موعدًا للزفاف؟” اقترحت والدة مراد، السيدة شهيب، بابتسامة دافئة.
“إنه تاريخ ميمون، واليوم الوطني أيضًا… أعتقد أنه سيكون خيارًا مناسبًا.”
أومأت والدة تالين برأسها بسعادة وأضافت: “يا لها من صدفة! كنت سأقترح ذلك التاريخ أيضًا. مراد، تالين، هل توافقان على الموعد؟”
ابتسمت تالين بخجل وقالت: “بالطبع، مثل هذه الأمور تُترك دائمًا في أيدي الوالدين القادرين.”
هز مراد كتفيه بلا مبالاة: “أنا موافق على أي موعد.”
“رائع، إذن الموعد محسوم!” قالت السيدة شهيب، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة.
أمسكت بيد تالين بحنان وأضافت: “تالين، أشعر أن الله كان لطيفًا معي أخيرًا… أخيرًا سأراك زوجة لابني.”
لم تستطع السيدة شهيب إخفاء سعادتها؛ فقد كانت تالين أشبه بابنة لها، بعد أن نشأت عمليًا أمام عينيها.
لطالما كانت ترى في تالين زوجة مثالية لمراد… وها هي أمنيتها تتحقق أخيرًا.
وفي تلك اللحظة، كانت هناك امرأة أخرى على الطاولة تشعر بأن أمنيتها على وشك التحقق أيضًا — تالين.
وأخيرًا، كان مراد في متناول يدها.
أصبح الرجل ملكها في النهاية.
في تلك اللحظة، انزلق كوب العصير من بين يدي لين وسقط أرضًا، متحطمًا إلى شظايا بينما تناثر العصير على قميصه.
“لين، عليك أن تكون أكثر حذرًا!” وبخته السيدة شهيب بلطف، محاولة إخفاء انزعاجها.
“لين، هل أنت بخير؟”
تحركت تالين بسرعة نحوه بمنديل في يدها، عازمة على تنظيفه، لكن قبل أن تقترب، اندفع لين فجأة نحو مراد، متجنبًا إياها تمامًا.
تجمدت تالين في مكانها، يداها معلقتان في الهواء بحركة غير مكتملة، وملامحها تجاهد لإخفاء خيبة الأمل.
قال مراد، وهو يرفع ابنه بين ذراعيه: “سآخذه إلى الحمام لتنظيفه.”
في الحمام، وضع مراد ابنه برفق على طاولة الحوض، ثم بلل منشفة صغيرة وبدأ بمسح العصير عن قميصه.
كان لين يحدق في ساقيه المتدليتين، يتأرجح ببطء وكأن شيئًا ما يشغل باله.
وفجأة، صفع يد مراد بعيدًا عنه.
توقف مراد في منتصف الحركة وحدّق في ابنه بدهشة.
“ما الأمر؟” سأله بصوت هادئ لكنه حازم. “لقد كنت تتصرف بشكل غريب منذ بداية العشاء… هل هناك شيء يزعجك؟”
خفض لين رأسه بصمت، وازدادت تأرجحات ساقيه توترًا.
بهدوء، وضع مراد يده أسفل ذقن ابنه ورفع وجهه لينظر في عينيه.
رأى فيهما شيئًا لم يكن يتوقعه — نظرة مصممة، عنيدة… ومليئة بمشاعر مختلطة.
الفصل الرابع: طفل بلا أم
عبس مراد وسأل بجدية:
“لين، أخبرني… ما الذي يزعجك؟”
نظر إليه ابنه بعينين ثابتتين، ثم قال مباشرة:
“أنا لا أحب العمة تالين.”
جمدت كلمات الطفل مراد في مكانه. لقد فهم على الفور ما كان يقصده.
“أنت لا تريدني أن أتزوجها؟”
ظل لين صامتًا، لكن صمته كان أبلغ من أي إجابة.
“لماذا لا تحبها؟” تابع مراد بصوت أخفض، محاولًا فهم ما يدور في ذهن طفله. “لقد كانت لطيفة معك، أليس كذلك؟”
كان أحد الأسباب التي دفعت مراد للموافقة على الزواج هو المعاملة الجيدة التي لاحظها من تالين تجاه ابنه. بالنسبة له، لم يكن الأمر مهمًا كثيرًا من سيتزوج، لكن إذا كان عليه أن يتزوج، فمن الأفضل اختيار امرأة تكون زوجة أب جيدة لابنه.
وبالنظر إلى دعم عائلته الكامل لها، كانت تالين تبدو الخيار الأمثل.
لهذا، كان مفاجئًا أن يعترف لين بأنه لا يحبها.
“إنها لطيفة معي فقط لأنني ابنك… أنا مجرد أداة لها للوصول إليك.”
تصلّب وجه مراد وقال بحزم:
“هذا ليس شيئًا لطيفًا لتقوله.”
نظر إليه لين بحدة تفوق عمره، ثم قال:
“الحقيقة نادرًا ما تكون لطيفة.”
ثم تابع بصوت مرتجف، كأن كلماته تحمل أكثر من مجرد انزعاج عابر:
“ولماذا تهتم أصلاً؟ لم تسألني أبدًا عمن أريده أن يتزوجك… أنا مجرد عبء إضافي بالنسبة لك.”
قفز لين من على طاولة الحوض واندفع خارج الحمام، الغضب مشتعلاً في عينيه.
“توقف هناك!” أمره مراد بصرامة، صوته حاد بما يكفي لإيقافه للحظة.
“لين، من علمك أن تتحدث مع والدك بهذه الطريقة؟ أين هي آدابك؟”
استدار لين ببطء، ووجهه مشدود كمن يقاتل دموعه.
