الفصل 35
شعرت نوران في البداية بالحيرة من ردّ فعل مرام، شيء في تصرفاتها لم يكن طبيعيًا. تساءلت في نفسها: كيف يمكن لأحدهم أن يتعثر على أرض مستوية، بلا حفرة ولا انحدار؟ لا شك أن الأمر كان تمثيلية متقنة، مخططة بدقة.
كانت نوران تعلم أن أحمد سيعود، ومرام تعلم ذلك أيضًا. لذا، كانت تحمل طفلها كدرع، كأداة ضغط عاطفي أينما ذهبت. لم يكن من المفاجئ أن تسقط والطفل بين ذراعيها، وبالطريقة ذاتها التي توحي بأنها توشك على إيذائه. حتى زاوية سقوطها لم تكن بريئة؛ بدت وكأنها خُططت لتضع الطفل في موضع الخطر، عمدًا.
مرام كانت قاسية، أكثر مما توقعت نوران. كانت مستعدة لاستخدام رُكان — طفلها الوحيد — كوسيلة ضغط، كوسيلة للسيطرة، للانتصار.
عندما رأت نوران الطفل على وشك السقوط، تحرك جسدها أسرع من عقلها، وكأن غريزة الأمومة استيقظت داخلها رغم كل شيء. مدت يديها والتقطته قبل أن يصل إلى الأرض، مخففة من سقوطه بجسدها.
لكن الذراع التي احتضنته بها لم تكن كباقي جسدها. كانت تلك الذراع التي حذرها الطبيب مرارًا من استخدامها، حيث يمر فيها منفذها الطبي. لم يكن يُفترض بها حمل أي وزن، ناهيك عن احتضان طفل يسقط.
لم تُفكر نوران بكل هذا. كل ما رأته هو طفل يسقط. طفل بريء، لا يجب أن يتأذى.
سقطت بسرعة. تهاوى العالم من حولها، واحترق ذراعها بألمٍ حاد. شعرت أن عظامها تصرخ، وكل شيء داخلها يتقلّص.
حين فتحت عينيها، كان رُكان في حضنها، ينظر إليها بعينيه الواسعتين، بدهشة بريئة. كانت تلك النظرة كافية لتجعل الألم يتراجع للحظة.
الحمد لله، إنه بخير.
ركض أحمد نحوهم فورًا، وهرعت مرام خلفه. أول ما فعلته بعد أن استقرت وقفتها هو أن صوّبت سهامها نحو نوران.
قالت بحدة وتهكم:
“آنسة الهاشمي، أعلم أنكِ تكرهينني، لكن رُكان طفل. كيف تجرؤين حتى على التفكير بإيذائه؟”
من الوهلة الأولى، بدا الموقف وكأن نوران تعمدت السقوط لتؤذي الطفل، ومرام كانت تعرف كيف تستغل هذه اللحظة. لم تكن هذه أول مرة تحاول فيها تشويه صورتها.
لكن نوران لم تُكلّف نفسها عناء الرد أو الدفاع. كان العرق البارد يتصبب على جبينها من شدة الألم. حتى التنفس بات مؤلمًا.
أحمد لم يُوبخها، ولم ينطق بكلمة. انحنى ليمسك برُكان، لكن الطفل تمسك بياقة نوران الصوفية، وبدأ يتمتم بكلمات غير مفهومة، رافضًا الابتعاد عنها.
تجمدت عينا أحمد وهو ينظر إلى الطفل، قبل أن يتحول بصره إلى نوران. في عينيه غضب صامت، وشيء أقرب إلى الحيرة.
أخذت مرام رُكان منه بسرعة. وما إن ابتعد عنها حتى انفجر بالبكاء، رافضًا أن تلمسه أو حتى ينظر إليها.
قالت مرام، بصوت يقطر مرارة وتمثيلًا للحزن:
“أحمد، رُكان يريدك. أحضرته إلى هنا لتراه… لم أكن أتوقع أن الآنسة الهاشمي ستفعل…”
لكن أحمد قاطعها، بصوت جاف لا يحتمل تأويلًا:
“سأعيدكما إلى المنزل.”
كانت نوران لا تزال مستلقية على الأرض، وجهها مرفوع نحو السماء، تتنفس من بين الألم، تحاول أن تلملم ما بقي من كرامتها. أرادت أن تنهض، لكنها شعرت كأن جسدها بلغ الثمانين من العمر. كل خلية فيها تصرخ.
نظرت إلى أحمد، وتمتمت بصوت ضعيف:
“أحمد، هل يمكنك…”
التفت إليها بعينه فقط، ثم قال ببرود:
“سأعود لاحقًا.”
تجمدت الكلمات في حلقها، وشعرت بقلبها يهبط كما سقط جسدها قبل لحظات. حدقت في ظهره وهو يبتعد، مرتسمًا على شفتيها ابتسامة ساخرة حزينة.
كم تغيرت يا أحمد!
في الماضي، كان يركض نحوها إذا شكت مجرد صداع. كان يُواسيها حتى إن علم أنها تتظاهر. أما الآن، فلا يصدقها حتى عندما يكون الألم قد أهلكها.
لم يكن الأمر متعلقًا بالثقة، بل بالحب. لقد خرجت من قلبه، وبقيت فقط في ذكرياته، في تاريخه.
تساقطت الثلوج على وجهها، باردة، ناعمة، كأنها تواسيها. تذكرت يومًا كانت فيه برفقة أحمد، منذ سنوات. في ذلك اليوم، التوى كاحلها عمدًا، وجلست على الأرض متظاهرة بالألم، وهي تراقبه يبتعد.
حينها، عدّت إلى الرقم ثلاثة، فاستدار فجأة وركض نحوها، وملامحه مشوشة بالخوف.
ابتسمت بخجل وهي تقول:
“ربما لا يجب عليك المشي بهذه السرعة في المرة القادمة.”