رواية حتى بعد الموت رواية سيد أحمد خالص التعازي التعازي وفاة زوجتك الفصل 48

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 48

كان لدى أحمد الكثير ليقوله. عبارات تجمعت عند شفتيه مثل سحب ثقيلة قبل العاصفة. لكنه لم ينطق إلا بكلمتين مقتضبتين، هامستين كأنهما تنعيان حبًا قديمًا:

“هيا بنا.”

بدت كلماته كأنها اتفاقٌ ضمني على أن الماضي لم يعد قابلًا للمساس. لا عتاب، لا شرح، لا محاولة تبرير.

مضيا بصمتٍ إلى الداخل. الأوراق، الأختام، التوقيعات… كلها مرّت أمامهما كما لو أنهما يوقّعان شهادة وفاة، لا عقد انفصال.

وبعد دقائق، تمّ الطلاق. رسميًّا. بهدوء مروّع.

لم تقل نوران شيئًا. كانت صامتة كجدارٍ بارد.
وحين انتهت الإجراءات، نهضت بهدوء واستدارت لتنصرف.

لكنه استوقفها، بنبرة خافتة مترددة، كأنها آخر رجاء:
“ما هي خططكِ بعد هذا؟”

لم تلتفت. لم تترك له فرصة أن يرى وجهها مرة أخرى.

قالت ببرودٍ حاد:
“هذا ليس من شأنك، سيد القيسي.”

في تلك اللحظة، سقطت قطعة من الثلج على كتفها من غصنٍ أعلاها. رفع أحمد يده ليمسحها كعادته، بحركة عفوية قديمة كانت تنتمي إلى رجلٍ آخر، وزمانٍ آخر… لكنه توقف، فجأة، يده تجمدت في الهواء.

تذكّر أنه لم يعُد يملك هذا الحق.

كان قد ظنّ أن الطلاق سيضع حدًا لكل شيء. أن الخروج من المشهد بشيء من النبل أفضل من البقاء فيه كمذنب. لكنه أدرك الآن أن النهاية لا تكون عادلة بمجرد أنها صامتة.

تسللت إلى ذاكرته لحظة ناعمة من ماضيهما، يوم زفافهما.
الشتاء ذاته. الثلج ذاته.
كانت ترتدي فستانًا أبيض كالغيمة، ووجهها يتلألأ من الفرح والدفء.

قالت له مازحة:
“أتمنى ألا نعود لهذا المكان مجددًا.”

ضحك، وأجاب بثقة:
“أبدًا.”

“وإذا خدعتني؟”

“اقتُليني. الميت لا يغش.”
ربما ارتجفت من جديته وقتها. وربما صدّقته أكثر مما ينبغي.

ثلاث سنوات فقط مرّت. لكنها الآن بدت وكأنها حياة كاملة في جسد امرأة منهكة.

شعرت نوران بنظراته تحاول الإمساك بها من الخلف. لكنها لم تلتفت. مشت وسط الثلج كأنها تمشي فوق أحزانها.
ذكّرت نفسها مرارًا بأن الكرامة لا تبكي. لا تنظر خلفها. لا تسأل لماذا.

لكن الحزن زحف في قلبها كجليدٍ يتسلل تحت جلد دافئ. الحزن من فكرة أن هذا اللقاء الأخير. وأن الرجل الذي أحبّته، لن يعود يومًا سوى غريب.

وحين ابتعدت قليلًا، باغتها صوت مألوف، مفعم بالحماسة:
“أحمد، مبروك! أخيرًا تحققت أمنيتك!”

مرام.

ابتسمت نوران، ولكن بمرارة امرأة أدركت متأخرة أنها كانت تقاتل وحدها.

ربما كان الطلاق يجب أن يحدث منذ زمن.
منذ اليوم الذي فقدت فيه جنينها وبقيت تحمل جثته في صدرها، دون عزاء.
لكنها تمسّكت به، بعناد خائف، في العام الأخير، ظنًا أن الحب وحده يكفي لتغيير القدر.

لم تسمع أي ردّ من أحمد. فقط صوت مرام مجددًا، بمرحٍ ساخر:
“كل الوثائق جاهزة… لنذهب الآن للحصول على شهادة الزواج!”

طعنة أخرى. لكنها لم تترنح. لم تبكِ. فقط شدّت وشاحها حول عنقها، وأكملت سيرها.

احتضنتها ليان بلطفٍ حذر. وسألتها بصوت دافئ:
“هل أنتِ بخير؟”

“أنا بخير…” قالتها كما يقولها الغرقى وهم تحت الماء.

نظرت ليان إلى مرام وأحمد.
مرام تتحدث بحيوية، تضحك، تشير بيديها كمن يعيش احتفالًا.
أما أحمد… كان مطأطئ الرأس، كأنه طفل ضائع وسط ضوضاء لا تخصه.
سقط ظل الشجرة على وجهه، فحجب تعبيره، ولم يكن واضحًا إن كان يشعر بالانتصار أم بالهزيمة.

ليان لم تتمالك نفسها. بصقت الكلمة كأنها تقتلعها من حلقها:

“غشّاشون، لعنة الله عليهم! لا تضيّعي دموعكِ على هذا الوغد!”

ضحكت نوران بخفوت، كأنها تسخر من نفسها، ثم همست:
“أعلم… فقط، للحظة، فقدت السيطرة.”

نظرت إلى صديقتها بنظرة نصف مبتسمة، نصف باكية:
“يا ليان، لا أحد يستحق أن نمنحه قدرتنا على الانهيار. كنت أعلم أنني سأخسره، لكني لم أكن أريد أن أخسر نفسي معه.”

ليان شدّت على يدها:

“وأنتِ لم تخسريها. فقط… تذكّري دائمًا، لا أحد ملاذ دائم. الرجل الذي تظنينه سندكِ، قد يتحوّل غدًا إلى غربتكِ. لا تعودي إلى نفس المكان الذي انكسرتِ فيه.”

نوران أومأت، وألقت نظرة أخيرة باتجاه أحمد، كما يُلقي المسافر النظرة الأخيرة على مدينةٍ أحبها كثيرًا، وخرج منها دون وداع.

كان ينظر إليها في تلك اللحظة. لم يلوّح، لم يبتسم. فقط… نظر.

نظرة وداع.

نظرة كان يعلم، ويعلم جيدًا، أنها الأخيرة.

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 49

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top