الفصل 58
مدّت نوران يدها برفق نحو زجاجة الشراب الموضوع على الطاولة، وكأنها تتلمّس شيئًا يُسعفها من اختناق داخلي يشتدّ منذ لحظة وصولها. عيناها كانتا تلمعان ببريق غريب، ليس فرحًا ولا حزنًا صافيًا، بل مزيج معقّد من التحدي والانكسار.
قالت بصوت هادئ يحمل مرارة مبطنة:
“ربما تستحق هذه الليلة نخبًا خاصًا… للخسارات التي لم نُشفَ منها، وللأشخاص الذين تركونا بملء إرادتهم.”
لم تمضِ ثوانٍ حتى مدّ كريم يده ليوقفها، وفي اللحظة نفسها أمسكت ليان بذراعها، نظرت إليها برجاءٍ مشوب بالذعر:
“نوران… لا تفعلي. ليس الليلة، ولا في هذا المكان.”
لكن نوران لم تلتفت لتحذيراتهما. سحبت ذراعها برفق، وتنفست بعمق كما لو كانت تغوص في قرار لا عودة منه. تمتمت بعنادٍ خافت:
“مجرد رشفة… لن تُغيّر شيئًا. دعوني أُكمل طقوسي على طريقتي.”
نظرت ليان إلى كريم في حيرة، ثم تركت يد نوران ببطء. عرفت، من خلال صمت صديقتها، أن شيئًا ما قد انكسر داخلها، وأن هذه اللحظة بالنسبة لها لم تكن سوى إعلان عن نهاية صبرٍ طويل.
سكبت نوران السائل الأحمر الداكن في كأسها، بنظرة مركزة وبطيئة كأنها تؤبّن شيئًا مات بداخلها. ثم نهضت واقفة بثقة مُتعبة، وسارت نحو الطرف الآخر من الطاولة حيث يجلس أحمد بجوار مرام، خطواتها موزونة لكنها محمّلة بثقلٍ لا يُرى.
وقفت أمامهما وابتسمت ابتسامة تحمل في طياتها غضبًا مكتومًا وسخرية هادئة. قالت بصوت رخيم، متماسك رغم رعشة داخلية كادت تظهر:
“سيد القيسي… آنسة الزهراني… أتمنى لكما كل السعادة، أو على الأقل، القليل من الخيبات التي عشتها بنفسي.”
رفعت الكأس أمامهما وأردفت:
“سأشرب هذا النخب سواء أعجبكما أم لا. فاعتبراه تهنئة مُبكرة. لن أكون ضمن المدعوين إلى خطوبتكما… ولا أرغب أن أكون.”
ثم تناولت الكأس في جرعة واحدة، دون أن تتردد أو تنظر في عيني أحد.
كان أحمد يراقبها بصمتٍ قاتل، يعرف جيدًا أن هذه الكأس ليست مجرد مشروب، بل هروبٌ، وربما انتقام من ذاتها. أما مرام، فقد نهضت ببطء، وكأنها لا تقبل أن تترك الساحة لنوران وحدها. حملت كأسها، وابتسمت ببرود وقالت:
“أنا وأحمد… سنكون بخير. نشكرك على نواياكِ الطيبة… إن وُجدت.”
ثم سكبت كأسًا ممتلئًا وشربته هي الأخرى في مشهد تنافسي سخيف، لكنه مشحون بالكثير من المعاني.
فجأة، دوّى صوتان متزامنان في الغرفة:
“كفى!”
وقف أحمد وكريم معًا، لكن كلٌ منهما بدافع مختلف. كريم، وقد امتلأ قلبه قلقًا على نوران، أسرع إلى أخذ الكأس الفارغ من يدها وقال بحزم:
“هذا يكفي. لن تكملي هذا الطريق وحدكِ. إن كنتِ مصرة، فسأشرب نيابةً عنك.”
هنا، استدار أحمد نحوه ببطء، وعلى وجهه نظرة هادئة لكنها مثقلة بالغضب الصامت. ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة خالية من الدفء، وقال ببرود:
“ومن تكون يا دكتور… لتشرب عنها؟ منذ متى وأنت الناطق باسمها؟”
بدأت الهمسات تنتشر بين الضيوف. الكل أدرك أن العاصفة بدأت.
كريم لم يتراجع. رفع نظره بثقة وقال بصوت منخفض لكن حاد:
“أنا لستُ شيئًا يُشبهك. لكنني على الأقل أراها إنسانة تستحق الحماية… لا الأذى.”
الصدمة بدت على وجوه البعض، بينما تسلّلت ابتسامة غريبة إلى وجه أحمد. ابتسامة لا تنتمي لأي نوع من الفرح. ثم قال بنبرة أشبه بالتهديد المبطّن:
“أخيرًا… نسمع صوتًا من آل خطاب. لكنك نسيت شيئًا، يا كريم. ليس كل صوت يُسمع… يُحترم.”
ثم أمال رأسه قليلاً، نظر إليه نظرة مباشرة وأضاف:
“أتساءل… هل ستنجو من تبعات هذا الشتاء؟”
الجملة الأخيرة كانت صاعقة. لم يعد هناك شك أن أحمد لا يتحدث مجازًا.
كان تهديده واضحًا. الرجل الذي نادرًا ما يتكلم، قرر أن يُعلن نيّته أمام الجميع. يعرف الحاضرون أن أحمد القيسي حين يتوعد… لا ينسى، ولا يغفر، ولا يتراجع.
أسرع كامل بالتدخل، محاولًا امتصاص التوتر المتصاعد:
“سيد القيسي… أرجوك، لنُهدئ الأجواء. الدكتور كريم تصرّف بدافع القلق، لا التحدي.”
لكن أحمد لم ينظر إليه. ظل يدوّر الكأس بين أصابعه، وكأنه يقيس وزن الكلام قبل أن يُفرغه. ثم قال بنبرة ثابتة خالية من الانفعال:
“كريم خطاب… لديك فرصة واحدة فقط. عد إلى مقعدك، واعتبر هذا الموقف كأن لم يكن. وإن لم تفعل…”
توقف لحظة، ثم رفع عينيه مباشرة إلى وجه كريم، وأردف:
“ستكون العواقب وخيمة.”