الفصل 60
كان آل الهاشمي محظوظين لأنّهم خرجوا من تلك الكارثة بخسارة مادية فحسب، رغم تورّطهم في حادثة وفاة شقيقة أحمد. فالمال يمكن تعويضه، لكن من يتسبّب في فقدان أحد أحبّائه… لا ينجو بسهولة إن كان العدوّ هو أحمد القيسي.
لكنّ كريم… قد لا يكون محظوظًا.
هزّت نوران رأسها بيأسٍ وقلقٍ مكتوم، وكأنّها تخاطب نفسها أكثر منه:
“لا… ليس هذا صراعك، كريم. لا يجب أن تتورّط بسببي.”
كانت الفوضى تزداد اشتعالًا.
ولأنّ كريم أخرجها من القاعة على عجل، لم تسنح لها الفرصة لحمل سترتها. لاحظ ذلك دون أن يقول شيئًا، ثم خلع سترته وألقاها على كتفيها، وأمسك بذراعيها برفق، كأنه يضمّ هشيمًا يخشى أن يتناثر.
قال بنبرة هادئة تخفي الكثير من الحزن:
“أدرك جيدًا أنه آذاكِ، ولم أقترب منكِ رغبةً في شيء… فقط أردت أن أكون إلى جانبك، أن أُؤنس وحدتك في ما تبقّى من أيامٍ مُنهكة. فإن لم يكن لي مكان في قلبكِ، فاسمحي لي على الأقل أن أكون صديقًا. فقط… صديق يعتني بكِ.”
نظرت إليه بعينين مملوءتين بالارتباك. لطفه أربكها. جعلها أكثر تردّدًا، وكأنها تخشى أن يسقط هو الآخر في هوة أحمد إن اقترب منها أكثر.
“كريم، أعلم أنّك تفعل ذلك بنيّة صادقة، لكن…”
لم تكمل. كانت الكلمات تختنق في حلقها.
وفجأة، لمحته.
من طرف عينها، أبصرت ظلًا واقفًا على بُعد خطوات، ثابتًا كالصخر، غارقًا في الظلال. لم تحتج إلى وضوح الملامح لتعرف من هو. لقد كان أحمد.
كان واقفًا هناك، كما عرفته دومًا… متماسكًا، صامتًا، لكن نظراته تحمل ألف عاصفة. وعندما نطق، جاء صوته حادًا قاطعًا:
“تعالوا إلى هنا.”
لم يكن نداءً… بل أمرًا. أمرًا لا يجرؤ أحد على رفضه.
أدركت نوران أن الطلاق لم ينزع عنه سلطة الامتلاك… بل جعله أكثر تطرّفًا. زادت قبضته عليها بعدما تحرّرت منه.
تحرّك كريم بخفّة، كأنّه درعٌ أمامها، وقال بصرامة وحرص:
“سيد القيسي، أنتما منفصلان. أرجوك… لا تؤذها أكثر مما فعلت.”
لكن أحمد لم يلتفت إليه، وكأنّه لم يسمعه أصلًا. كانت عيناه مركّزتين على السترة التي تُغطّي جسدها… سترة كريم.
ثم قال بجمود قاتل:
“انزعيها… وتعالي.”
كلماته كانت أمرًا مُهينًا، كأنّه يخاطب شيئًا مملوكًا لا إنسانًا. لو لم يكن كريم واقفًا إلى جوارها، ربما كانت ستذعن على الفور.
تذكرت تهديده العلني لكريم أثناء العشاء. الجميع يُطلق تهديدات لحظة الغضب… لكن أحمد لا يهدّد. أحمد يفعل.
شهقت بصمت، ثم أزاحت السترة عن كتفيها، وقد تجمّدت ملامحها من الداخل. ناولتها لكريم، وهمست:
“كريم، طلبتُ منك ألّا تتدخّل في شؤوني.”
كان كريم مشدوهًا، كأنّه يتلقى صفعة لم يتوقّعها.
“لكن… ألا تزالين زوجته؟!”
لم تجبه مباشرة، فقط أعادت له سترته، وهمست دون أن تنظر إليه:
“أخبرتك من قبل… أنا لا أصلح لك. لا تُضيّع وقتك معي.”
رأى الانكسار في صوتها، في عينيها، وفي الطريقة التي تخلّت بها عن حمايته. ومع ذلك، مدّ يده وأمسك بمعصمها برقة، وقال بتوسّل:
“نوران… أستطيع أن أساعدكِ. لا ترفضي يدي.”
لكن صوته اختفى تحت وقع أمرٍ جديد، جاء كالرصاصة:
“هشام، اقطع يده.”
خرج هشام من الظلال، يتحرّك بثباتٍ مُرعب، كأداةٍ لا تعرف الرحمة. وحين رأته نوران، تحرّكت غريزيًا، وقفت بينه وبين كريم، ومدّت ذراعيها لتحميه.
قالت بصوتٍ مرتجف، لكنها ثابتة الإرادة:
“أحمد! إن مَسستَ كريم، فسأدفع الثمن بنفسي. قلت لك: لا علاقة له بي. إن أردت أن تنتقم… فخذني.”
تجمّدت نظرات أحمد، شفاهه مطبقة وذقنه مرفوع. لم يتكلم. فقط خلع سترته، وألقاها فوق جسدها كأنها قيد، لا دفء فيه ولا رحمة.
غلفها بها كما يُغلَّف الأسير بسلاسله.
كان الطلاق يعني التحرر على الورق فقط. أما في الواقع، فكانت أسيرة ذلك الرجل، حتى وإن لم يلمسها.
تراجع كريم، وقد تدلّت يداه بجانبه في عجزٍ مرير. ثم قال بهدوء كمن يخاطب جدارًا:
“سيد القيسي… لا أفهم هذا الهوس. هي لا تملك شيئًا… فلماذا كل هذا الألم؟”
لكن أحمد قاطعه ببرود:
“كريم… عد إلى منزلك.”
وقبل أن يغادر، نظر كريم إليهما نظرةً أخيرة، ثم قال بمرارة:
“على الأقل… عامِلها كما تستحق. لا تُعدها إلى الجحيم.”
رفع أحمد ذقن نوران بأطراف أصابعه، ونظر إليها نظرة جامدة:
“ماذا كان يحاول أن يقول لي؟ ماذا يحصل لكِ؟”