“لم يعلمني أحد…” قال بصوت مكسور، “ليس لدي أم لتعلمني… أليس كذلك؟”
ضربت كلماته قلب مراد كطعنة خفية.
ظل واقفًا في مكانه، عاجزًا عن الرد، بينما استدار لين وغادر راكضًا.
استفاق مراد من صدمته بعد لحظات واندفع خلفه.
لحق به عند مدخل المطعم، وهناك، عندما التفت لين نحوه، رأى مراد الدموع تتدفق على وجه ابنه الصغير.
لين… الذي كان دائمًا طفلاً هادئًا، نادرًا ما يشتكي أو يثير ضجة… الطفل الذي يمكنه قضاء ساعات في صمت بين صفحات كتاب.
رؤيته بهذه الحالة كانت صدمة لمراد.
لقد ظن دائمًا أن ابنه اعتاد على غياب أمه… لكنه أدرك الآن أن كل تلك المشاعر كانت مكبوتة في أعماقه.
نظر مراد إلى عيني ابنه، حيث امتزج الحزن بالخذلان… ولم يعد لديه رغبة في العودة إلى العشاء.
بعد مكالمة هاتفية قصيرة مع والدته، قرر مراد اصطحاب لين إلى المنزل.
في السيارة، جلس لين بجانبه، عاقدًا ذراعيه بينما كانت عيناه مثبتتين على المناظر الطبيعية التي تتلاشى بسرعة خلف زجاج النافذة. بدت هيئته الصغيرة وكأنها تصرخ بالوحدة والوحشة، رغم صمته التام.
ألقى مراد نظرة جانبية عليه، ثم زفر بهدوء.
كم كان صغيرًا… لكنه يحمل في قلبه عبئًا أكبر من عمره.
ظل مراد صامتًا بدوره. شعر أن أي محاولة للحديث قد تُزيد الأمور سوءًا.
وعندما مروا بالمستشفى، انجرفت أفكاره إلى شيهانة.
ترى… هل استيقظت؟
لم يستطع منع نفسه من التفكير في حالتها الهشة، وفي كيف بدا وجهها شاحبًا ومتعبًا وهي ترقد على سرير المستشفى.
شعر بقبضة باردة تلتف حول قلبه…
لين لن يتحمل رؤيتها هكذا…
كان متأكدًا من ذلك. الطفل كان يحمل صورة معينة عن والدته… صورة امرأة قوية ومشرقة. رؤيتها في تلك الحالة البائسة قد يحطم تلك الصورة تمامًا.
قرر مراد بصمت أن يؤجل لقاءهما مؤقتًا… على الأقل حتى تتحسن شيهانة بما يكفي لتبدو أكثر تماسكًا.
عندما وصلوا إلى الفيلا ، كان لين قد غرق في النوم.
حمله مراد بحذر بين ذراعيه وصعد درجات السلم ببطء متجنبًا إيقاظه. لكن قبل أن يتمكن من الوصول إلى غرفة لين، استوقفته خادمتهم، السيدة يو.
“سيدي، اسمح لي أن أحمل السيد الصغير.”
ابتسم مراد ابتسامة خفيفة، كأن الحمل الذي يشعر به أثقل من مجرد طفل بين ذراعيه. سلم ابنه إليها بحذر.
ما إن استدار ليكمل طريقه حتى رن هاتفه فجأة.
أخرج الهاتف من جيبه وحدق في الشاشة. رقم غريب.
تردد للحظة، ثم أجاب:
“مرحبًا؟” قال بصوت متحفظ.
“هل هذا السيد مراد؟” جاءه صوت رسمي عبر الهاتف. “نتصل بك من المستشفى الأول.”
تشنّج قلب مراد في صدره.
“نعم… أنا هو. كيف يمكنني مساعدتك؟” سأل رغم أنه كان متأكدًا تمامًا من سبب الاتصال.
شيهانة… ماذا حدث لها؟
الفصل الخامس: إنها هنا لتقديم تقرير للشرطة!
رنّ صوت الطبيب عبر الهاتف بلهجة مضطربة:
“السيد شهيب، يؤسفني إبلاغك أن المريضة التي أحضرتها اليوم… اختفت فجأة. نعتقد أنها غادرت المستشفى بإرادتها. ومع ذلك، لا يزال جسدها في مرحلة التعافي، ولم يكن ينبغي لها المغادرة. هل يمكنك التواصل معها وإقناعها بالعودة؟”
تجمد مراد في مكانه، حدسه كان محقًا… كان الاتصال يتعلق بشيهانة. لكن حتى في أسوأ تصوراته، لم يتوقع أنها ستكون مجنونة بما يكفي لتغادر المستشفى وهي في تلك الحالة!
ماذا كانت تفكر؟
تعرضت شيهانة لحادث سيارة. صحيح أن إصاباتها لم تكن خطيرة، لكن الطبيب شدد على ضرورة بقائها تحت الملاحظة لبضعة أيام على الأقل.
من كان يظن أنها ستتسلل للخارج فور استعادة وعيها؟
والأغرب من ذلك، وجدت الممرضة 3000 ألف على طاولة سريرها بعد مغادرتها. عندما استيقظت شيهانة، أخبرتها الممرضة أن المال من مراد. لكنها رفضت قبوله وتركته خلفها، في رفض واضح لأي بادرة لطف منه.
لم يكن معها مال… وكانت لا تزال ضعيفة جسديًا… فما الذي دفعها للخروج هكذا؟
عبس مراد بضيق.
ألا تهتم بصحتها إطلاقًا؟
رغم استيائه، قفز إلى سيارته وانطلق للبحث عنها. لم يكن دافعه القلق عليها بحد ذاتها، بل لأنها كانت والدة لين.
لا يمكنه تركها تواجه الخطر وحدها… ليس من أجلها، بل من أجل ابنه.
