رواية حتى بعد الموت الفصل 49

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 49

لم تكن حياة نوران بعد الطلاق بالسوء الذي كانت تتوقعه. على العكس، شعرت وكأنها تنفست الصعداء بعد سنوات من المعاناة والتعب النفسي. قضت بضعة أيام هادئة في المنزل، برفقة صديقتها المقربة ليان، التي لم تتركها لحظة. أعدّت لها ليان وجبات صحية ومغذية، حرصت فيها على تقديم ما يعزز مناعتها ويساعدها على استعادة عافيتها شيئًا فشيئًا. كانت العناية حانية، والجو المحيط بها دافئًا، مما انعكس إيجابيًا على حالتها الجسدية والنفسية.

رغم أن العلاج الكيميائي ترك أثره عليها، فإنها لم تُعانِ من أعراضه بشكل بالغ كما خافت. صحيح أنها لم تعد في كامل صحتها كما كانت قبل إصابتها بالسرطان، إلا أن هناك تحسنًا ملحوظًا في حالتها. نوبات الإغماء التي كانت ترهقها تراجعت، وجرح ذراعها شُفي تمامًا، وتساقط شعرها توقف تدريجيًا ليصبح تحت السيطرة. بدا وكأن جسدها بدأ يستجيب، وكأن الحياة قررت أن تمنحها استراحة بعد سلسلة من الخيبات.

كانت ليان تشعر بالراحة لرؤية نوران تتعافى. بل شعرت بسعادة خفية وهي تراها تبتسم مجددًا، تلك الابتسامة التي غابت طويلًا. نامت بجانبها في عدة ليالٍ، تسترجعان ذكريات قديمة، وتضحكان على تفاصيل بسيطة. توقفت نوران أخيرًا عن النوم بجانب سرير الأطفال الفارغ، وهو ما رآه الجميع مؤشرًا على أنها بدأت تتجاوز الحزن وتستعيد توازنها العاطفي.

عندما لاحظت ليان أن حالتها تتحسن، لم تتردد في اقتراح الخروج:
“أتعلمين؟ رئيس الفصل السابق نظّم اجتماعًا لزملاء الدراسة. ما رأيك أن نذهب معًا؟ نحن متفرغتان على أية حال.”

ترددت نوران، أرادت أن تعتذر، لكن ليان قاطعتها بإصرار:
“زملاؤنا القدامى في وضع جيد الآن. بعضهم يعمل في مجالات مرموقة. ربما تجدين بينهم من يوصلكِ بجراح أعصاب متميز. لا تقلّلي من أهمية التواصل.”

أردفت ليان، محاولة دفعها:
“دائمًا ما ترددين أن أيامك أصبحت معدودة. أليس هذا سببًا كافيًا لكسر العزلة والخروج قليلًا؟”

لاحظت ليان توتر صديقتها، أدركت كم من المشاعر المتداخلة تخالجها. كانت نوران ذات يوم تنتمي إلى عائلة ثرية، وتُعد من الطالبات النجيبات في كلية الطب، بمستقبل واعد ينتظرها. أما الآن، فلم يعد لها نفس المكانة. أفلسَت عائلة الهاشمي، واضطرت لترك دراستها، وفقدت الكثير مما كانت تملكه.

قالت ليان، بابتسامة مازحة:
“أنتِ فقط تخجلين من الظهور أمامهم. لكن انظري إليّ، تركتُ كلية الطب، وصرت أفضل بائعة! لستُ خجولة من ذلك. بل فخورة. ثم، أنتِ لستِ في وضع سيء. لديكِ عشرة ملايين دولار مسجلة باسمك! نوعًا ما… أنتِ مليونيرة. وأيضًا، أليس لديكِ بعض الأسهم في مجموعة القيسي؟ لم يكن ذلك الوغد بخيلاً تمامًا.”

في الحقيقة، تضمنت تسوية طلاق نوران بنودًا مالية تفصيلية، وكانت سخية للغاية. لم يمنحها زوجها السابق، أحمد، نصف ثروته، لكنه قدّم لها مبلغًا يكفيها مدى الحياة، بل أكثر من ذلك. أرباحها السنوية من أسهمها في مجموعة القيسي وحدها كانت كافية لضمان حياة كريمة دون الحاجة للعمل أبدًا.

بقيت باسمها أيضًا بعض الممتلكات والعقارات، ربما بدافع الشعور بالذنب من أحمد، أو لقطع أي صلة متبقية بها. مهما كان السبب، فإن نوران لم تكن بحاجة لأي دعم مادي آخر.

وأمام إصرار ليان وإلحاحها، وافقت نوران أخيرًا على حضور اللقاء. شعرت أنها مدينة لصديقتها بفرصة صغيرة لاستعادة شيء من ذاتها السابقة.

علمت ليان أن ما فعلته كان صائبًا، خصوصًا بعد أن قرأت خبر خطوبة أحمد القادمة. كانت ترى أن على نوران أن تُنسِي نفسها قصة الطلاق، وتلتفت لما تبقى من حياتها. فمهما كانت الأيام معدودة، فهي ما زالت أيامًا تستحق أن تُعاش بفرح.

قالت نوران:
“حسنًا، سأذهب.”

ضحكت ليان بسعادة:
“هكذا أعرفك. كنتِ محبوبة جدًا في المدرسة. من يدري؟ قد يكون أحد المعجبين القدامى لا يزال يحمل لك مشاعر. دلّلي نفسكِ قليلاً، وتحرّري من قيود الحزن. أنتِ ما زلتِ صغيرة.”

بعد لحظة صمت، تساءلت نوران:
“هل سيكون باسل بدران هناك؟”

أجابت ليان بدهشة:
“بالتأكيد! باسل رجل طيب، لكنه ليس بالضبط جذابًا. لحظة… هل انخفضت معاييرك بعد ذلك الطلاق المؤلم؟”

هزّت نوران رأسها وقالت بابتسامة خافتة:
“لا. فقط سمعت أنه تولى إدارة أعمال والده في مجال الجنازات، وأصبح في وضع جيد. فكرتُ أن أطلب منه معروفًا بسيطًا لزميلته القديمة.”

نظرت إليها ليان بريبة:
“معروف؟ أي نوع من المعروف؟”

قالت نوران بهدوء، وكأنها تتحدث عن شيء عابر:
“أن يحجز لي قطعة أرض جيدة في مقبرة محترمة.”

صُدمت ليان من هذا الرد، وقالت بانزعاج:
“أوه، ألا يمكنكِ الكف عن ذلك؟”

أمسكت نوران بيدها، وقالت بصوت عميق:
“ليان، هذا هو الواقع. علينا أن نتقبله. في النهاية، كلنا سنموت.”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 50

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top