رواية حتى بعد الموت الفصل 16

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

رواية سيد أحمد خالص التعازي في في زوجتك

الفصل السادس عشر
قبل الاجتماع، وضعت نوران بعض المكياج لتمنح بشرتها إشراقةً توحي بالعافية، وارتدت طبقات من الملابس الثقيلة اتقاءً لبرد الثلوج المتساقطة.
كانت آثار العلاج الكيميائي لا تزال تنهش جسدها الهش، فقد تراجعت قدراته الحيوية، لا سيما جهازها المناعي، حتى غدت كمن يسير على حد الزجاج. كان لزامًا عليها إجراء فحص تعداد دم شامل كل يومين، لمراقبة نسبة خلايا الدم الحمراء إلى البيضاء.
إن انخفضت النسبة عن الحدّ الآمن، وجب عليها تناول دواء خاص لرفعها؛ وإلا فإن أي عدوى بسيطة قد تكون قاتلة.
اختارت نوران السلامة على المجازفة، والدفء على الأناقة. وعندما مرّت يدها على خصلات شعرها الخفيف في مؤخرة رأسها، وضعت قبعتها السوداء بتؤدة.
اعترض كريم، غير راضٍ عن خروجها:
“نوران، حالتك لا تسمح بالمغادرة. فحص الدم أمس أظهر انخفاضًا واضحًا. وأنا، كطبيبكِ المسؤول، لا يمكنني تجاهل ذلك.”
أجابت بصوت يختنق بالدموع:
“كريم، لا أريد أن أبدو محطمة أمام من أحببته. أريد فقط أن أواجهه بنفسي… وأنا أقوى.”
تنهّد وهو يتذكر كيف كانت تخفي خصلات شعرها المتساقطة تحت الوسادة.
“فقط ابقي دافئة.”
قالت بهدوء:
“أنا ذاهبة لإنهاء إجراءات الطلاق. لن يستغرق الأمر كثيرًا.”
قال كريم بإصرار:
“سأوصلك.”
ولم ترفض هذه المرة. كانت منشغلة تمامًا بالانتهاء من أوراق الطلاق بأسرع ما يمكن.
وأثناء جلوسها في السيارة، تصفحت رسائلها، لتجد رسالة من ليان، تحكي فيها عن محاولة حبيبها التسلل إلى بيتها واستفزازه لها في مكان عملها. اضطرت ليان لأخذ إجازة طويلة لتجنّب مضايقاته.
وهكذا تفسّر غيابها المفاجئ.
لكن ما صدم نوران حقًا، كانت الرسائل العديدة من أحمد، التي تجاوز فيها حدود المعقول، ملوّحًا بسلامة جاد إن لم تردّ عليه. اعتبرت نوران تهديده نتيجة يأسه وإلحاحه، وهي على وشك أن تنهي هذا الفصل المؤلم.
في تلك الأثناء، أنهى المحقق الخاص بدر المنيفي مهمته، وأرسل الملفات التي نظّمها بعناية إلى نوران.
أظهرت المعلومات أن جاد كان على علاقة وثيقة بجودي ، إذ كان يزورها بانتظام، ويقضي معها جزءًا كبيرًا من وقته.
أظهرت كاميرات المراقبة أنه كان يبيت في منزلها مرارًا، وأنه حوّل لها مبالغ مالية ضخمة، بل ووهبها سيارة بقيمة مليون دولار.
استفزت هذه المعلومات مشاعر نوران. لم تتخيّل أبدًا أن والدها، الرجل المتحفظ، يمكن أن ينخرط في علاقة من هذا النوع مع فتاة تصغرها بسنوات.
رغم أنها تفهمت حاجته للرفقة بعد غياب زوجته، لم تستطع أن تتقبّل الصورة التي رُسمت أمامها. ومع موت جودي ودخول جاد في غيبوبة، لم تجد نوران أمامها إلا فرضية واحدة: أنهما كانا على علاقة.
وبقدر ما حاولت أن تتقبّل ذلك، لم تستطع.
لكن السؤال الذي بقي يؤرقها: إن كانت العلاقة حقيقية، فما الذي يدفع أحمد للانتقام من عائلة الهاشمي؟