في تلك الأثناء، كانت شيهانة في مركز الشرطة.
بوجه شاحب، وكدمات تغطي جانبًا من وجهها، ورأس معصوب، بدت وكأنها ضحية اعتداء. لذلك، عندما تقدمت ببلاغ، اعتقدت الشرطة في البداية أنها جاءت للإبلاغ عن تعرضها لهجوم.
لكن المفاجأة جاءت عندما أعلنت شيهانة أنها ترغب في تقديم بلاغ عن حادث سيارة… وقع قبل ست سنوات!
حدق الشرطي فيها بدهشة.
“آنسة شيهانة، دعيني أفهم الأمر جيدًا… هل تقولين إن الحادث الذي تعرضتِ له قبل ست سنوات كان في الواقع محاولة قتل متعمدة؟”
أومأت شيهانة برأسها بثبات.
“نعم… قبل ست سنوات، كنت في الخارج، وحين تلقيت خبر إصابة والدي بمرض خطير، عدت على عجل. لكنني لاحظت أن سيارة كانت تتبعني منذ خروجي من المطار. ثم… وقع الحادث. كان الشخص ينتظرني!”
ارتسمت الجدية على وجه الشرطي وهو يسأل:
“هل يمكنكِ تذكر أي تفاصيل إضافية؟”
أجابت شيهانة بعد تفكير قصير:
“أتذكر أن الرقمين الأخيرين من لوحة السيارة كانا 53. وكانت سيارة SUV سوداء.”
تردد الشرطي للحظة قبل أن يقول:
“آنسة شيهانة… مع احترامي، هذا الحادث وقع منذ ست سنوات، وأنتِ قلتِ إنكِ كنتِ تعانين من فقدان الذاكرة المؤقت. فكيف يمكنكِ التأكد من أن ما تتذكرينه صحيح؟”
نظرت إليه شيهانة بثبات وعيناها تلمعان بعزم:
“لأن الرجل أراد قتلي… لا يمكن لأحد أن يخطئ في ملامح قاتله. علاوة على ذلك، حتى أثناء فقداني للذاكرة، كانت ذاكرتي للأشياء الأخرى حادة تمامًا.”
راقبها الشرطي للحظة طويلة قبل أن ينهض من خلف مكتبه.
“حسنًا… سنراجع السجلات ونرى ما يمكننا العثور عليه.”
عندما تفحص الشرطي ملفها، تفاجأ بمعلوماتها.
شيهانة… الطالبة المتفوقة في أكاديمية S، واحدة من أفضل عشر جامعات في العالم.
بدت جديته تزداد وهو يسألها:
“هل لديكِ أي مشتبه بهم في الاعتبار؟ هل تعتقدين أن شخصًا ما كان يحمل ضغينة ضدكِ؟”
“المشتبه بهما الوحيدان هما زوجة أبي وابنتها. بعد وفاة والدي، لم يتأخرا في استبعادي من وصيته. ورغم أنني الوريثة البيولوجية الوحيدة له، فقد استحوذتا على كل شيء!”
كانت عينا شيهانة تتوهجان غضبًا وهي تلفظ تلك الكلمات، وكأن الألم والخذلان قد اجتمعا ليشكلا نارًا تشتعل في داخلها.
كانت حياة شيهانة معقدة منذ صغرها؛ انفصل والداها وهي طفلة، فانتقلت للعيش مع والدتها في الخارج. ومع ذلك، كانت تزور والدها سنويًا في الريف بعد أن تزوج من جديد.
كانت علاقتها بزوجة أبيها وابنتها جيدة في ظاهرها؛ فقد عاملتاها بلطف دائم، حتى أن شيهانة اعتبرتهما جزءًا من عائلتها. لكن ما لم تكن تعلمه هو أن هذا الود كان يخفي وراءه نوايا خبيثة.
عندما اشتد المرض بوالدها وأدركوا أن وفاته وشيكة، ظهر وجههم الحقيقي. كانوا يخشون أن تطالب شيهانة بنصيبها الأكبر من التركة، فكشفوا أخيرًا عن أنيابهم، ليحكموا قبضتهم على كل شيء.
الفصل السادس: حياتها لم تعد في يد القدر
لقد كانت معجزة حقيقية أن حادث السيارة لم يودي بحياة شيهانة، بل محا ذاكرتها فقط.
قبل وفاة والدها وربما بعد أن أدرك أخيرًا سوء نية زوجته الجديدة اتصل بالسيد شهيب العجوز وطلب منه أن يزوّج شيهانة لأحد أفراد عائلة شهيب، وكأنه كان يسعى لحمايتها بطريقة ما.
وهكذا، بعد وفاته، أصبحت شيهانة التي فقدت ذاكرتها زوجةً لمراد.
مرّت الأيام مليئة بالتقلبات، إلى أن قررت أخيرًا الطلاق وترك عائلة شهيب.
كان طلاقها حديث المدينة، لذا لم يكن غريبًا أن يصل الخبر إلى زوجة أبيها. ومع ذلك، وعلى الرغم من السنوات الثلاث التي مرت، لم تُبدِ زوجة أبيها أي اهتمام أو محاولة لمساعدتها. بل إن شيهانة، في لحظة يأس حين كانت بلا مأوى تقريبًا، حاولت اللجوء إليها، لكن زوجة أبيها رفضتها بلا تردد.
التغيير الجذري في سلوك الثنائي الأم والابنة قبل الحادث وبعده كان مريبًا للغاية. كان من الصعب تصديق أن ليس لهما يد فيما حدث لشيهانة.
والآن، بعد أن استعادت بعض ذكرياتها، أدركت أن موت والدها لم يكن طبيعيًا أيضًا.
