الفصل 45
عرفت نوران أن أحمد لم يعد كما كان. وفاة ليا دمّرت شيئًا داخله لا يمكن إصلاحه، وزادت حالته النفسية سوءًا خلال العامين الماضيين. كانت تعرف أنه لم يشفَ من جرح أخته، لكنها لم تتخيل أبدًا أن يصل به الألم إلى هذه الحافة من الجنون. وفي تلك اللحظة، أيقنت أنه فكّر بقتلها، وربما إرسال نفسه أيضًا لرؤية أخته في العالم الآخر.
لم تكن ليان قد وصلت بعد. كانت العاصفة تشتد، والبرد يعصف بجسد نوران المصاب. ثم فجأة، أضاء نورٌ قوي المكان، وتوقفت سيارة على مقربة منها.
ارتجف جسد نوران، وتراجعت خطوة. لم يكن هذا مصادفة. لا بد أن أحمد أدرك أنها لم تبتعد، فعادت لتختبئ خلف الشجرة. حين فُتح باب السيارة، خرج رجل منها بخطى مترددة، وبدأ ينظر حوله وكأنه يبحث عن شيء محدد.
سار باتجاه الشجرة التي تقف خلفها نوران. تجمدت في مكانها، وجهها شاحب كالجليد، ولم تتحرك سوى أصابعها، تمسك بزاوية ثوبها الملطخ بالدماء بإحكام.
سمعت وقع خطواته الثقيلة يقترب. كان صوت الحذاء الجلدي وهو يطأ الثلج يبدو كأنه إعلان اقتراب النهاية. لم تستطع التنفس. أغمضت عينيها، وكل ما استطاعت فعله هو الانتظار. هل سينهي حياتها؟ هل ستلحق بليا الليلة؟
كان قلبها ينبض بجنون، كل خلية فيها تصرخ خوفًا. كانت هذه أول مرة تشعر فيها بالخوف الحقيقي من أحمد، الرجل الذي كان يومًا حب حياتها.
توقف الصوت. لحظة من الصمت الرهيب.
ثم سمعت صوت خطواته وهو يبتعد. بعد ثوانٍ، اختفى الصوت تمامًا. فتحت نوران عينيها ببطء، قلبها لا يزال يقرع صدرها كطبول الحرب.
لكنه لم يرها… أو ربما رآها وقرّر أن يرحل.
لكن شيئًا ما أقلقها. لقد تركت خلفها أثرًا واضحًا من الدماء على الثلج. كيف لم يره؟ أو هل رآه وتعمد تجاهله؟
أطلت نوران برأسها من خلف الشجرة، تراقب ظل أحمد يبتعد تحت ضوء القمر البارد. لم تستطع رؤية ملامحه، لكن الهواء من حوله كان ثقيلًا، كأن وداعًا صامتًا قد قيل دون كلمات.
ثم، أخيرًا، وصلت ليان.
توقفت السيارة بقوة، وترجلت منها بسرعة. عيناها اتسعتا في ذهول عندما رأت نوران تقف هناك، مضمدة الجرح، ووجهها شاحب كالأموات.
صرخت:
“هل فعل أحمد هذا بكِ؟ سأُدمّر حياته! يظن نفسه فوق الجميع لمجرد أنه ثري؟ خيانة، ضرب، اختناق؟ والله لأتصل بكل جريدة وموقع وأنشر فضائحه!”
ضحكت نوران بسخرية خافتة، رغم الدموع في عينيها. أمسكت بذراع ليان ومنعتها من تحطيم سيارته، وهمست:
“لا داعي، ليان… صدقيني، لا جدوى من ذلك.”
دخلتا السيارة، وانطلقتا عبر الطرق المغطاة بالثلج.
قالت نوران فجأة:
“أرجوكم… أرسلوني إلى المستشفى. لا علاقة له بما حدث. هو فقط… لا يعلم أنني مريضة.”
استدارت ليان بسرعة، والقلق يملأ وجهها:
“مريضة؟ ماذا تعنين؟ ما بكِ؟”
ردت نوران بصوت خافت:
“قصة طويلة، سأشرحها لاحقًا… فقط خذيني إلى أقرب مشفى.”
وصلتا المستشفى في الساعات الأولى من الفجر، وهناك تم تضميد جرح نوران. وبعد الفحص، عادتا إلى شقة نوران بصمت. كان الجو ثقيلًا، والليل لم يهدأ بعد.
جلست ليان أمامها، وجهها جامد، كأنها تحاول قراءة أفكار نوران من ملامحها.
“أخبريني الحقيقة الآن، نوران. كيف أُصيب ذراعكِ؟ وماذا كنتِ تخفين عني طوال هذا الوقت؟”
ابتلعت نوران ريقها، ثم قالت بهدوء قاتل:
“ليان، من فضلك كوني مستعدة ذهنيًا لما سأقوله…”
أشعلت ليان سيجارة بسرعة، وقالت بسخرية متوترة:
“ما هذا، هل تظنينني لا أحتمل؟ لقد رأيتُ ما يكفي، فقط تحدثي. لن تسقط السماء علينا.”
فقالت نوران، بنبرة ثابتة:
“أنا أموت.”
تجمدت يد ليان والسيجارة فيها. صمتٌ دام للحظة بدا أطول من الدهر.
ثم همست:
“ماذا؟”
قالت نوران بوضوح أكبر:
“لديّ سرطان في المعدة.”
شهقت ليان بقوة. خنقتها الدموع، ثم سعلت بعنف حتى أسقطت السيجارة من يدها. أطفأتها بجنون، ولم تصدق ما سمعت.
كانت تحاول أن تسيطر على نفسها، لكن عيناها غمرتهما الدموع.
أثناء حركتها العنيفة، اصطدمت يدها بكوب ماء على الطاولة، فانسكب. أمسكت بمنديل وحاولت مسحه بسرعة، لكن ارتباكها تسبب في إسقاط أغراض أخرى عن الطاولة.
سقطت زجاجة الدواء التي كانت موضوعة جانبًا. تدحرجت الكبسولات على الأرض، ودار غطاء الزجاجة الأبيض عدة مرات قبل أن يسقط بثقل على البلاط.
نظرت ليان إلى الدواء، ثم إلى نوران، وكأن الحقيقة الآن فقط بدأت تتجلى لها بكل ثقلها.