بدر المنيفي أثبت احترافه، فقد جمع كل هذه المعلومات خلال ثلاثة أيام فقط. دفعت له نوران جزءًا من أجره، وطلبت منه مواصلة التحقيق في ظروف وفاة جودي.
وبينما تحدّق في هاتفها، بدأت تشعر بالغثيان، والدوار، وكأن المشاهد المصورة تلاحقها في رأسها.
كانت تثق في والدها، لكن بعد تلك الأدلة، بدأت شكوكها تتسرّب كالثلج البارد تحت جلدها.
وصلوا إلى مبنى البلدية، وأوقف كريم السيارة برفق، ثم ترجل وفتح لها الباب كنَبيل لا يتخلى عن مروءته.
في عينيه، كانت نوران ما تزال هشة، كدمية من الخزف.
قال لها وهو ينظر إلى الطريق المغطى بالجليد:
“انتبهي، الشوارع زلقة. لا تتسرعي.”
ابتسمت له بعينين ممتنّتين:
“كريم، لا أحد يريد أن يعيش أكثر مني. سأكون حذرة.”
تركت يده، واستدارت، وفي اللحظة التالية التقت نظراتها بنظرات رجل يراقبها من سيارة سوداء مركونة في الجهة المقابلة.
كان أحمد، يحدّق في يدها التي كان يمسكها كريم منذ لحظات. ونظرته الباردة تلك، نظرة الموت، جعلتها ترتجف.
كانت تعرفه جيدًا. حتى وإن كرهها، فلن يسمح لرجل آخر أن يلمسها.
لهذا السبب تحديدًا رفضت عرض كريم بالبقاء معها.
شعرت بنظرته الحارقة خلفها، فالتفتت إلى كريم وقالت بسرعة:
“ألا يجب أن تكون في المستشفى الآن؟ سأطلب سيارة أجرة بعد انتهاء الإجراءات. لا تقلق عليّ.”
“عمليتي بعد الظهر. لا أريد ترككِ وحدك.”
نظرت إليه بحدة وقد بدأ الخوف يتسلل إلى ملامحها:
“نحن لسنا أقارب. ألا تخشى من كلام الناس؟”
“لو كنت أخاف القيل والقال، لما ساعدتك أصلًا.”
قالت بصرامة:
“أما أنا فأخاف. كريم، علاقتي بأحمد انتهت، لكنني ما زلت زوجته قانونًا. لا أريد أن أكون حديث الناس. دعني وحدي. حياتي لا تخصك.”
ثم مضت بخطى ثابتة. ورغم أن كريم من عائلة أطباء مرموقة، فإنها تعلم جيدًا أن عائلة خطاب لا يمكنها الوقوف أمام نفوذ عائلة القيسي.
لم ترد التسبب في سوء فهم قد يضع كريم في مرمى نيران أحمد.
وقف كريم مذهولًا من رفضها، لكنه أدرك أنها لم تخطئ. لم يكن له الحق في التدخل.
وبينما همّ بالمغادرة، لاحظ أخيرًا السيارة السوداء الفاخرة المتوقفة على الجانب. عندها فقط، أدرك كل شيء.
ابتسم بمرارة، وفهم أن نوران، التي ما زالت تحمل في قلبها شيئًا من أحمد، لم تكن تريد تأجيج غيرته. أدار المقود، وغادر.
في السيارة السوداء، جلس كامل متوترًا وهو يشعر بنظرات أحمد تحرق مؤخرة عنقه. لم يجرؤ على الالتفات.
ضحك أحمد بسخرية قاتلة، وقال:
“يا له من مشهد مزرٍ.”
تجمّد كامل، وكاد يبكي من الرعب:
“سأترك المقعد، دَع هشام يتولى القيادة.”
جلس هشام بجانبه، وحدّق في أخيه بنظرة احتقار، ثم أومأ لأحمد باحترام:
“لاحظت ذلك، يا سيد القيسي.”
غادر أحمد السيارة وسار وسط الثلوج المتساقطة.
في الخارج، وقفت نوران أمام بوابة المبنى. ومن بين عتمة العاصفة، ظهر معطف أحمد الأسود يقترب، وجهه مطموس تحت حبيبات الثلج.
وقف أمامها مباشرة، وقال بصوت جامد:
“هل هذا من تطلبين الطلاق… من أجله؟”

الرواية كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 17

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top