لم يكن والدها يشرب، فكيف يمكن أن يسقط فجأة من على الدرج وهو في حالة ذهنية مشتتة بسبب الشراب؟
أقسمت شيهانة على كشف الحقيقة وإجبار ورد و شهد على دفع ثمن ما فعلاه!
حين غادرت مركز الشرطة، كانت الشمس قد غربت منذ زمن طويل.
لم تعد شيهانة إلى المستشفى، بل توجهت مباشرة إلى المنزل.
كانت حياتها بعد طلاقها من مراد صعبة؛ تركها بلا مال تقريبًا، ولم تجد من يلجأ إليه سوى عمها.
كان توفيق الأخ الأصغر لوالدها، ويعمل في أحد فنادق عائلة شيا. رغم صدقه ونزاهته، فإن افتقاره إلى الحنكة التجارية حال دون تحقيقه نجاحًا كبيرًا في المجال. ومع ذلك، لم يتردد لحظة في مد يد العون لابنة أخيه.
بعد وفاة والدها، استحوذت زوجة أبيها وابنتها على كامل ممتلكاته، تاركتين عمها وابنه الوحيد بلا شيء تقريبًا. بطريقة ما، وجدت شيهانة نفسها وعائلة عمها يواجهون المصير نفسه.
ورغم كل ذلك، أصرّ عمها الطيب على أن يأخذها تحت جناحه، متعاملًا معها كأنها ابنته تمامًا.
هذا الدين من الامتنان، أقسمت شيهانة أنها ستقضى حياتها بأكملها في سداده.
كانت الشمس قد اختفت خلف الأفق عندما سلكت شيهانة سلسلة من الأزقة الضيقة والمتسخة. كلما تعمقت أكثر، ازدادت الرائحة سوءًا وازدادت الجدران تهالكًا.
توقفت أخيرًا عند حي متداعٍ، بالكاد يمكن وصفه بأنه صالح للسكن.
نظرت حولها بذهول… لم يكن هذا مجرد حيّ فقير، بل كان أقرب إلى مستوطنة بائسة، قذرة، تختنق بروائح العفن، وتغرق في فوضى خانقة.
لم تتخيل شيهانة يومًا أن ينتهي بها المطاف هنا.
قبل أن تفقد ذاكرتها، كانت حياتها مستقرة. حتى دون إرث والدها، كانت موهبتها وإصرارها كفيلين بجعلها تقف بمفردها.
قبل ان تفقد الذاكرة، كانت شامخة، واثقة، ومسيطرة على مصيرها.
لكن القدر كان له رأي آخر.
حادث مشؤوم دفعها إلى منحدر زلق، لتنتهي هنا… في مكان عالق بين الحياة والموت.
كان مصيرها أشبه بمصير محظيات الدراما التركية القديمة؛ مفضلة في لحظة، ومنسية في اللحظة التالية.
كان من الطبيعي أن تشعر بالمرارة، لكنها الآن… الآن وقد استعادت ذاكرتها، لم يعد في قلبها سوى العزم.
ستستعيد كل ما فُقد منها.
بموهبتها وعملها الجاد، كانت تؤمن أن هذا المكان ليس سوى محطة عابرة.
حياتها لن تكون لعبة في يد القدر بعد الآن!
توقفت أمام باب خشبي قديم لكنه متين، وطرقت عليه برفق.
انفتح الباب بسرعة، ليظهر شاب نحيف، بدا عليه القلق وهو يسأل:
“أختي، ماذا حدث لك؟ لماذا أنتِ مصابة في كل مكان؟”
رغم الألم، ابتسمت شيهانة بطمأنينة وقالت بهدوء:
“لا تقلق، مجرد حادث بسيط.”
لكن قبل أن تكمل، ظهر توفيق بشعره الذي غزاه الشيب، وعيناه متسعتان بقلق شديد:
“شيهانة! هل أنتِ بخير؟ ما مدى خطورة الحادث؟ هل ذهبتِ إلى المستشفى؟ هل يؤلمك شيء؟ من هذا السائق الذي تجرأ على صدمك؟!”
تقدم ابن عمها أيضًا، صوته يحمل نفس القلق:
“أختي، هل تحتاجين إلى شيء؟ هل أذهب لإحضار الطبيب؟”
بينما كانت شيهانة تستمع إلى أسئلتهم التي تفيض بالاهتمام، شعرت بدفء يذيب كل جليد الألم والخذلان الذي تراكم في قلبها.
هؤلاء… هؤلاء هم عائلتها الحقيقية.
الفصل 7
تحت ضوء الغرفة الأصفر الباهت، بدت ملامح شيهانة أكثر شحوبًا.
“لقد كان مجرد حادث بسيط، حتى أن الطبيب قال إنه لا يستدعي القلق. سأكون بخير بعد بضعة أيام من الراحة.” حاولت أن تبدو أنها بصحة جيدة وليست مريضة، خشية أن تزيد من هموم عمها. ثم أضافت برفق: “عمي، جسمك لا يزال ضعيفًا… لماذا لست في السرير؟”
كان توفيق يعاني من مرض في الكلى، وبحكم عمله كعامل نظافة كان مضطرًا للنوم مبكرًا ليستيقظ في موعد مناوبته الصباحية.
قال بصوت مبحوح يحمل حزناً دفينًا: “شعرتُ بشيء سيئ عندما تأخرتِ بالخروج… وها أنا أكتشف أنكِ تعرضتِ لحادث. ألم يكن ما حدث قبل ست سنوات كافيًا؟ يبدو أن القدر يعاند عائلة شيا بلا هوادة…”
لم تستطع شيهانة إنكار منطقه؛ فالأمور لم تكن سهلة حقًا بالنسبة لعائلتهم.
فقدت والدها في سن مبكرة، ثم تعرضت لحادث سيارة أفقدها ذاكرتها، وكأن ذلك لم يكن كافيًا، انتهى زواجها بالطلاق.
