رواية حتى بعد الموت الفصل 28

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 28
كانت ليا تمثّل لأحمد ما كان يمثّله جاد لنوران — نقطة الضوء في العتمة. ورغم اختلاف الحكايتين، كان الفقد متشابهًا… قاسيًا، ومشوّهًا.
قال أحمد بنبرة خافتة تحمل وجع السنين:
“لا أنكر أنه كان أبًا صالحًا بالنسبة لكِ، لكنه لم يكن أبدًا رجلًا صالحًا. خلف تلك الابتسامة المنافقة كان يختبئ قلب شيطان. ولن أكذب عليكِ بعد الآن، نوران…”
ركع على ركبة واحدة أمامها، وأمسك وجهها بين يديه كأنه يحمل وجع العالم كله بين كفّيه.
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة غريبة، مشوشة، أقرب إلى الجنون منها إلى الحزن.
“كنتِ كل شيء بالنسبة لي، نوران. أحببتك بجنون… حتى الهوس. لكنكِ ابنة الرجل الذي قتل أختي. وكلما زاد حبي لكِ… زاد كرهي لكِ. الآن، لا أستطيع الفصل بينكما.”
تجمدت أطراف نوران، وبرودة مفاجئة سرت في عمودها الفقري، على الرغم من الدفء الذي يحيط بها. كانت عيناه تلمعان بجنون متخفٍّ خلف هدوء زائف.
قالت بصوت متهدّج:
“في ذلك اليوم، عندما سقطتُ في الماء أنا ومرام… هل أنقذتها أولًا عمدًا؟ هل أردتَ أن يدفع طفلنا ثمن حياة ابن أختك؟”
لم يتردد.
“نعم… العين بالعين.”
نزلت دموعها كالسيل، وأمسكت بياقة قميصه بكلتا يديها، جسدها كله يرتجف.
“هل جننت؟! لم يرَ طفلنا النور بعد! لم تكن له فرصة في الحياة أصلًا. ما ذنبه؟! ما الخطأ الذي ارتكبه؟! لقد كان… بريئًا!”
ابتسم أحمد ابتسامة كأنها خرجت من ظلام داخله لا قرار له.
“وهل كان طفل أختي مذنبًا؟ هل كانت ليا مذنبة؟ ألم تكن بريئة أيضًا؟”
نظرت إليه، ولم تعد ترى أحمد الذي عرفته. الرجل الذي أحبته تحول إلى شخص آخر، مخلوق ممزق بين الحزن والانتقام، بين الحنين والغضب. كانت تعرف في أعماقها أن هذا الكسر بداخله لا يمكن إصلاحه بسهولة.
قالت محاولة أن تبعث في روحه بصيصًا من الفهم:
“أحمد، أنا… أعلم أن فقدان أختك دمّر جزءًا منك. وأتفهم غضبك، لكنه لا يمنحك حق الانتقام من طفل بريء.”
صرخ فجأة، وصوته دوّى كالرعد:
“أنت لا تفهمين! لا أحد يفهم! أختي لم تكن مجرد فتاة عادية! وُلدت قبل أوانها، ضعيفة القلب، متعبة منذ اللحظة الأولى، لكنها كانت كنزًا. كانت النور الوحيد في عائلتنا… ثم اختفت، ثم عُثر عليها ميتة، ملفوفة في قماش أبيض، مغمورة بمياه البحر وكأنها حيوان نافق!”
اقترب منها، مدّ يده ببطء، ولمس خدها بأنامل مرتجفة.
“عندما سحبوا الغطاء عن وجهها في المشرحة… تمنيت لو لم أتعرف عليها أبدًا. تمنيت لو بَقِيَت مفقودة. فقد كان وجهها مشوهًا… مطموسًا بالحزن والماء والخذلان.”
نوران فتحت فمها لتعتذر، لكنها لم تجد كلمات لائقة.
حتى الاعتذار بدا إهانة. لم يكن هناك ما يكفي لتبرير الألم في عينيه.
وأدركت حينها… أنه حاول بكل وسيلة تبرئة والدها. بحث، فتّش، دقق، جمع أدلة، لا ليُدين، بل ليُثبت العكس. لكنه فشل.
ومع كل فشل، انكسرت روحه أكثر.
لقد أحبها، نعم. لكنه لم يعد قادرًا على أن يحبها دون أن يكرهها في الوقت نفسه. لم يعد قادرًا على العيش معها… ولا على تركها.
فليا ماتت، لكن جرحها ما زال حيًا في قلبه، ينبض بالثأر.
بكلمات مرتجفة، ركعت نوران أمامه، أمسكت بياقته من جديد، وضغطت جبينها على جبينه المتعب.
“أحمد… أنت تتألم، وأنا أعلم ذلك. آل الهاشمي أفلسوا، أنا فقدتُ طفلي، ووالدي الآن لا يتحرك من سرير المستشفى. ألا يكفينا كل هذا؟ ألا يمكننا… أن نكفّ عن تعذيب بعضنا البعض؟”
كان صوتها لينًا، حقيقيًا، عميقًا.
كأنها ولأول مرة منذ زمن طويل تحدثه من قلبها دون أقنعة.
ارتجف أحمد، جسده كلّه يهتز تحت وطأة المشاعر التي انفجرت داخله. عينيه كانتا محتقنتين بالدم، ووجهه توتر كما لو كان يُصارع نفسه.
طال الصمت.
كل ثانية تمر، كانت تحمل ثقل شهر.
ثم، بعد ما بدا وكأنه دهر، رفع أحمد رأسه. عينيه مليئتان بالدموع المكبوتة، وصوته خرج متهدّجًا، مبحوحًا، كأنه يُعلن حكمًا نهائيًا:
“نوران… ستدفعين ثمن خطايا والدك. أنتِ من سيُسدّد دينه لي.”


جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 29

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top