الفصل 27
بالنسبة إلى نوران، لم يكن والدها مجرد أب، بل كان رجلًا نادر المثال. طيبٌ، كريم، رؤوف بكل من حوله. لم تقتصر رعايته على ابنته أو طلابه في الجامعة، بل تجاوز ذلك إلى أعمال الخير، والتبرعات السخية للجمعيات الإنسانية. في نظرها، كان رجلًا بارًا، متواضعًا، ثابتًا كجبل. كان الرجل المثالي الذي لم يخطر ببالها يومًا أن يُساء إليه أو يُشكك في نزاهته.
لكن الواقع بدأ يتفكك أمام عينيها.
ركعت نوران على الأرض، تلتقط الوثائق والصور المتناثرة بيدين مرتجفتين. وجهها كان شاحبًا، يعلوه الذهول والخذلان، وهي تتصفح الأوراق صفحة بعد صفحة. بدا كل سطر كأنه طعنة في ذاكرتها، في صورة الرجل الذي ظلت طوال عمرها تراه بقدسية.
لقد أُجري تحقيق شامل — بالغ الدقة والقسوة. حتى العلاقات العارضة التي لم تستمر إلا أيامًا معدودة بين والدها وتلك الفتيات، وُثقت بدقة. تواريخ، مواقع، مكالمات، صور، شهادات. على مدى أكثر من عشر سنوات، تكررت النمطية ذاتها: فتيات صغيرات، جميلات، بريئات… انتهت حياتهن أو تحطّمت، على يد رجل واحد.
لم يكن من الصعب فهم كيف حدث كل ذلك.
جاد — أو كما سُمّي رسميًا “جواد” — كان رجلًا وسيمًا رغم تقدمه في السن. تمارينه الرياضية المنتظمة حافظت على لياقته. شخصيته الجذابة، وأناقته، وماله، وسحره النخبوي جعلت منه شخصية تشبه الأبطال في الأفلام الرومانسية. شخصية الأب الراقي الذي يملك السلطة والحماية. ولهذا، كان طبيعيًا أن تنجذب إليه الفتيات الصغيرات، خاصة القادمات من بيئات بسيطة أو محرومة.
لكن ما ظنته نوران إعجابًا نقيًا، ظهر الآن كاستغلال بشع.
علّق أحمد بصوت بارد، كأنما يُلقي حكمًا لا يقبل الاستئناف:
“هل كنتِ تظنين أنه يكفل الأطفال من الريف بدافع الخير؟ جواد لا يرى هؤلاء إلا فرائس. هو مفترس صبور… يُحضّر ضحاياه على مهل. الشابات اللواتي أُعجبن به كنّ مراهقات بالكاد تجاوزن سن البلوغ. وحين يصلن المدينة الكبيرة، كل ما يحتاجه هو معاملة لطيفة حتى يصعدن معه إلى الفراش.”
أشار إلى إحدى الوثائق، ثم أضاف:
“هل تعلمين أن تسعين بالمئة ممن كفلهم والدك كنّ إناثًا؟ أما العشرة بالمئة من الذكور… فمجرد غطاء يُموّه جرائمه.”
كان صوت أحمد مشحونًا بالغضب. نوران حاولت أن تُكذّب كل شيء، لكنها لم تستطع. الأرقام أمامها، الصور، إفادات الضحايا… كلها أدلّة لا تحتمل التأويل.
الأسوأ من ذلك أن 60٪ من الفتيات المُكفولات ارتبطن به عاطفيًا، ثم لفظهن الواحد تلو الآخر. كان ينتقل من واحدة لأخرى كأنهن محطات مؤقتة. بعضهن لم يستطعن تقبّل فكرة الانفصال، فغرقن في الاكتئاب. أخريات دخلن في نوبات إيذاء للنفس، ومنهن من وضعن نهاية لحياتهن.
ارتجف قلب نوران وهي تُقلب في الملف تلو الآخر. ثم وقعت عيناها على صورة ليا.
كانت مختلفة.
ليا بقيت مع جاد عامًا كاملًا — أطول من الأخريات. وحين حملت، تغيّرت العلاقة تمامًا. ليا أرادت أن تُكمل الحمل، أن تتزوج منه، أن تحمي جنينها. لكنه رفض… بشدة.
في المرفقات، كان هناك تسجيل فيديو يُظهر شجارًا حادًا بين ليا وجاد في زاوية معزولة من المستشفى. التسجيل يعود إلى الليلة نفسها التي اختفت فيها ليا.
وفي تقرير المراقبة، تم توثيق دخول جاد إلى شقتها قرابة منتصف الليل، وخروجه بعد نحو ساعتين، وهو يحمل حقيبة سفر كبيرة.
ليا كانت صغيرة الجسد، نحيلة. ومن خلال شهادات سابقة، ثبت أن هناك جرائم مماثلة تم فيها إخفاء الجثث داخل حقائب مشابهة.
في اليوم التالي، لم يعثر أحد على ليا. بعد أسبوعين فقط، استأجر جاد شقتها لشخص غريب، وطمس كل أثر.
ثم، ذات صباح، عثر صيادون على جثة ليا على شاطئٍ ناءٍ. بسبب تحللها بفعل الماء والملح، كان من الصعب التعرف عليها، لولا الحمض النووي الذي كان أحمد قد أدرجه في قاعدة بيانات الشرطة منذ سنوات، أملًا في أن يجد شقيقته المختفية.
وهكذا، تم الاتصال به، وبدأ التحقيق الحقيقي.
نظرت نوران إلى الصور المتناثرة حولها، عيناها تملؤهما صدمة تتجاوز التصديق. فتيات يبتسمن أمام الكاميرا، وجوه مشرقة، أرواح كانت مليئة بالحياة… تلاشت. بعضهن اختفين تمامًا، أخريات عانين بصمت، والقليل نجين ولكن خرجن مكسورات، معزولات، فاقدات للثقة في العالم.
يد نوران ارتجفت وهي ترفع صورة ليا، بينما عقرب الذاكرة يعيدها إلى تلك اللحظات الدافئة مع والدها.
“نوران لا تبكي. لن أتخلى عنكِ أبدًا. حتى عندما تبلغين الثمانين، ستظلين أميرتي الصغيرة. ابنتي العزيزة، سأحبكِ دائمًا.”
كان والدها بالنسبة إليها كل شيء جميل في هذا العالم. الرجل الذي لم يُقصّر معها في شيء، الذي دعمها، دللها، آمن بها.
لكنه، في ذات الوقت… دمّر حياة فتياتٍ في عمرها، وربما أصغر.
سقطت دمعة على صورة ليا، خفيفة لكنها ثقيلة بما يكفي لتحمل كل آلام نوران.
حينها فقط، فهمت نوران أخيرًا سر كراهية أحمد… ولم تستطع لومه.
رواية حتى بعد الموت الفصل 27