وفي خضم هذه المعاناة، أصيب توفيق بمرض في الكلى، وأثقل غسيله الكلوي المتكرر ميزانية الأسرة المتواضعة.
أما ابن توفيق، تميم، فكان طالبًا متفوقًا يستحق الالتحاق بأفضل جامعات البلاد. لكن من أجل تخفيف العبء المالي، اختار الدراسة في مدرسة حكومية محلية ذات رسوم أقل، رغم أنها حدّت كثيرًا من مستقبله الواعد.
اليوم، بعد حادث السيارة الآخر، لم يكن من المستغرب أن يشعر عمها بالمرارة، متسائلًا لماذا تُصرّ الحياة على قسوةٍ لا تهدأ تجاههم.
ومع ذلك، شعرت شيهانة بامتنان غريب… لأن هذا الحادث أعاد لها ذاكرتها.
قالت بابتسامة مطمئنة: “عمي، انظر إليّ… أنا بخير حقًا، لذا لا تقلق. بل إن هذا الحادث كان نعمة؛ فقد استعدت ذاكرتي بفضله. أنا واثقة أن الأمور ستتحسن قريبًا.”
تبادل توفيق وتميم نظرات دهشة يصعب إخفاؤها.
“أختي… هل أنتِ جادة؟!” سأل تميم بحماس مشوب بالحذر.
أومأت برأسها، ثم قالت بابتسامة دافئة: “لماذا أمزح بشأن أمر كهذا؟ لم أكن قادرة على مساعدة العائلة من قبل لأنني لم أكن أعرف شيئًا عمليًا… لكن من الآن فصاعدًا، سيتغير كل شيء.”
“هذا رائع! أختي، لقد استعدتِ ذاكرتك أخيرًا!” هتف تميم بسعادة غامرة، ليبدو للحظة كأنه الطفل الصغير الذي كانت تتذكره.
لكن سرعان ما تلاشت ابتسامته، وكأنه تذكر شيئًا ما، لتحل محلها ابتسامة باهتة تحمل شيئًا من الحرج.
أما توفيق، الذي كان أكثر بساطةً وأقل تعقيدًا في تفكيره، فقد غمرته السعادة الصادقة من أجل شيهانة، غير مدرك تمامًا لما قد تعنيه استعادة ذاكرتها بشأن معاناتها الماضية.
على النقيض منه، أدرك تميم جيدًا أن استعادة الذكريات تعني مواجهة تلك السنوات القاسية بكل تفاصيلها المؤلمة.
بصراحة، كان من الصعب على شيهانة استيعاب ذلك في البداية…
لكنها لم تكن من النوع الذي يسمح للماضي بأن يسيطر عليها. بدلاً من الغرق في الذكريات، قررت المضي قدمًا.
ادعت أنها تشعر بالتعب وعادت إلى غرفتها، بينما انسحب توفيق بدوره إلى سريره.
وقبل أن تتمكن شيهانة من الاستسلام للنوم، سمعت طرقًا خفيفًا على باب غرفتها.
“أختي… هل أنتِ مستيقظة؟”
أجابت وهي تعتدل في جلستها: “أنا مستيقظة… تفضل بالدخول.”
فتح تميم الباب بحذر، يحمل في يده وعاءً صغيرًا من العصيدة الساخنة.
“أختي، لاحظت أنكِ لم تتناولي أي طعام منذ الصباح، لذا أعددتُ لكِ بعض العصيدة. أضفت بيضة للحصول على بعض البروتين… سيساعدك ذلك على التعافي. احذري… إنها ساخنة.”
وضع الوعاء على طاولة السرير، بينما بدت في صوته نبرة اهتمام صادق.
تطلعت شيهانة إلى شقيقها الذي يقف بجانبها.
قبل ست سنوات، كان تميم مجرد طفل صغير، بريء ونقي القلب. والآن… لم تعد عيناه تلمعان بذلك البريق الطفولي، لكن قلبه الطيب بقي كما هو.
كان تميم محق… لم تتناول شيهانة أي شيء منذ الصباح.
تناولت الملعقة وبدأت تأكل ببطء، ملعقة تلو الأخرى.
جلس تميم على حافة سريرها، يراقبها بعينيه السوداوين، تحملان مزيجًا من السعادة والحيرة.
وأخيرًا، سأل بصوت خافت:
“أختي… هل تذكرتِ كل شيء حقًا؟”
الفصل الثامن: العودة إلى الشكل
بعد نظرة سريعة على تميم، أومأت شيهانة برأسها.
ابتسم تميم بحرارة وقال بحماس:
“هذه أخبار رائعة! من الرائع أنكِ استعدتِ ذاكرتك! دعينا ننسى الماضي ونبدأ من جديد. أعدكِ يا أختي، بعد تخرجي هذا العام، سأعمل بجد لأدعم عائلتنا. جسمك لا يزال ضعيفًا، لذا ابقي في المنزل واستريحي… اتركي كل شيء لي، سأحضر الكثير من المال لدعمنا نحن الثلاثة!”
ابتسمت شيهانة بلطف وقالت:
“أنا أصدقك، لكن من فضلك… توقف عن القلق عليّ. أؤكد لك أنني بخير.”
رغم ابتسامتها المطمئنة، التقطت شيهانة بسهولة القلق الذي كان يخفيه تميم خلف كلماته.
“أختي… أنتِ بشرية في النهاية. كيف يمكنكِ أن تكوني بخير مع كل هذه التغييرات المفاجئة؟ كنتِ طالبة متفوقة في أكاديمية إس، تسيرين نحو مستقبل مشرق… لولا ذلك الحادث المشؤوم.”
