تنحى عن موضعه ينهض عنها بأعينٍ جاحظة بعد أن توسلته قائلةً، وهي لا تعلم إذا كان رجاءها سيلقى قبول من جانب هذا السادي من وجهة نظرها:
-أرجوك يا زعيم، شرفي هو الشيء الوحيد الذي لم أفرط به، فأنا أحفظه لزوجي، هذا ما ربيت عليه وتعلمته ببلدي.
– ارحم فتاة ترجوك أن لا تدنس شرفها حفاظاً لاسم رجل لا تعلمه، فأنا طاهرة ولن أخون، ولو أجبرتني سأنهي حياتي بيدي.
جلس على التخت عاري الصدر يواليها ظهره، مكوباً وجهه براحتيه، يحاول استيعاب ما قالت ولكن إلحاحها وتوسلاتها تجزم بأنها بالفعل كما أرادت أن تُصِله إليه، إنها عذراء.
ضحكات ساخرة نبعت من ذلك الناقم “عقله”، هازئاً من ذلك الذي صدقها ثانية بعد ما فعلت، فقد خدعته وتوددت إليه وطلبت منه أن يسمح لها بالابتعاد عن وكره؛ لتتمكن من الفرار بما سرقته.
والآن تَخِيل عليه كذبتها، فكيف لفتاة حانة في بلد الانفتاح وكل شيء مباح ولا يوجد رقيب ولا حسيب، وفي هذا العصر أيضاً أن تتمسك بما نشأت عليه من قيم ومبادئ هو نفسه لا يستوعبها.
كما إنه تقصى عنها من ذلك القواد “ستيڤ” وعلم أنها دائماً ما تجالس زبائن الحانة وتخرج معهم، وبالطبع السبب معروف.
في أثناء شروده تحاملت على حالها والتقطت قميصه الذي ألقاه على التخت ترتديه أعلاها، تستر جسدها ليصل حتى منتصف فخذيها.
هب واقفاً من جلسته يطيح بكل ما هو كائن على الطاولة الموجودة بالغرفة، يشد على خصلات شعره بغضب من حاله؛ لوقوعه بفخها مرةً أخرى.
بينما شهقت بفزع تنزوي على حالها ودموعها لازالت ترطب وجنتيها.
استدار إليها بغتتةً يتجه صوبها، يثني إحدى ركبتيه مستنداً بها إلى حافة التخت، يمد يده قابضاً على ذراعها، قائلاً وهو يقرض على أنيابه:
-أنتِ مصنوعة بماء الكذب، الخديعة والمكر تجري بدماءك مجرى الدم، مثلك مثلهن جميعاً.
نفضت يدها من قبضته ببسالة:
-دع يدي، فأنت بأي حق تقاضيني!!
لا صفة لك ولا روابط بيننا؛ لتحاسبني.
-ما لك وأعدته إليك، لِمَ تحتجزني هنا؟!
بماذا يجيبها الآن؟!
أنه عشقها برغم ما علمه عنها، كونها سارقة وهذا عايشه معها، أم كونها فتاة ليل وهذا سمعه عنها، أم إنها كاذبة وهذا جلي عليها!!
يفوقها حقارة ولكنها لا تعلم عنه شيئاً، لذلك تلبس رداء المثالية، مخاطباً إياه وكأنه أحد رموز المُثُل والقيم العليا.
“نك” بثورةٍ وهو يعتدل بوقفته:
-بغضاً لكِ “ساندي” أنا لا أتحدث عن المال، وبما إن لا يوجد بيننا روابط كما ذكرت، لِم الكذب إذاً؟!
-حقاً انفعلت وتعديت حدودي معك ولكن كان يكفيكِ أن تقولي إنك لا تريدين هذا وكنت سأتفهم ذلك.
-لست حقيراً إلى هذا الحد حتى أجبر إحداهن على شيء لا تريده، لكن أن تستخفي بعقلي وتخدعينني بدل المرة مرات، وبالأخير تدعين المثالية، لا هذا كثير!!
استقامت من جلستها على مضض، وقدماها تصرخ ألماً، تستند بضعف إلى حافة التخت، قائلةً بسخرية مبطنة:
-بالله عليك لا تدَّعِ النزاهة والشرف يا زعيم العصابة أنت، وتشعرني أنني حثالة، لقد أُجْبِرت على وضعي هذا، لكن أنت ما عذرك؟!
