رواية حتى بعد الموت الفصل 42

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 42

جمعت نوران بعض المعلومات عن فتيات أخريات كنّ على صلة بالقضية، أو بوالدها في الماضي. كانت تأمل أن تجد طريقًا للتكفير عن شيء لم ترتكبه مباشرة، لكنّه كان يثقل ضميرها. للأسف، ما سمعته من أحمد لم يكن إلا تكرارًا لما تعرفه. شعرت بالعجز. هؤلاء الفتيات إما انتقلن إلى مدن أخرى، أو عدن إلى مسقط رؤوسهن وانقطعت أخبارهن. لم يُعثر عليهن، كأنهن تبخرن من سجل الحياة.

قررت نوران أن تؤجل زيارتها الثانية إلى مستشفى الأمراض النفسية، ريثما تستقر حالة بيل. لم يكن الأمر سهلاً. كانت المشاهد التي رأتها هناك تطاردها كل ليلة، ولا تريد أن تزيد الطين بلة بمواجهة أخرى.

تبادلت مع رايان بعض الأحاديث العابرة، ثم افترقا. ومع حلول المساء، وقفت نوران تتأمل ألوان الغروب التي امتزجت فيها ظلال البنفسج والبرتقالي، قبل أن تستقل سيارة أجرة إلى منزلها.

كانت شوارع المدينة تغصّ بالسيارات في وقت الذروة. اتكأت نوران على نافذة السيارة، أغمضت عينيها في محاولة للراحة. كان المذياع يبث نشرة الأخبار المحلية، إلى أن اجتذب انتباهها عنوان رئيسي بصوت المذيعة:

**”حادثة مأساوية تهز المدينة، امرأة تقفز من سطح مستشفى للأمراض النفسية مساء اليوم.”**

فتحت نوران عينيها فجأة، وقالت بصوت مستعجل:

– “ارفع الصوت من فضلك.”

أكمل المذيع:

**”الحادثة وقعت في مستشفى سانت مارثا للأمراض النفسية. المريضة، شابة في العشرينات، عُرفت باسم بيل سامي، فارقت الحياة على الفور.”**

بحثت نوران بسرعة على هاتفها، وكانت الصورة المنتشرة تؤكد مخاوفها. كانت بيل، مرتدية ثوب المستشفى، تقف على الحافة بابتسامة غريبة، غامضة، تكاد تكون مزيجًا من الراحة والجنون.

تسللت قشعريرة باردة إلى ظهر نوران، ووقف شعر جسدها. لم تستطع تصديق ما ترى.

– “يا إلهي… بيل؟”

لاحظ السائق ارتباكها، فالتفت نحوها وقال بقلق:

– “آنسة، ما بكِ؟ تبدين وكأنك رأيتِ شبحًا!”

حاولت أن تتمالك نفسها وردّت:

– “لا شيء. فقط… من المحزن ما حدث لتلك الفتاة.”

هزّ السائق رأسه بأسى:

– “هذا شائع في مثل تلك الحالات. المرضى النفسيون يعيشون في ألم لا يُرى. ابن عمي يعاني من اكتئاب حاد، وحاول الانتحار أكثر من مرة. البعض يرى في الموت الخلاص الوحيد.”

صمتت نوران. لم تكن متأكدة من موافقته. مشهد بيل وهي مقيّدة، مخدّرة، تتوسل لطفل غير مرئي، ظلّ يرهق عقلها ويشوش فكرها. كانت صغيرة جدًا لتُعامل بهذه القسوة.

شعرت بالحزن العميق ينهشها طوال طريق العودة. وعندما وصلت المنزل، كان أحمد لا يزال في الخارج. أغلقت الباب خلفها وانهارت على الأريكة، تائهة وسط أفكارها. الإرهاق الجسدي والنفسي أحكم قبضته عليها.

كل ما سيطر على خيالها كان صورة بيل، على الحافة، تبتسم قبل السقوط. راحت تفكر في نفسها… ماذا لو كان هذا مصيرها هي أيضًا؟ ماذا لو ماتت؟ هل سيتألم أحمد؟ أم سيرى في موتها راحة له وخلاصًا؟

حاولت طرد هذه الأفكار، فنهضت وشغّلت هاتفها. جلست تخطط لرحلتها القادمة إلى بلدة موهي. أرادت أن تعيش كل يوم وكأنه الأخير. أن تمنح لنفسها، ولو للحظة، فرصة الشعور بالحياة.

عاد أحمد إلى المنزل متأخرًا. ما إن دخل، حتى سارعت إليه وهي تحمل دفتر ملاحظاتها، تحاول إشراكه في تفاصيل خطتها:

– “متى ستكون متفرغًا للذهاب إلى موهي؟ بحثت عن الفنادق وراجعت أسعار التذاكر. وجدنا خيارات رائعة، ويمكننا أن–”

لكن دفترها سقط من يدها على الأرض بقوة، ولم تُكمل جملتها. نظرت إلى أحمد، وأدركت متأخرة أن شيئًا ليس على ما يرام.

كانت ملامحه جامدة، لكن عينيه كانتا تشتعلان غضبًا. ابتلع الصمت الغرفة.

تجمدت ابتسامة نوران، وسألت بحذر:

– “ما الأمر؟”

اقترب منها بخطوات ثقيلة، يملؤه غضب مظلم لم تره من قبل. صوته كان جافًا، حادًا:

– “هل كنتِ عند قبر ليا؟”

أومأت نوران بصوت خافت:

– “نعم… زرت قبر ليا أثناء زيارتي لجدتي. أعلم أنك لا تكنّ ودًا لوالدي، لكن أعتقد أن من حقي زيارتها.”

زمّ شفتيه، ثم ألقى أمامها مجموعة من الصور. كانت ليا مدفونة تحت شجرة البرقوق… وقد تهشّم القبر. المكان بدا مدمّرًا، فوضى مؤلمة.

شهقت نوران:

– “ماذا… ماذا حدث؟!”

ردّ ببرود شديد، وصوت يكاد لا يشبه صوته:

– “لا تتظاهري بالدهشة يا نوران. لطالما أردتِ أن تسير الأمور كما ترغبين. تظاهرتِ باللطف، وأنا… كنت كريماً معك. لكن لم أتوقع أبدًا أن تكوني بهذا البرود. ليا… لم تعرف يومًا واحدًا من الراحة، حتى بعد موتها.”

بقيت نوران تحدّق فيه بذهول، غير مصدقة لما تسمعه. كانت صدمة عميقة تهزها من الداخل:

– “أ… أنت تظن أنني من فعل هذا؟!”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 43

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top