توقف لوهلة وكأن الكلمات باتت ثقيلة عليه، ثم أردف بصوت خافت:
“أي شخص في مكانك كان سيفقد الأمل…”
نظرت إليه شيهانة بابتسامة واثقة، وكأنها ترفض الانحناء أمام ذكريات الماضي الأليمة.
صحيح أن حياتها انقلبت رأسًا على عقب، لكن شيهانة لم تكن شخصًا يستسلم بسهولة.
كانت مقتنعة بأن قدرتها على النجاح لا تعتمد على شهادة أكاديمية إس وحدها.
لقد نجت من الطلاق، وواجهت الفقر، والآن… باتت أقوى من ذي قبل.
هذه المرة، لن يسمح قلبها الذي اعتاد الألم لأي شيء أن يقف في طريقها.
“أنا بخير حقًا… ألا تثق بأختك؟” قالت بنبرة مازحة لتخفيف الأجواء، ثم تابعت: “بالمناسبة، ما نوع الوظيفة التي تبحث عنها؟”
ابتسم تميم وكأن الحديث عن مستقبله قد أشعل فيه الحماس من جديد:
“حصلت على شهادتي في علوم الكمبيوتر، لذا أخطط للانضمام إلى شركة إنترنت… لكن لا تقلقي، لن تكون ‘إمبراطورية شهيب’.”
أدركت شيهانة ما يقصده وابتسمت برقة.
كانت إمبراطورية شهيب أكبر شركة إنترنت في العالم، وأصبحت اليوم رمزًا للنجاح والابتكار تحت قيادة مراد.
رغم أن إمبراطورية شهيب كانت في الأصل متخصصة في الفنادق والعقارات، فقد توسعت بفضل رؤية مراد الذكية، ليصبح واحدًا من أغنى عشرة رجال في العالم وفقًا لقائمة فوربس.
قالت شيهانة بلطف:
“إمبراطورية شهيب تتمتع بأفضل التقنيات وإدارة ممتازة وفوائد مذهلة… إنها منصة رائعة لمبرمج طموح مثلك. عليك أن تفكر في الأمر.”
هزّ تميم رأسه بعناد وقال بحزم:
“على جثتي! لقد عاملوكِ بشكل سيء للغاية… لا يمكنني أن أعمل معهم!”
ابتسمت شيهانة ابتسامة باهتة وقالت:
“حسنًا… لن أجبرك إذا كنتَ لا ترغب في ذلك. في المستقبل، سنؤسس شركة الإنترنت الخاصة بنا.”
اتسعت عينا تميم بدهشة قبل أن يضيء وجهه بابتسامة عريضة.
“في الواقع… كانت هذه خطتي دائمًا!” قال بحماس شديد، ثم تابع بحزم: “أختي، صدقيني… سأجعلكِ فخورة بي!”
شعرت شيهانة بالفخر وهي تنظر إلى ابن عمها.
كانت تؤمن بأن لديه الإمكانيات لتحقيق النجاح… وإن لم يتمكن وحده، فهي ستكون هناك دائمًا لدعمه.
بينما كانت شيهانة تتحدث مع تميم طوال الليل، كان مراد يجوب الشوارع بحثًا عنها.
لقد مضت ساعتان دون أن يجد أثرًا لها، وبدأ القلق يلتهمه شيئًا فشيئًا.
لم يدرك مدى سخافة تصرفه إلا عندما رنّ هاتفه، ليجد اسم تالين يضيء على الشاشة.
رنّ الهاتف في يد مراد، ليظهر اسم تالين على الشاشة.
تنهد بصمت قبل أن يرد.
“مراد، هل أنت في السرير؟” جاء صوتها الناعم عبر السماعة، كما تفعل كل ليلة.
كان هذا جزءًا من روتينها المعتاد؛ مكالمة قصيرة قبل النوم، غالبًا لا تحمل سوى كلمات مجاملة لا أكثر.
بصراحة، لم يكن لدى مراد الكثير ليقوله لها. لم تكن بينهما اهتمامات مشتركة تُذكر، ولم يجد أي متعة في الاستماع إلى تفاصيل يومها المملة. لذا، كانت محادثاتهما تقتصر عادةً على تبادل جافّ للتحيات: “مرحبًا” ثم “تصبحين على خير”.
أجاب مراد بنبرة باردة:
“لا، لم أنم بعد… هل هناك شيء مهم؟”
تردد صوت تالين للحظة قبل أن تسأل بنبرة حذرة:
“كيف حال لين؟ لم يكن يبدو على ما يرام أثناء العشاء.”
أدرك مراد فورًا أنها تحاول تصنّع الاهتمام.
كانت تالين تعرف جيدًا أن لين لا يطيق وجودها، ومع ذلك، كانت تحرص دائمًا على التظاهر بعدم ملاحظة ذلك… ربما للحفاظ على صورتها أمام مراد.
أجابه مراد بفتور:
“إنه بخير… نائم الآن.”
الفصل التاسع: النفقة المرفوضة
قالت تالين بابتسامة دافئة في صوتها:
“من الجيد أن أعرف ذلك. لقد تأخر الوقت… مراد، حاول أن تخلد إلى النوم قريبًا.”
“تمام.”
“تصبح على خير.” أنهت تالين حديثها بحرارة.
وضع مراد هاتفه جانبًا، ثم أوقف سيارته على جانب الطريق وأشعل سيجارة.
بينما كانت السيارات تمر مسرعة من حوله، ضحك على نفسه بسخرية.
فماذا لو اختفت شيهانة؟ لماذا عليه أن يتحمل مسؤولية العثور عليها؟
إنها امرأة ناضجة، وبكل تأكيد قادرة على إيجاد طريقها إلى المنزل.
قاد مراد سيارته عائدًا إلى منزله، لكنه كإجراء احترازي أمر بعض الرجال بالتحري عن وضع شيهانة الحالي. على الأقل بهذه الطريقة، سيتمكن من التأكد أنها لا تزال على قيد الحياة… وربما يفهم أخيرًا ما الذي حدث لها في السنوات الماضية.
