الفصل 20
تنفّست نوران ببطء، كأنها تحاول تثبيت نفسها في عالمٍ يتهاوى من تحت قدميها، ثم همست:
“لن يُنقذني أحد… عليّ أن أُنقذ نفسي.”
كان قرارها بإخفاء التشخيص مقامرة. لا أحد يعرف بعد.
لو كان أحمد لا يزال يُحبها، فستجعل من موتها عقابًا أبديًا له.
وإن لم يكن كذلك، فما الجدوى من كشف الورقة الأخيرة؟ لن تجني سوى الشفقة أو السخرية… وربما تمنح مرام لحظة انتصار.
بهذا اليقين البارد، خرجت من الحمّام ونزلت إلى الطابق السفلي.
كان المشهد أمامها غير متوقّع. مائدة مليئة بأطباق تُشبه تلك التي اعتادت أن تُحبها من قبل مرضها، رائحة التوابل الثقيلة تملأ المكان.
وقفت السيدة هناء، الخادمة القديمة، إلى جوار الطاولة تبتسم، تمسح يديها بمئزرها.
“حضّرت لكِ كل ما يفتح النفس، مدام نوران. وهذه…”، ناولتها طبقًا صغيرًا.
“حساء الفواكه. طلبه مني السيد القيسي بنفسه. قال لي: (أرجوكِ، حضّريه كما كانت تحبّه). قلت لكِ، ما زال يهتم.”
نظرت نوران إلى الطبق دون أن تمدّ يدها.
الرائحة لاذعة، الطعم يبدو ثقيلاً حتى قبل أن تذوقه. لم تعد معدتها تتحمّل التوابل، ولا روحها تحتمل المجاملة.
لكن المفارقة لم تفُتها… هذه الأطباق لا تُشبه ما كان يُفضّله أحمد.
في الماضي، كانا يتناولان طعامين مختلفين على نفس الطاولة.
أحمد يُفضّل الباهت، الخفيف، العديم النكهة. أما هي، فكانت تفيض بالنكهات الحارّة والروائح الجريئة.
لكن المرض أخذ منها ذلك. واليوم، هو من يطلب ما كانت تحبه؟
“لماذا لا تأكلين، مدام نوران؟” سألتها السيدة هناء، بنبرة قلقة خفيفة.
“أنا واثقة أن طبخي لا يزال طيّبًا. في الفترة الأخيرة، السيد أحمد صار يطلب مني المزيد من التوابل. كلما أعددت له طعامًا، قال لي: (زيدي الشطة، مثل ما كانت نوران تحب).”
رفعت نوران بصرها إليها بدهشة خفيّة.
أحمد… يطلب الطعام الحار؟
كأن السيدة هناء شعرت بتساؤلاتها الصامتة، فأردفت بابتسامة خفيفة:
“في البداية، كان يختنق من أول لقمة، يشرب لترًا من الماء مع كل وجبة. لكنه اعتاد. والآن… يأكلها وحده.”
يا للسخرية.
هي التي حاولت طوال زواجهما أن تجعله يجرّب نكهاتها، فرفض.
أما الآن، وبعد أن أصبحت غير قادرة على لمس تلك الأطعمة، بدأ هو يُجرّبها… وحده.
ربما لهذا السبب لن يكونا ثنائيًا مثاليًا أبدًا.
هو لا يُشبهها إلا في غيابها.
هزّت رأسها، كأنها تطرد الفكرة، ثم قالت بهدوء:
“هلّا أعرتني هاتفك، هناء؟ أحتاج لإجراء اتصال عاجل.”
ناولتها السيدة هاتفها دون تردّد. لحسن الحظ، كانت نوران تحفظ رقم كريم عن ظهر قلب.
أدخلته بسرعة، وضغطت زر الاتصال.
ارتجف قلبها لحظة سمعت صوته على الطرف الآخر.
“نوران؟” قالها كريم بتردد، كأن اسمه خرج من فم الغياب.
قالت بصوت خافت:
“أنا آسفة يا كريم. لم أقصد أن أضعك في هذا الموقف.”
عمّ الصمت لثوانٍ، ثم سأل، وكأنّه يتمسّك بخيط أمل:
“هل كنتِ قاسية معي في مبنى البلدية… فقط لتحميني؟”
أرادت أن تشرح، أن تعتذر، أن تُبرّر. لكنها قالت فقط:
“هاتفي مُصادَر. لم أستطع الوصول إليك. كيف إصابتك؟”
“لا تقلقي. خرجتُ سالمًا، بفضل الوسادة الهوائية. لكن أخبريني… هل يحتجزك؟ هل تريدينني أن أُبلّغ الشرطة؟”
“لا فائدة، كريم. نحن متزوجان رسميًا. لا يُمكنهم فعل شيء. ما فعلته من أجلي يكفي. لا أريدك أن تُعرض نفسك للخطر أكثر من ذلك.”
ثم همست وكأنها تكلم نفسها:
“ما حدث اليوم لم يكن صدفة. كان رسالة منه. وأنا فهمت.”
توقفت لحظة، ثم أضافت:
“أنا مدينة لك. أشعر براحة لأنك بخير. وداعًا يا كريم.”
أنهت المكالمة قبل أن تمنحه فرصة للرد.
تركت على الطرف الآخر رجلاً يبتسم ابتسامة حزينة، لا تخلو من الامتنان.
لقد فهم… أن كلماتها القاسية كانت درعًا لحمايته، لا خيانة له.
أعادت الهاتف إلى السيدة هناء، ثم صعدت إلى الطابق العلوي.
في الغرفة، ألقت بجسدها المنهك على السرير. النوم جرّها كدوّامة، لكن لم يلبث أن انقطع فجأة…
صوت باب يُغلق.
ورائحة نفّاذة تخترق أنفها وتُدوّخ معدتها.
لم تتمكّن من النهوض بعد، حين شعرت بثقلٍ يجثم على حافة السرير.
ثم جاءه صوته، متهدجًا، مشوشًا:
“عزيزتي… لقد عدت إلى المنزل.”