الفصل الخامس
نظرت نُهى إلى أحمد نظرة حائرة، وكأنها تحاول التحقق مما سمعته للتو. لم تكن تعلم أنه متزوج. شعرت بشيء أشبه بالخذلان، لكن كبرياءها كان أقوى من أن يظهر ذلك علنًا.
قالت بلهجة حادة، تخفي وراءها سنوات من الغربة والضياع:
“سيد القيسي… لقد قضينا سنوات طويلة في الخارج. لا نعلم ما الذي يجري هنا، ولا نرغب في أن نُزَجّ في أمور لا تخصّنا. ما شأن ابنتي بك؟”
ظلت ملامح أحمد جامدة، وعيناه هادئتين بشكل استفزّ الحاضرين، ثم قال ببرود:
“حتى لو كان بيننا شيء، فهو من الماضي. وسأُسوي أمر طلاقي قريبًا.”
كلماته سقطت على قلب نوران كصفعة. لم تتخيّل قط أن يُقلّل من شأن كل ما جمعهما بتلك الطريقة.
لقد منحتْه قلبها، ووهبته سنواتها، وها هو الآن يتعامل معها وكأنها كانت مجرد محطة مؤقتة.
كانت غاضبة، نعم… لكن خيبة أملها تجاوزت الغضب بكثير.
كان من المحبط أن تكتشف في النهاية أنها عاملت قمامة مثل أحمد كما لو كانت شيئًا ثمينًا.
أخرجت علبة الخاتم من حقيبتها وقذفتها على وجهه بكل ما تبقّى فيها من كرامة ووجع:
“تفو عليك! ندم حياتي كان زواجي منك! أراك غدًا في مبنى البلدية… ومن لا يأتي فهو جبان!”
ارتطمت العلبة بجبهته مباشرة، سال الدم من فوق حاجبه، بينما سقط الخاتم من العلبة التي انفتحت لحظة الاصطدام.
هذه المرة، لم تلتفت نوران للخلف.
داست على الخاتم بقدمها وهي تغادر، وأغلقت الباب خلفها بقوة، وكأنها تُغلق فصلاً كاملاً من حياتها.
لقد مرّ الكثير خلال العامين الماضيين، لكن هذه اللحظة… كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.
لم تستطع أن تمضي بعيدًا. ما إن ابتعدت قليلاً حتى داهمها الدوار، وانهارت على جانب الطريق.
بدأت السماء تمطر فجأة، وبغزارة، وكأنها تبكي معها.
تمنّت لو تنتهي الأمور هنا. شعرت أن الموت سيكون أرحم من عالم يعجّ بالأكاذيب والمخططات.
عندما فتحت عينيها، كانت مستلقية في غرفة غريبة.
الضوء الخافت من مصباح صغير نشر دفئًا لطيفًا يشبه نسيم الربيع. شيء في هذا المكان منحها شعورًا بالأمان لم تعرفه منذ زمن.
“أنتِ مستيقظة.”
نظرت نحو الصوت، فوجدت كريم يحدّق بها بعينين صافيتين تحملان مزيجًا من القلق والحنان.
“أنقذتني؟” همست نوران بصوت واهن.
“كنتُ في طريقي إلى المنزل، فرأيتكِ مُغمى عليكِ على الرصيف، فأحضرتكِ إلى هنا. كنتِ مبللة تمامًا، فطلبت من الخادمة أن تغيّر لكِ ملابسك”، قالها كريم بلطف، كأن كلماته تخشى أن تؤلمها.
قالت بهدوء: “شكرًا لك، كريم.”
ابتسم، وقال:
“حضّرت لكِ دقيق الشوفان. لكن قبل ذلك، عليكِ شرب بعض الماء الدافئ.”
تحركت نوران ببطء، وأزاحت البطانيات، محاولة النهوض.
“لا داعي. الوقت متأخر، ولا أريد أن أزعجك أكثر.”
لكن جسدها خانه. ما إن لامست قدماها الأرض حتى انحنى جسدها كغصن مكسور، وسقطت أرضًا.
أسرع كريم إليها وأمسك بذراعيها بلطف، مانعًا إياها من السقوط بقوة.