لم يستطع منع نفسه من التساؤل: كيف يمكن لامرأة حصلت على مبلغ كبير من النفقة أن تنتهي في وضع كهذا؟
في صباح اليوم التالي، تلقى مراد تقريرًا مفصلًا عن حياة شيهانة خلال السنوات الثلاث الماضية.
بعد الطلاق، انتقلت للعيش مع عمها، الذي تكفل بها. ومن خلال تتبع علاقاته العائلية، اكتشف مراد أن لعمها ابنًا، وأن الثلاثة كانوا يكافحون معًا لتدبير أمورهم.
ولكن سرعان ما ساءت الأمور عندما تم تشخيص توفيق، ابن عمها، بمرض في الكلى.
لكسب لقمة العيش، اضطرت شيهانة للعمل في وظائف متفرقة: عاملة نظافة، غسالة أطباق، نادلة… كانت تنتقل من وظيفة شاقة إلى أخرى.
ومع ذلك، لم تكن بيئات العمل هذه رحيمة بها. تعرضت للتنمر والعزلة بسبب تحفظها وطبيعتها الانطوائية، ما جعلها تفقد كل وظيفة خلال فترة قصيرة.
استمرت هذه المعاناة ثلاث سنوات… تنقل مرهق بين أعمال قاسية، ترك أثره واضحًا عليها.
حتى الآن، لم يستطع مراد استيعاب التغيير الذي رآه فيها عندما التقيا بالأمس.
بدا وكأن السنوات سلبت منها حيويتها. لم تعد المرأة التي يعرفها… لو لم يلتقِ بها مصادفة، لما أدرك أبدًا حجم الألم الذي تحملته.
ورغم كل ذلك، كان هناك أمر واحد لا يزال يثير حيرته…
لماذا لم تستخدم شيهانة نفقتها؟
كان يعرف جيدًا أنها لم تكن امرأة مسرفة، لكن حتى لو كانت كذلك، فإن المبلغ الذي تركه لها لم يكن ليُستنفد بهذه السرعة.
اتكأ مراد على ظهر مقعده، عابسًا في تفكير عميق.
يبدو أن هناك شيئًا خفيًا… شيئًا لا يعرفه بعد.
عندما دخل مراد إلى غرفة الطعام، كانت عائلته قد بدأت بالفعل في تناول وجبة الإفطار.
كان لين أول من استيقظ ذلك الصباح، إذ نام مبكرًا في الليلة السابقة. وبحلول الوقت الذي جلس فيه مراد، كان لين قد انتهى بالفعل من طعامه.
“خذي لين إلى المدرسة من أجلي”، قال مراد مخاطبًا إحدى الخادمات.
“نعم، سيدي.” وافقت الخادمة، وأمسكت بيد لين بلطف قبل أن تقوده خارج الغرفة.
تناولت السيدة العجوز شهيب ملعقة صغيرة من عصيدة الشعير برفق، ثم رفعت عينيها نحو مراد وسألته بنبرة يكسوها العتاب:
“لماذا غادرت فجأة أمس؟ أنت السبب في تجمعنا هناك، أليس كذلك؟ لقد تركت والدك ووالدتك في موقف محرج.”
رد مراد بهدوء:
“اتصلت لأقول إن لين لم يكن على ما يرام، أليس كذلك؟”
ثم التفت إلى والدته، مترددًا للحظة قبل أن يتابع:
“بالمناسبة، أمي…” تردد صوته قليلًا وكأن سؤاله عالق في حلقه.
شجعته السيدة العجوز شهيب بابتسامة دافئة:
“نعم؟”
أخذ مراد نفسًا عميقًا وقال أخيرًا:
“هل قبلت شيهانة النفقة بعد طلاقنا؟”
توقفت يد السيدة شهيب في الهواء، وتجمدت ملعقتها قبل أن تهبط ببطء على طبقها.
عبست ملامح وجهها على الفور… وبناءً على رد فعلها، عرف مراد أن الإجابة كانت لا.
“لماذا لم تخبريني إذا لم تُعطِها النفقة؟” سأله مراد بحدة، وهو يحاول كبح غضبه.
كان يظن طوال الوقت أن شيهانة تعيش حياة مريحة بفضل المال الذي منحها إياه، ولهذا لم يخطر بباله أن يتحقق من حالها.
لو لم يصادفها بالأمس، لما كان قد عرف شيئًا عن معاناتها.
عبست السيدة شهيب العجوز مرة أخرى وهزّت كتفيها بلا اكتراث قائلة:
“لم يكن الأمر أنني لم أعطِها النفقة… بل هي من رفضت أخذها.”
نظر إليها مراد بحدة وقال بصوت منخفض لكنه مشحون بالغضب:
“حتى لو رفضت، كان بإمكانك إخباري بذلك.”
رفعت السيدة شهيب حاجبيها وردّت ببرود:
“ولماذا أفعل ذلك؟ لم يعد لها أي علاقة بنا نحن عائلة شهيب. من الأفضل أن تُقطع العلاقة بشكل نظيف. إذا لم تكن تريد مساعدتنا، فلا بأس… سأقول لها ببساطة: خلاص.”
الفصل العاشر: طرق محترم على الباب
قال مراد بصوت منخفض لكنه حازم:
“على أي حال… لا تزال شيهانة والدة لين. نعم، لم نعد متزوجين قانونيًا، لكن لا يمكننا أن نغض الطرف عن معاناتها.”
