رواية حتى بعد الموت الفصل 26

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 26
ذهلت نوران، وتجمّدت في مكانها كما لو أن الأرض سُحبت من تحت قدميها. كلمات أحمد أصابتها في الصميم، لا لأنها فاجأتها، بل لأنها فضحت هشاشتها.
لقد لامست شيئًا دفينًا فيها، شيئًا كانت تحاول إنكاره منذ زمن بعيد.
أحمد كان المثال الصارخ على ما قاله لتوه. كان يومًا رجلًا يحبها بجنون، يلتهمها بنظراته، يضعها في عينيه كما يضع المرء كنزًا لا يُقدّر بثمن. لكنه اليوم رجلٌ قاسٍ، بارِد، يُمسك بذقنها كمن يُمسك بغريمه، لا بشريكة حياته.
لم يكن الأمر أنه تغيّر، بل ببساطة… كشف عن وجهٍ آخر لم تكن تراه.
ومع إدراكها لذلك، خطرت لها فكرة مرعبة:
إن كان أحمد هكذا… فمن قال إن جاد ليس كذلك؟
تنفست بعمق، وحاولت أن تحافظ على صوتها ثابتًا، رغم رجفة قلبها:
“بغض النظر عمّا حدث، لا أظن أنه قد… يقتل شخصًا ما.”
كان ردّها ضعيفًا، شبه هامس، بلا ثقة حقيقية. كانت تدافع عن والدها، لكنها تشعر أن الأرض بدأت تهتز تحت قناعاتها.
اقترب أحمد منها أكثر، ولمس خدها برفق زائف. صوته كان ناعمًا كالماء، لكن نظرته كانت قاحلة، خاوية من أي دفء.
قال بنبرة أقرب إلى السخرية:
“نوران… أنتِ ساذجة جدًا. هل كنتِ تظنين حقًا أنني لن أترككِ أبدًا؟”
كلماته اخترقت صدرها كالسهم. لم يكن سؤالًا، بل صفعة.
نعم، كانت تظن.
ظنّت أن الحب سيحميها. ظنّت أن الذكريات والليالي التي جمعتهما ستحفظها من الهجر.
لكن الحقيقة صدمتها ذات يوم في المطار، عندما رأته يحتضن مرام بلا حرج، وكأنها لم تكن شيئًا في حياته.
واصل أحمد كلامه كمن يُلقي عليها حكمًا نهائيًا:
“لطالما أردتِ أن تعرفي الحقيقة. وها هو يومكِ السعيد. جاد لم يُرد الاحتفاظ بتلك الطفلة، ولم يُرد أن يُؤوي ليا في منزله. قال لها إن الأشهر الثلاثة الأولى هي الفرصة الأنسب للإجهاض… لكن ليا رفضت. وفي يومٍ مشؤوم، تشاجرا مرة أخرى. فقد أعصابه، وقتلها… ثم ألقى بجثتها في البحر، وكأنها لم تكن شيئًا.”
ازدادت قبضة أحمد على ذقنها قسوة، حتى شعرت بألمٍ حاد في عظام وجهها. كانت عيناه تتوهجان بلهبٍ غامض، لكنه ليس غضبًا خالصًا. كان مزيجًا من الألم والغضب والخذلان… والحزن.
قال بصوت غليظ متحشرج:
“كانت أختي الوحيدة. كنت أحبها… وأعزّها منذ أن كنا أطفالًا. لو لم تُختطف، لما انتهى بها المطاف هناك. تعرفين كم كانت وفاتها مأساوية؟ جسدها كان مشوهًا، منتفخًا من ملوحة البحر. لولا تحليل الحمض النووي الذي أدرجته في قاعدة البيانات منذ سنوات، لما تعرفت عليها أصلًا. ولا على الطفل الذي كان ينمو في أحشائها…”
تجمّدت نوران، لم تعد تجرؤ على التنفس. المشهد أصبح ثقيلًا، وكأن الحجرة امتلأت بالدخان.
“هل تعلمين كم كان عمرها؟ بالكاد أنهت عامها التاسع عشر. لماذا اضطرت إلى معاناة كهذه؟! كانت تحلم فقط بأن تجد شخصًا يعاملها كإنسانة.”
بصوت مختنق، تمكّنت نوران أخيرًا من الإفلات من قبضته. تراجعت خطوتين إلى الخلف، قلبها يدقّ كطبول الحرب. كان أحمد ينهار أمام عينيها، لكنها لم تكن واثقة من إن كان هذا الانهيار سيؤدي إلى بكاء… أم إلى عنفٍ قاتل.
قال وهو يُحدّق في اللاشيء، كأن المشهد يعاد أمامه:
“لعدة سنوات، تخيّلت لقاءها مجددًا. في كل حلم، كانت تفتح لي الباب وتبتسم. لم أتخيل أبدًا أن أراها… في ثلاجة مشرحة. جسدها مبلل، مزرق، وعيناها مفتوحتان.”
قالت نوران بصوت مرتجف، رغم أنها حاولت أن تبدو واثقة:
“حتى لو وجدتِها على تلك الهيئة… فكيف يمكن أن تتهم والدي؟ لا توجد أدلة مباشرة… مجرد افتراضات.”
تبدّلت ملامح أحمد، من الأسى إلى العدوان.
“أحقًا تظنين أنني كنت لأقف هنا وأتهم أباك لو لم أكن أملك أدلة؟ بعد الجنازة، دفعتُ لمحقق خاص ليتولى الأمر. وصدقيني، لو لم أفعل، لبقيتُ أعمى عن الأسرار التي أخفاها والدك باحتراف طوال حياته.”
سألته نوران، وهي تقاوم الرغبة في الانهيار:
“أي أسرار؟”
أجاب بمرارة وهو يتجه نحو الخزنة المفتوحة:
“هل تعلمين كم امرأة ارتبط بها والدك خلال السنوات العشر الأخيرة؟ ستقولين: رجل أعزب، في منتصف عمره، هذا طبيعي… أليس كذلك؟”
أومأت نوران، بتردد.
“ربما.”
تابع أحمد، وصوته صار أكثر احتقارًا:
“كل هؤلاء النساء كن في مثل سنك. بعضهن أصغر منك. هذا وحده مخيف. لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أجبر عددًا منهن على الإجهاض. ليس مرة واحدة، بل أكثر من مرة.”
شهقت نوران، وفتحت فمها دون أن تجد ما تقول.
“إحدى النساء أخبرتنا أن والدك ضغط عليها نفسيًا لتُجري عملية اجهاض، ولم تكن قد تجاوزت العشرين بعد. أصبحت اليوم عاجزة عن الإنجاب تمامًا. وأخريات فقدن الرحم. أما من لم تُصب بأذى جسدي… فقد نالتها الجراح النفسية. وانتهى بهن الحال إلى الاكتئاب والانتحار.”
صوت أحمد صار أكثر هدوءًا، لكنه كان مثل شفرة حادة.
“فكري في الأمر، نوران. رجلٌ يستغل الضعيفات، يقنعهن بأنه المنقذ، ثم يُطيح بهن إلى الهاوية. كيف تثقين بمَن لم يتوانَ عن كسر أرواح النساء واحدة تلو الأخرى؟”
صمت ثقيل خيّم على الغرفة.

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 27

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top