استنشقت رائحة ملابسه القريبة منها. كانت مألوفة… تشبه رائحة منظف الغسيل الذي كانت تستخدمه في منزلها.
رائحةٌ ارتبطت بذاكرتها القديمة… بأحمد.
غصّة ألم اجتاحت قلبها، لكنها ابتلعتها بصمت.
قال كريم بصوت هادئ لكن حازم:
“أنتِ ضعيفة جدًا الآن. لا تُرهقي نفسك. إن كنتِ ترغبين في النجاة لبضعة أيام إضافية… فلا تستهيني بما تمرّين به.”
ثم أضاف بابتسامة دافئة:
“اعتبري أنكِ تفعلين هذا من أجل والدك.”
كلماته لامست شيئًا داخلها. لمع في عينيها الباهتتين بريقٌ من رجاء.
همست: “آسفة إن سببتُ لك أي إزعاج.”
راقبته من خلف الباب وهو ينشغل في المطبخ.
في الحقيقة، لم تكن علاقتها بكريم وثيقة. أقصى ما كان بينهما أنه كافأها ذات مرة عندما فازت بلقب أفضل طالبة في سنتها الجامعية الأولى.
كان يكبرها بأربع سنوات، ويتدرب حينها في مدرسة مرموقة، بعيدًا عن الحرم الجامعي، لذلك بالكاد التقيا.
ورغم ذلك… في تلك اللحظة، بدا وجوده كهدنة قصيرة في حربها الطويلة.
وفي وقتٍ لاحق، التقت نوران بكريم مجددًا داخل أروقة المستشفى. لم تكن تلك المرة عابرة؛ فقد بدأ بينهما تواصل منتظم، يتسلل إلى أيامها مثل نسمة هادئة وسط العاصفة.
ومع ذلك، لم تكن العلاقة بينهما متينة بما يكفي لتفرض على قلبها سطوةً تُنسيها ما تمر به. بعد أن أنهت وجبتها وتناولت بعض الأدوية، استقرت معدتها أخيرًا، لكن قلبها بقي مضطربًا.
بصوت ناعم، أثار كريم مسألة العلاج الكيميائي:
“الطب تطوّر كثيرًا. ورغم أنكِ في منتصف المرحلة الأخيرة، لا يزال هناك أمل. بعض المرضى في هذه المرحلة ينجون، بل ويعيشون سنوات إضافية. العلاج الكيميائي فعّال، ونسبة النجاح في ارتفاع.”
خفضت نوران رأسها، وهمست بمرارة:
“كنتُ أدرس الطب سابقًا… أعرف كل هذا. الإيجابيات والسلبيات، التفاصيل كلها… لكن المعرفة لا تهوّن الوجع.”
واصل كريم حديثه برفق:
“حتى لو كانت الآثار الجانبية قاسية… يمكنكِ تجاوزها. فقط القليل من الإصرار—”
قاطعه صوتها المكسور. رفعت رأسها، والدموع تلمع في عينيها المرتعشتين:
“لكنني… لم أعد أستطيع الاستمرار.”
أراد كريم أن يقول شيئًا، أي شيء. أن يخفف عنها، أن ينتشلها من حافة اليأس، لكن الكلمات علقت في حلقه.
نظر في عينيها المحمرّتين، وشعر بشيء يشبه الموت يتسلل إلى قلبه.
وبعد صمتٍ ثقيل، سألها بصوتٍ منخفض:
“هل لا يزال هناك أحد في هذا العالم يهمك أمره؟”
استغرق الأمر منها لحظات لتستوعب السؤال، ثم همست:
“والدي… فقط والدي.”
قال كريم بثقة صادقة:
“إذن، عيشي… حتى لو كان من أجله فقط.”
ابتسمت نوران ابتسامة باهتة، كانت أقرب إلى غصة منها إلى ابتسامة:
“شكرًا… أشعر بتحسّن الآن. سأغادر.”
في تلك اللحظة، لمح كريم إصبعها خاليًا من ذلك الخاتم الذي كانت لا تخلعه أبدًا. أراد أن يسأل، لكنه تراجع.
اكتفى بالسؤال:
“إلى أين أنتِ ذاهبة؟ أستطيع أن أوصلك.”