عبست السيدة العجوز شهيب قليلًا وردّت بنبرة باردة:
“لقد كان قرارها هي أن ترفض يد المساعدة التي مُدّت إليها. أنت تعرف جيدًا عنادها وموقفها الغريب. منذ انضمامها إلى عائلة شهيب، لم تكن سوى مصدر للمشاكل. ترفض الاعتراف بأخطائها وتتعمد الابتعاد عن الجميع، ما جعلنا نعيش في منزل مليء بالتوتر. لقد بذلت جهدي حين عرضت عليها المساعدة مرة واحدة، لكنها رفضتها. نحن لسنا جمعية خيرية، ولن أركض خلفها متوسلة أن تقبل مساعدتنا.”
“لكن على الأقل… كان عليكِ أن تخبريني.”
تنهّدت السيدة شهيب العجوز بضيق وقالت بحدة:
“مراد، زواجك منها كان خطأ منذ البداية. والدك لم يكن في كامل وعيه عندما سمح لتلك المرأة بالزواج من عائلتنا. أعلم أن العيش معها لم يكن سهلاً عليك. طلبها الطلاق كان بمثابة نعمة، ولن أمنحها فرصة للعودة إلى حياتنا مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، إنها امرأة ناضجة تمامًا… لن تموت من الجوع.”
صحيح… لكنها بالكاد تعيش.
فكر مراد بمرارة. وعندما يعرف لين الحقيقة في المستقبل، لن يغفر لهم أبدًا.
نهض مراد فجأة من مكانه وقال ببرود:
“سأذهب إلى المكتب.”
نادته السيدة العجوز:
“ولكنك لم تتناول إفطارك بعد!”
لكنه خرج من المنزل دون أن يلتفت ولو مرة واحدة.
تنهد شهيب، والد مراد، وهو يوبخ زوجته بلهجة مستاءة:
“ألم أخبرك أن إخفاء الأمر عنه لن يكون فكرة جيدة؟ لقد قلت لكِ إنه سيغضب عندما يكتشف الحقيقة.”
ألقت السيدة شهيب العجوز عليه نظرة جانبية وقالت بحدة:
“هل تلومني الآن؟ هذا خطؤك بالكامل! لو أنك لم توافق على زواجهما من البداية، لما انتهينا إلى هذه الفوضى. الآن كما ترى… لا أحد سعيد.”
تنهد شهيب بعمق وقال بأسى:
“أنا مدين لوالد شيهانة بحياتي… كانت تلك رغبته الأخيرة، فكيف لي أن أرفض؟ ومن كان ليعلم أن الأمور ستسوء بهذا الشكل؟ على أي حال، لقد تعلمت درسي… لن أتدخل في زواج ابننا مرة أخرى. يمكنه اختيار من يريد.”
قهقهت السيدة شهيب العجوز بسخرية وقالت بنبرة واثقة:
“هراء! لقد حُسم الأمر بالفعل. مراد سيتزوج تالين. لقد عرفتها منذ كانت طفلة، وهي مثالية له. كنت دائمًا أراها كابنتي… وهي الخيار الأمثل له.”
ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة راضية عند ذكر اسم تالين.
استيقظت شيهانة وهي تشعر بتعب شديد.
لا بد أن تدفق ذكرياتها القديمة بشكل مفاجئ قد أثقل كاهلها وأرهق حالتها النفسية.
وفوق ذلك، حادثة الدهس التي تعرضت لها لم تُساعدها في التعافي.
قررت البقاء في المنزل ذلك اليوم لتعتني بصحتها.
لحسن الحظ، كانت المدارس في عطلة، فبقي تميم معها في المنزل ليساعد في الاعتناء بأخته.
“أختي، هل أنتِ متأكدة أنك بخير؟ هل نذهب إلى المستشفى؟” سأل تميم بقلق واضح في صوته.
هزّت شيهانة رأسها بلطف وقالت بابتسامة مطمئنة:
“أنا بخير. أوصى الطبيب بأن أرتاح في المنزل لبضعة أيام. الإصابة ليست خطيرة جدًا، وإلا لما سمحوا لي بالخروج.”
لكن تميم لم يقتنع، وتابع بإصرار:
“لكنك تبدين شاحبة… بشكل مخيف.”
ضحكت شيهانة ضحكة خافتة متكلفة وقالت:
“هذا هو مظهر الشخص المتعافي… لا تقلق.”
كانت تحاول طمأنته، لكنها في الحقيقة لم تكن ترغب في العودة إلى المستشفى.
عائلتها بالكاد كانت تستطيع تحمل نفقات المعيشة، ناهيك عن تكاليف العلاج.
أما مراد… فمن الواضح أنه سمح للسائق الذي صدمها بالرحيل دون مساءلة. لم تكن تريد أن تدين له بأي شيء، لذا فضّلت أن تتحمل الألم في صمت.
لكن تميم لم يستطع تحمّل رؤيتها بهذا الشكل. توسّل إليها:
“أختي، أعتقد أنه من الأفضل أن نذهب لزيارة الطبيب. لا يزال لدينا بعض المال المتبقي. حتى أبي أوصاني قبل خروجه إلى العمل بأن آخذك إلى المستشفى إذا شعرتِ بأي سوء… لذا أرجوكِ، استمعي إلينا!”
الحقيقة المؤلمة التي أخفتها شيهانة كانت أنهم لا يملكون ما يكفي حتى لإجراء فحص طبي بسيط.
ومع ذلك، أصرّت على موقفها وقالت بحزم:
“إصابتي ليست خطيرة… لن أذهب إلى أي مكان.”
عرف تميم سبب رفضها جيدًا، لكنه لم يكن يعرف كيف يقنعها. وبينما كان يفكر في ما يمكنه فعله، قطع أفكاره صوت طرق على الباب.
كانت الطرقات بطيئة… متعمدة… تختلف تمامًا عن تلك الدقات السريعة والمزعجة التي اعتادها من جيرانهم المتطفلين.