الفصل 54
ترددت ليان قبل أن تفتح شفتيها وتقترح على نوران مغادرة المكان والعودة إلى المنزل. كانت تشعر بالحيرة، تعلم أن صديقتها تمر بمرحلة شديدة الحساسية، وكل كلمة قد تترك أثرًا لا يُمحى. غير أن أحمد، وكأنه يُحسم الأمر بسيف قاطع، قطع عليها هذا التردد وقال بنبرة لا تقبل الجدل:
“سأقف إلى جانب مرام، وهذا قراري.”
في تلك اللحظة، شعرت نوران وكأن الأرض تنسحب من تحت قدميها. كل كلمة نطق بها أحمد كانت كطعنة جديدة في صدرها. لم يكن الأمر مجرد انحياز منه إلى امرأة أخرى، بل كان تخلّيًا علنيًا عنها، عن كل الذكريات، عن كل الحنين الذي لا يزال يسكنها رغم الانفصال.
كانت نوران أضعف من أن تحتمل، أرهقها الألم، وضاعت في دوامة من الخذلان. وبرغم حاجتها المُلّحة للهروب من ذلك المكان الذي أصبح خانقًا، اتخذت قرارًا لم يكن يتوقعه أحد.
استدارت نحو ليان، وقد بدا في عينيها وميض من التحدي، وقالت بهدوء يخفي وراءه زوبعة مشاعر:
“أما كنتِ قد أحضرتِ ملابس بديلة؟ تعالي معي إلى الحمّام. سأبدّل ملابسي. ثمّ، ألا ترين أن مغادرتنا قبل بدء الحفلة تصرف غير لائق؟”
دهشت ليان، لكنها سرعان ما ابتسمت بإعجاب. لم تتوقع من نوران أن تواجه، أن تقرر البقاء بعد هذا الكم من الانكسار. كان في داخلها شيء لم يمت بعد… شيء أقرب إلى الكرامة المختلطة بالإصرار.
وفي طريقهما إلى الحمّام، بدأت ليان تتذمر، وقد بان الغضب في صوتها:
“هل رأيتِ نظرة أحمد القيسي قبل قليل؟ مَن يظن نفسه؟ كنت على وشك أن ألكمه على وجهه! رجل بهذه الوقاحة لا يستحق أن يُنطق اسمه.”
ضحكت نوران بخفة حزينة، وقالت:
“أوه، ليان…”
توقفت ليان فجأة، ونظرت إليها بعينين قلقتين:
“نوران، هل أنتِ واثقة من رغبتك في البقاء؟ ستضطرين لرؤيته مع عشيقته… سيتصرّف بحرية، وكأنكِ لم تكوني شيئًا. وسيذكّركِ، دون أن يقول شيئًا، أنكِ ما زلتِ تحملين له مشاعر.”
أجابت نوران وهي تفتح حقيبة فستانها الجديد:
“أنتِ من قلتِ لي إنني سأتجاوز كل ذلك يومًا ما. ثم، ألم يكن الطلاق خطأه هو؟ لماذا عليّ أن أهرب وكأنني أنا التي أذنبَت؟”
دخلت إلى غرفة صغيرة لتبديل ملابسها، وقبل أن تُغلق الباب، تمتمت بثقة:
“ليان، أنتِ على حق. حتى وإن لم يتبقَّ لي سوى يومٍ واحد على هذه الأرض، فسأعيشه كما يحلو لي… لنفسي.”
وحين خرجت من الغرفة، صمتت ليان لحظة من شدة المفاجأة. كان الفستان الذي ارتدته نوران أحمر صارخًا، جريئًا، يكشف الكثير، لكنّه بدا عليها مثاليًا. كانت مذهلة، بشكل لا يَسَعُ إلا أن يُلاحَظ.
ابتلعت ليان ريقها وقالت بدهشة صادقة:
“يا إلهي… من قال إن حجم الصدر لا يصنع فرقًا؟ هذا الفستان يبدو وكأنه صُنع خصيصًا لكِ!”
ضحكت نوران، ثم تقدّمت نحو المرآة، وأخذت ترسم شفتيها بالأحمر القاني، فازداد سحرها سطوعًا. لم تكن بحاجة لزينة كثيرة، فقد كانت تُشعّ بجاذبية طبيعية، توهّجت الآن بأناقتها الجديدة.
كانت نوران، بكل بساطة، تجسيدًا لعبارة “الإغواء الخالص”.
قالت بحزم وهي تحمل حقيبتها الصغيرة:
“هيا بنا.”
دخلت نوران القاعة بخطوات واثقة، كعبها العالي يُصدر صوتًا كإيقاع انتصارها الخاص. بدت أكثر أناقة وجاذبية، وقد أضفت قصة شعرها القصيرة طابعًا من الحزم والتمرد.
وكما هو متوقّع، انصبّت الأنظار نحوها بمجرد دخولها، وبدأت الهمسات تتصاعد. نظرت كارين إليها بطرف عين، وهمست بسخرية متوترة:
“هذا مبالغ فيه… استعراض لا ضرورة له.”
لكن نوران لم تكن تعبأ، لقد استردّت جزءًا من ذاتها، ولو مؤقتًا.
وبينما كانت تتقدّم وسط الحاضرين، التقطت أذناها صوتًا هادئًا وأليفًا ينادي باسمها:
“نوران…”
استدارت لتجد كريم واقفًا إلى جانب كامل. تفاجأت لرؤيته هناك، لكنها لم تُظهر ذلك. بدا من المنطقي أن يدعوه كامل، فهما من عائلة أطباء، وهناك قواسم مشتركة بينهما.
لوّح كريم بلطف وقال:
“هنا، نوران!”
فهمت ما يرمي إليه. لقد أراد إنقاذها من الموقف الاجتماعي المحرج، ولم ترغب في إحراجه، أو إحراج نفسها، فاقتربت وجلست إلى جواره بهدوء. كانا لم يلتقيا منذ فترة طويلة، لكنه شعر بالارتياح لرؤيتها بخير.
وبينما كان أغلب الضيوف يتجمعون حول أحمد، يُظهرون له التقدير والتملّق، انشغل كريم فقط بها. وضع بعض الطعام الصحي في طبقها، محاولًا تخفيف التوتر عنها.
كانت منهمكة في الأكل، وكأنها تحاول سد الفراغ بشيء آخر، فلم تلحظ نظرات إيثاب، التي كانت تلاحقها بدهشة ظاهرة.
أما كامل، فقد لاحظ شيئًا آخر… التبدل في سلوك كريم. كان يراقبه بفضول، ثم مال إليه وسأله بنبرة مازحة، لكن جدية:
“كريم، لم أرك من قبل منشغلًا بامرأة إلى هذا الحد… هل هناك شيء بينك وبين نوران؟”
في تلك اللحظة، كانت إحدى الزميلات تجلس قريبة منهما، تدعى بسمة منصور، وكانت تقضم قطعة حلوى صغيرة، قبل أن تهمس بخفة:
“سمعتُ أن نوران أخذت إجازة طويلة من المدرسة للزواج… هل هي متزوجة من كريم؟”