اندلعت عينيه بغضب موحش، ولكنها لم تتراجع عما أرادت قوله بالرغم من تلاشي صوتها والدموع التي غزت مقلتيها من جديد، وأردفت بصوت متقطع بنشيج:
-أنا سارقة، نعم سارقة ومحتالة، ماذا عساي أن أفعل بعد أن ماتا والديا وتركا لي أخاً يأكله المرض ويموت كل يوم أمام عيني ألف مرة؟!
-ماذا تعرف أنت عن الحاجة والفقر وقد ولدت وبفمك ملعقة ذهبية يا سليل الحسب؟!
-دع المعاناة لأصحابها ممن أدارت لهم الحياة ظهرها، أم أنت فالحياة مقبلة بوجهها إليك تعطيك ما لم تطلبه.
-ولكن لن أسمح لك أن تنعتني بفتاة الليل أو العاهرة مرةً أخرى.
وأجهشت ببكاء آلم روحه، ولكنه لم يغفر لها كذبها بعد.
وتساءل ماذا إذا كان ما قصته تواً ما هو إلا كذبة أخرى من جعبة أكاذيبها، فقال معنفاً إياها وقد دنى منها قابضاً على معصم يدها التي تشيح بها في وجهه:
-كفاكِ كذباً، فأنا لست أبلهاً؛ لأصدقكِ ثانيةً، ولا تدعِ البراءة والطهر يا رخيصة.
رفعت كف يدها الحرة تهوي به على وجهه صافعةً إياه بحدة، وقد حطم ما قاله كبرياءها وهي تشد من عزمها فماذا عساه أن يفعل؟!
لقد أقرت بداخلها إذا حاول الاقتراب منها ثانيةً ستقتله وتقتل حالها بعدها.
قالت بقهرٍ وضياع، وقد تلاشت حدة صوتها فخرج حديثها أشبه بالفحيح:
-لو كنت رخيصة كما قلت!! لكنت الآن بفراشك ولم تكن لتسبني بها وأنا أسفلك، لو كنت رخيصة كنت استطعت أن تنل مني ما أردت في مكتب الحانة أو عندما أتيت إلى غرفة النزل وكنت سأنال منك مقابل ذلك أضعاف ما أخذت.
وقع الصفعة لا شيء مقارنة بما قالت.
تذبذب أصابه وبات كلامها يحدث تشوش عقلي، يقترب إلى المنطق ولكن كيف وقد أجزم “ستيڤ” بأنها أكثر فتيات الحانة إمتاعاً لمن يسعى وراء لحظات الجموح مدفوعة الأجر؟!
“نك” بضجرٍ:
-كيف وأنت تخرجين كل ليلة مع أحدهم من الحانة؟!
“ساندي” مطرقة الرأس بحزن وليس خجلاً مما ستقول:
-نعم أفعل وسأفعل لأحظَ بالمال الكافي لعلاج أخي، وأبداً لن أتركه يتعذب، ولكنني أيضاً لم ولن أدع هؤلاء الطامعين بجسدي أن يدنسوه أو يدنسوا روحي.
أردف “نك” بعدم استيعاب:
-أنا لا أفهم شيئاً.
أنحنت بصعوبة تلتقط حقيبة يدها الملقاة أرضاً بعد دفشه لها على التخت أثناء قدومه بها إلى هنا محمولة على يديه، تفرغ محتوياتها على السرير وقد خارت قواها ولم يعد بإمكانها الوقوف على ساقيها أكثر من ذلك.
جلست بجسد مرتجف على حافة الفراش، ويديها تعبث بكومة الأشياء التي أفرغتها بمنتصف التخت، وهي تلتقط بعض الأوراق تمد يدها بها إليه، وهي تمسح دموعها بظهر يدها كالأطفال، قائلة:
-تلك هي التقرير الخاصة بالمشفى المحتجز بها أخي، أنه يعاني سرطان الدم.
بسط ذراعه يمسك بتلك الأوراق يرفعها أمام ناظريه يستكشف ما بها بتمعن، وخاتم المشفى وتوقيع أحد أشهر الأطباء ذائع الصيت في هذا المجال في خانة الطبيب المشرف على الحالة خير دليل على صدق روايتها بشأن أخيها المريض.
فسألها بعناد وتحدي وأعين تحذرها من المراوغة:
-لكن ماذا عن زبائن الحانة وقصة الصور التي تهوي التقاطها لهم وأنتِ معهم بأوضاعٍ مخجلة؟!
لم تتركه كثيراً في حيرته وإنما أخذت تلملم بعض مما أفرغته من داخل حقيبتها بأحد كفيها، وهو يتابع ما تفعل زاوياً ما بين حاجبيه تعجباً مما بسطت به يدها إليه، وأردفت مستكملة:
-هذا ما أفعله مع زبائن الحانة عندما أغادر معهم إلى أوكار متعتهم الرخيصة.