هزّت رأسها بلطف:
“لا داعي. طلبت سيارة أجرة… ستكون هنا قريبًا.”
رفضها السريع لم يُترك له مجال للاعتراض. ومع ذلك، لم يطمئن قلبه. كان في عينيها شيء يشبه النهاية، فأخذ يتبع سيارة الأجرة من بعيد، بدافع قلقٍ لم يستطع تفسيره.
توقفت السيارة بجانب نهر ساكن، إلا من تموّجات الرياح.
وقفت نوران وحدها، تحدّق في المياه الرمادية. رغم أن المطر توقف، إلا أن البرد ما زال يغلف المشهد كله بصمتٍ ثقيل.
وقبل أن يتحرّك كريم نحوها، توقفت إلى جانبها سيارة سوداء فارهة، ذات نوافذ داكنة.
فتح الباب، وترجّل منه رجل كان وجهه مألوفًا من المجلات الاقتصادية.
كريم لم يصدق ما يرى.
أحمد القيسي؟ هل يمكن أن يكون هو زوج نوران؟
كانت الرياح تعبث بشعر نوران، تكشف وجهها الشاحب المرهق.
اقترب منها أحمد، كأنّ شيئًا في داخله أراد أن يرفع خصلة شعرها ويضعها خلف أذنها، لكنه تراجع، وقال ببرود معتاد:
“ما الأمر؟”
نظرت إليه نظرة طويلة، باردة، كأنها تُشكك في حقيقة وجوده.
“هل كنتَ السبب في إفلاس عائلتي؟”
سألت دون لف أو دوران.
أجاب دون أن يرفّ له جفن:
“نعم.”
“والأطفال… هل هم أطفالك؟”
رمشت مرة واحدة، ثم ثبتت نظرتها عليه، كأنها تحفر في ملامحه بحثًا عن أي ذرة كذب.
أجاب ببساطة جارحة:
“نعم.”
اقتربت منه وصفعته صفعة قوية دوّت في الهواء:
“أحمد القيسي… يا حقير!”
أمسك معصمها بيد واحدة، وبالأخرى مسح دموعها التي بدأت تهطل.
قال بهدوء:
“هل يؤلمك؟”
صرخت بعينين دامعتين:
“يا أحمق! كيف تفعل بي هذا؟ ماذا فعلت لك عائلتي؟”
لكن وجهه بقي على حاله: جامد، خالٍ من أي تعاطف.
قال ببرود:
“لماذا لا تسألين والدكِ عمّا فعله؟”
بلعت ريقها، وكأنها تخشى ما قد تسمعه، ثم همست:
“هل أحببتني يومًا، أحمد؟”
تجمّد الزمن للحظة.
قال دون أن يغمض عينيه:
“أبدًا. لم تكوني سوى بيدق في لعبتي.”
انزلقت دموعها، واحدة تلو الأخرى، وسقطت على يده التي ما زالت تمسك بمعصمها.
قالت بصوت خافت:
“أنت تكرهني، أليس كذلك؟”
قال بصوت حادٍ كالسيف:
“نعم. هذا ما تستحقونه، أنتم آل الهاشمي! هذا هو ثمن ما فعلتموه بأختي الصغيرة!”
شهقت نوران، ثم تمتمت:
“لكن… ألم تختفِ أختك منذ زمن؟ ما علاقة عائلتي بذلك؟”
نظر إليها باحتقار، كأنها لا تستحق تفسيرًا:
“أنتِ كنتِ تضحكين… بينما كانت أختي تُعذّب!
لكني لن أخبركِ الحقيقة. أريدكِ أن تتألّمي مثلها. أن تعيشي بؤسكِ حتى النهاية دون أن تعرفي الحقيقة!”
استدار أحمد، ثم قال:
“سأكون في مبنى البلدية غدًا الساعة التاسعة.”
ركب السيارة، وبدأت بالإقلاع.
صرخت نوران وهي تهرع نحوها، تضرب بابها بجنون:
“أخبرني! ماذا حدث لأختك؟! لماذا؟!”
لكن السيارة ابتعدت بسرعة، وفقدت توازنها من شدة انفعالها، فسقطت على الأرض.
السلام عليكم
لماذا تفتح باقي فصول رواية عشقا لا يضاهى
بعد١٠٠