الفصل 31
كادت جاذبية ابتسامتها أن تأسر أحمد، لكن صوته الداخلي جذبه بعنف إلى أرض الواقع.
تجهم وجهه، وارتسمت عليه ملامح استياء وهو يقول بنبرة صارمة:
“ما هذه اللعبة التي تحاولين التلاعب بها يا نوران؟”
ردّت نوران بجديّة ثابتة:
“أنا لا أخدعك يا أحمد. أمهلك ثلاثة أشهر فقط، وبعدها يمكنك العيش مع مرام، عِش معها كما يحلو لك. لن يعنيني الأمر حينها.”
كانت تعلم جيدًا أنها إن وصلت إلى تلك اللحظة، فلن يكون لحياتها معنى. ستنأى بنفسها إلى مكانٍ بعيد، وتنزوي هناك في عزلةٍ صامتة، حيث لا بشر، ولا ضجيج.
رأى في عينيها عزمًا حادًا لم يعتده منها. لم يعد يعرف من هي نوران. كان يظن أنها ستكرهه بعد ما حدث، لكنه لم يتوقع هذا الهدوء العاصف.
حدّق بها ببرود.
“وماذا لو رفضتُ عرضك؟”
رفعت حاجبها، وعادت تلك النظرة الساخرة المعتادة تلوح على وجهها:
“حينها، لن أوقع أوراق الطلاق أبدًا. لديّ الوقت الكافي للانتظار، أما أنت… فطفلتك ومرام لا يملكان ذلك الترف.”
أضافت وهي تضع الأوراق أمامه:
“ثلاثة أشهر. بعدها نوقّع، ثم أرحل من هنا إلى الأبد.”
ضحك أحمد بسخرية لاذعة:
“لن تفعلي. أعرفك. لن تتركي والدك خلفك.”
لكن نوران لم تهتز. أجابت بصوت خافت، وكأنها تحدّث نفسها:
“الطبيب قال إن احتمالية استيقاظه شبه معدومة. بقاؤه هناك، معلّقًا بين الحياة والموت، لن يؤثر عليه أكثر مما هو عليه الآن.”
ربما كانت تفكر حينها أن المصير نفسه قد يكون بانتظار جاد، طفلها الراحل. لو رحلت، فلن يكون هناك من يعتني به، ولا من يطالب بحقّه.
تخيّلت لحظةً مرعبة… ماذا لو فقد أحمد وعيه ذات يوم، وألقى بجثة أبيها في البحر؟ ستتآكل ملامحه بفعل الموج، ولن تتمكن من التعرّف عليه يومًا… حتى لو صادفته في الجنة.
وربما، فقط ربما، الرحيل معًا كان أهون من العيش مشتتين. على الأقل، لن يكون الطريق موحشًا.
صمت أحمد طويلاً، لكن صوتًا نسائيًا قطعه.
“أحمد، هل انتهى الأمر؟”
كانت مرام.
مناقشات الطلاق لم تُثمر يومًا. واليوم، قررت مرام أن تضع حدًا لكل شيء.
جاءت مستعدة، حاملةً طفلتها بين ذراعيها، كورقة أخيرة. لم تكن لتدع شيئًا يُفلت من بين يديها.
كانت الفتاة الصغيرة متألقة، لا تشبه أحمد في شيء، ومع ذلك، كانت صورته طبق الأصل.
حين رأت نوران الطفلة، اختنق صدرها فجأة، شعرت بوخزٍ في قلبها… وكأن روحها نفسها تنكمش.
لو كُتب لابنتها الحياة، لكانت في مثل هذا العمر. لكنها رحلت. أما مرام… فقد منحتها الحياة فرصة ثانية.
مدّت الصغيرة يدها نحو أحمد وهمست:
“بابا… احملني.”
أحمد لم يتردد، ضمّها فورًا إلى صدره، بينما وقفت مرام بجانبه، وابتسمت لنوران ابتسامة لطيفة، لكنها تحمل الكثير من المعاني.
قالت بهدوء:
“آنسة الهاشمي، أحمد لم يعد يحبك. لِمَ ما زلتِ هنا؟”
رمقت نوران أوراق الطلاق بنظرة سريعة، بدت فيها مفاجأتها للحظة، لكنها استعادت هدوءها بسرعة.
“أحمد كان أكثر من كريم معك. لو كنت مكانك، لأدركتُ متى يجب أن أتنحّى. لا تكوني جشعة، فقد تخسرين أكثر مما تظنين.”
نظرت إليها نوران نظرة باردة، ثم تمتمت بوقاحة:
“ولهذا السبب… لن تكوني مثلي أبدًا.”
كانت كلماتها ذات معنى مزدوج، لكنها قالتها بثبات. أما مرام، فحافظت على ابتسامتها بصعوبة، فقط لأن أحمد كان موجودًا.
عبثت نوران بالقلم في يدها، وقالت:
“أحمد، هذا شرطي. إما أن توافق، أو نُطيل هذا الأمر. وسنرى من ينهار أولاً.”
رفع أحمد عينيه ونظر إليها مباشرة.
“شهر واحد.”
حاولت التفاوض، لكنه قاطعها بصوت قاطع:
“هذا عرضي الأخير.”
لم يكن هناك مجالٌ للرجوع.
أومأت نوران ببطء، وقالت:
“حسنًا… شهر واحد.”
رواية حتى بعد الموت الفصل 31