التقط ما مررته إليه يقلب ما ناولته إياه بتفحص يحاول استنباط المغزى مما يراه وما علاقته بما ترويه.
ولكنه لم يتوصل إلى شيء فما أعطته إياه عبارة عن قنينتين زجاجيتين صغيرتين بهما مجموعة من الأقراص لا يعلم فيما تستخدم، ولا يوجد عليها أي ملصق للاسم أو دواعي الاستخدام.
وكذلك خمس أمبولات عقارية وسرنجات مغلفة وأيضاً الأمبولات مطموس ما دُوِّن عليها بشيء يشبه شفرات الحلاقة خلف مكانه آثار الحك على زجاج العقاقير.
أردف “نك” متسائلاً:
-ما هذا؟!
أجابته وهي تعض على شفتيها بحرج:
-هذا ما أرداك متسطحاً أرضاً على أرضية المكتب وكذلك بغرفتي بالنزل، هاتان الزجاجتان بداخلهما أقراص منومة وتلك الأمبولات بها مواد مخدرة.
توقفت عن السرد وهي تلتقط هاتفها تعبث بشاشته ثم مررته إليه أيضاً، مستكملة:
-دقق بالصور جميعها، وأخبرني ماذا لاحظت؟!
وعندما لم يجبها؛ رفعت رأسها إليه فانبلجت أساريرها وهي تلاحظ استحالت معالم وجهه من الغضب إلى التسلية وقد تبدل حاله كلياً، ومن ثم ابتسمت من بين دموعها قائلة وهي ترمش بأهدابها في براءة وطفولية:
-هذا ما كنت سأفعله معك عندما وضعت لك الأقراص المخدرة في زجاجة المشروب الذي لو لاحظت لم أرتشف من كأسي الذي سكبته منها ولو جرعة.
– وكذلك العقار الذي حقنتك به في غرفتي عندما استعصى علي تخديرك بالأقراص، أيها السادي.
جحظت عيناه لما قالت قاذفاً هاتفها إلى الفراش جوارها، وهو يعقد ذراعيه أمام صدره، قائلاً بحاجب مرفوع ونبرة متسلية وحس دعابة مستجد عليه:
-عن أي سادية تتحدثين أيتها العذراء اللعوب؟!
خفضت رأسها بخجل من تعقيبه الأخير، وهي تقول بتردد:
-عندما كنت معك بغرفة المكتب بعد أن أغشي عليك وخلعت عنك قميصك رأيت تلك الآثار على ظهرك وكتفك وكأنها تشبه جلدات السوط، هل.. أعني.. أقصد أنك تحب العنف في علاقاتك مع الجنس الآخر!!
-هل لديك ذلك الشغف المقزز وتدع إحداهن توشم جسدك بتلك العلامات السادية مستمتعاً بهذا؟!
قالت ما قالته بملامح وجهه تمتقع بالاشمئزاز، بينما تفاصيل وجهه توحي بالألم وهو يتهرب بنظراته عنها، قائلاً بأسى:
-لقد خاب ظنك هذه المرة، الأمر ليس كما تعتقدين.
سألته باهتمام:
-إذا لم يصدق حدسي، فما سبب تلك العلامات؟! إنها تشبه آثار التعذيب!!
أشر بنظراته نحو شيء ما إلى جانبها فتوجهت ببصرها حيث أشار.
مغيراً مجرى الحديث؛ فبالطبع لن يكشف جميع أوراقه أمامها ويعود؛ ليندم بعدها، تلك هي شخصيته التي فقدت رونقها ونقاءها فهو دائم الشك وكثيراً ما يسوء الظن بمن حوله وخاصة بعد تاريخها المشرف معه.
قال بإلهاء:
-تلك البطاقة بها المال الذي يلزم لعلاج أخيك ويفيض، وبالطبع لازالت محتفظة بالرقم السري الملصق على ظهر البطاقة، يمكنك التواصل مع المشفى وتحويل المبلغ المطلوب عبر حسابهم المصرفي.
ومن ثم التقط السلسال المعقود به الخاتم المرصع بالأحجار الكريمة خاصته من بين المحتويات المفرغة بجوارها فقد وضعته بالحقيبة أثناء تواجدهما بالمول.
صوب نظراته إلى وجهها الذي شابه الحزن والخيبة، ليليها نظرات فرحة بعد أن استكمل قائلاً:
-هذا لا يليق بعذرائنا الحسناء، سأهاديك بآخر يشبهك.
