رواية حتى بعد الموت الفصل 30

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 30

لم يستطع نوران وأحمد الاستمرار في تجاهل الحقيقة إلى الأبد. وفي نهاية المطاف، اتخذ أحمد قراره، واختار أن يتخلى عنها تمامًا.

لكن نوران لم تكن تنتظر قراره. كانت قد حسمت أمرها بنفسها. ابتسمت بهدوء لهشام، ثم قالت بنبرة رقيقة لكنها حاسمة:
“أنا آسفة، أرجوك أخبر السيد القيسي أنني تراجعت.”

حدّق هشام فيها، حائرًا بين ما يسمعه وما يتذكره. في البداية، كان أحمد هو من أصرّ على الطلاق. ثم بدا أن نوران وافقته. والآن، وبعد أن استجاب لها، ها هي تتراجع مرة أخرى.

أي لعبة غامضة هذه التي يدوران فيها؟ ومن يحرك خيوطها؟
لو كان كامل في مكانه، لانفجر بالاعتراض أو على الأقل أبدى استياءه، لكن تعبير هشام ظل متماسكًا، خاليًا من الانفعال، كأنما يضع مهنته فوق فضوله.

قال بنبرة هادئة رسمية:
“أفهمك، سيدتي القيسي، لكن لا يمكنني اتخاذ قرار نهائي بشأن الجلسة. آمل أن ترافقيني.”

أومأت نوران بخفة، ثم ردت دون تردد:
“لن أُعقّد الأمر. هيا بنا.”

كانت تتوقع هذا السيناريو تمامًا. لفّت نفسها بإحكام بوشاح رمادي كثيف، وأتبعت هشام إلى الخارج دون أن تلتفت.

لطالما اقترنت جلسات الطلاق بينهما بالمفاجآت والتقلبات. لكن هذه المرة، سارت الأمور بهدوءٍ غير مألوف. لا صراخ، لا ندم، ولا حتى دموع.

حتى العاصفة الثلجية التي اجتاحت المدينة قبل أيام، وكأنها انعكاس لعلاقتهما المتجمدة، هدأت فجأة. وها هو ضوء الشمس يخترق الغيوم للمرة الأولى، كأن الكون نفسه قد قرر أن يمنحهما نهاية صافية… أو بداية جديدة مخادعة.

بعد العاصفة الثلجية، ظل البرد قاسيًا، رغم أن الشمس أشرقت بخجل. لم يكن دفؤها كافيًا لإذابة الجليد عن الأرصفة، لكنه بدأ يُذيب الثلج المتراكم فوق الأشجار، فبدأت كتل منه تتساقط بهدوء من بين الأغصان، كما لو كانت تبكي بصمت.

عندما وصلت نوران إلى المبنى، كان أحمد قد سبقها. لم يكن في القاعة أحد سواهما. جلس متربعًا على أحد المقاعد، ظهره مائل قليلًا، وعيناه نصف مغمضتين، كأنه بين اليقظة والنوم. كان يفرك صدغيه بحركة بطيئة تُفضح الإرهاق العميق الذي ينهش جسده.

لم يكن قد نام الليلة الماضية. لم يعد يستطيع النوم أصلًا.

وعندما اقتربت منه، لاحظت نوران رائحة خفيفة تنبعث منه. لم يكن يشرب في الماضي. لكنها أصبحت عادة ليلية لا ينفكّ عنها.

فجأة، دون كلمة أو مقدمة، هبطت يدان ناعمتان على صدغيه. جاءت الحركة مألوفة، مصحوبة برائحة كريم اليدين الذي لطالما أحبّه. فتحت ذاكرته بابًا لم يُغلق بعد.

فتح أحمد عينيه ببطء وقال، بصوتٍ خافت:
“أنتِ هنا.”

همهمت نوران ردًا، دون أن تقول شيئًا. لم يحتاجا إلى كلمات. اللحظة وحدها تكفلت باستدعاء كل ما مضى.

ظلّت تدلك رأسه كما كانت تفعل في السابق، حين كان يعود متعبًا، غارقًا في العمل، أو مطحونًا بالهموم. لكن شيئًا ما تغير هذه المرة. بعد دقائق، بدأ الألم يتسلل إلى يديها، فاضطرت إلى التوقف. العلاج الكيميائي أنهك جسدها، والآن لم تعد قادرة على رفع يديها طويلاً.

من دون تعليق، أخرج أحمد مغلفًا من حقيبته، ودفع به نحوها.
“راجعت اتفاقية الطلاق. إذا لديك أي ملاحظات، وقّعي هنا.”

أمسكت نوران بالمغلف، وفتحت الأوراق بهدوء. الاتفاقية التي كانت قد صاغتها سابقًا كانت بسيطة، طلبت فيها تعويضًا بمقدار عشرة ملايين دولار. أما ما أمامها الآن، فكان عرضًا مختلفًا تمامًا: مليار دولار. يتضمن عقارات، فلل، سيارات، وسندات.

ابتسمت ابتسامة خفيفة، وقالت:
“سيد القيسي، يبدو أنك بالغت في كرمك.”

لم يرد. خفض عينيه إلى ساعته، ثم قال بجفاف:
“هذا أقل مما تستحقينه.”

لم تكن تعرف تمامًا ما الذي قضّ مضجعه في الليلة الماضية، لكنها شعرت بأنه يحاول قطع كل خيط يربطه بها، بهدوء متعمد. لم يكن قاسي القلب، لا، بل كان غارقًا في مشاعره لدرجة أنه لم يعرف كيف يتعامل معها.

عرفته جيدًا. وربما لهذا السبب كانت تتألم أكثر.

أمسكت بالقلم، وشطبت على البنود والشروط الزائدة.

“شكرًا على اهتمامك يا سيد القيسي، لكن كما قلت، كل ما أحتاجه هو عشرة ملايين فقط. أعطيتني خمسة، وأنتظر الخمسة الأخرى.”

عبس أحمد، كأن صبره بدأ ينفد.
“نوران، ألا تدركين ما هو الأفضل لك؟”

لكنها لم تغضب. على العكس، ابتسمت له بلطف، ببرود ناعم يشبه الثلج المُذيب.

قالت، وكأنها تفتح صفحة جديدة:

“أنا لا أطلب حياة مترفة. العامان الماضيان كانا صعبين، لكنني راضية. لم أرزق بأطفال، ولم أعد أحتاج إلى أكثر من ذلك.”

همّ أحمد بأن يرد، لكن نوران مالت فجأة إلى الأمام، وضعت يديها على الطاولة واقتربت منه.

“عشرة ملايين دولار، ولدي شرطٌ آخر.”

ارتسم انعكاس ابتسامتها في سواد عينيه. بدا وكأنه يحاول قراءة ما وراء كلماتها.

رفع حاجبه وسأل:
“وما هو؟”

ارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة، لكنها مشبعة بكل ما لم تُفصح عنه من قبل، ثم همست:
“أحمد… أريدك أن تبقى معي لثلاثة أشهر. فقط، ثلاث أشهر.”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 31

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top