صفقت بيديها فرحة تقول بتحفيز:
-ما أروعك يا زعيم!!
ولم لا فسيجلب لها واحداً آخر يلائمها، وكذلك لازالت تحتفظ بسوار اليد الملتف حول كاحلها.
ولكنه بسط كف يده إليها بعد أن فرقع إبهامه بسبابته وحركة يديه تطالبها منحه شيء ما.
بالطبع تعلم ما هو ولكنها ادعت الجهل متسائلة:
-ماذا؟!
“نك” وهو يهز رأسه بيأس منها قائلاً:
-السوار؟
“ساندي” وهي ترفع أحد كتفيه بإدعاء لعدم التقاطها لما يرنو إليه:
-أي سوار؟!
زجرها بعينيه هاتفاً بتحول جذري:
-“ساااااااندي”.
قالت بتراجع ومهادنة:
-أنت الذي لم توضح، أتقصد السوار الخاص بالسلسال؟!
فك انعقاد ذراعيه يتخصر بضيق زافراً أنفاسه بضجر، فاستكملت سريعاً:
-خلصنا ياااااا، انتظر ثانية.
مالت بجذعها لأسفل وسط استغرابه، ومن ثم ارتفعت تبسط يدها إليه به:
-هذا هو جزائي!! لقد خفت أن يسقط من يدي فمقاسه لم يناسب معصمي؛ ارتديته حول كاحلي؛ لأحفظه لك وبدلاً من أن تشكرني تكشم وجهك هكذا، أنت مبالغ بك “كيكو”!!
رفع سبابته بوجهها وهو يجاهد في إخفاء ابتسامته، قائلاً وهو يتصنع الضيق:
-حمقاء، أنتِ حمقاء “ساندي”!!
أومأت بإيجاب مضيفة:
-ولذيذة.
تجاهل ردها، وهو يفتح الباب المتواجد بالغرفة مختفياً بالداخل لثوانٍ، ومن ثم قذف إليها برفق أحد المراهم الخاصة بالكدمات والالتواءات، قائلاً:
-يمكنك أن تضعي بعض من هذا على كاحلك بدل من السوار.
أجابته بملامح مقتضبة:
-ولكنني كنت بحال أفضل وهو يزين قدمي.
لم يعر تعقيبها اهتماماً، وإنما أردف قائلاً وهو يلتقط هاتفها يضغط على عدة أرقام، ومن ثم استمعت إلى صوت رنين هاتفه:
-لقد سجلت رقمي لديكِ إذا لم تشعري بتحسن بعد استخدام هذا الدهان، يمكنكِ إخباري وسأستدعي لكِ طبيباً.
أعاد الهاتف إلى موضعه، وهو يتوجه صوب باب الغرفة.
فسألته:
-إلى أين؟!
فأجابها ممازحاً:
-سأخلد للنوم بغرفتي أم إنك تريدينني أن أبيت هنا؟!
-ولكن بعدها لا تتزمرين عندما أسلبك وبإرادتك ما جاهدت للحفاظ عليه.
قال الأخيرة بغمزة عين خبيثة.
تدرجت وجنتيها بحمرة الخجل وهي تقول بتأتأة:
-لا.. أعني لا أقصد ذلك، لقد أردت أن أسألك بخصوص “سام”.
قوس جبينه بتفكير متسائلًا بعدم تذكر:
-مَن “سام”؟!
“ساندي”:
-هذا الطفل المسكين الذي أمرت رجالك بخطفه!!
قال بتحذير:
-لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ “ساندي”.
“ساندي” باستمالة فهي حقاً حزينة من أجل الصغير:
-بالله يا زعيم لا تؤذِ هذا المسكين.
أومأ بحبور ومن ثم خرج وأغلق الباب خلفه.
وقد مر اليوم على جميع أبطالنا وذلك بعد مشاكسات الزعيم الحقيقي لسمرائه بعد ذهب “أريان”، وعودتها إلى غرفة مبيتها؛ تستلقي على فراشها مرتكزة ببصرها إلى سقف الغرفة شاردة به.
وهذا حال كل أبطالنا فعدوى الفكر تملكت منهم جميعاً كل منهم لديه أسبابه:
-فهذا عاشق.
-وذاك جريح.
-وهذه نادمة.
-وهذا غافل.
-وتلك تائهة.
و. و. و. و
كلٌ سابح بملكوته منهم من غلبه النعاس ومنهم من كانت همومه وعشقه وصبوه سبباً في تحريم النوم على جفونه مواصلاً ليله بنهاره….. الرواية كاملة من هنا