الفصل 61
ما إن غادر كريم، حتى حررت نوران نفسها من قبضة أحمد، بهدوء من لا يريد الصراع.
قالت ببساطة جافة:
“أوه، أنا بخير.”
مرّت بضعة أيام من الراحة والنقاهة، فبدأت ملامح وجهها تستعيد نضارتها، واكتسبت بشرتها شيئًا من العافية، في تناقضٍ صارخٍ مع الهزال الذي أنهكها مؤخرًا.
رمقها أحمد بنظرة متأملة، وتمتم كأنه يحدّث نفسه:
“صحيح… لطالما كنتِ في أبهى حالاتكِ حينما تهربين.”
ضحكت في سرّها، لكنها لم تكلّف نفسها عناء الرد أو التفسير. فقط خلعت سترته من فوق كتفيها، ومدّتها إليه وقالت ببرودٍ محسوب:
“سيد القيسي، لا تقلق. سألتزم بشروط الاتفاق بيننا… لن أتزوج مرة أخرى.”
كان ذلك البند بالتحديد أكثر ما حرص عليه أحمد في صياغة اتفاق الطلاق. ورغم أنه وهبها ثروة معتبرة، إلا أنه سدّ كل أبواب المستقبل في وجهها، حين ضمّن شرطًا يمنعها من الزواج مرة أخرى.
وإن خالفت هذا الشرط، فعليها أن تعيد له عشرة أضعاف التسوية المالية التي منحها إياها… عشرة مليارات.
لكن نوران لم تتردّد. وقّعت على الاتفاقية دون جدال، إذ كانت تعلم أن أيامها في هذا العالم معدودة، والزواج آخر ما يشغل بالها.
في تلك اللحظة، بدأت تشعر بالغثيان. ما شربته من كحول بدأ ينهش أحشاءها. اجتاحت جسدها نوبات ألمٍ حادة، فتمسّكت بالكاد بتماسكها، وهمّت بالانسحاب.
لكنه أمسك بمعصمها فجأة… من ذات الموضع الذي أمسكه فيه كريم قبل أيام. شدّت جبينها بامتعاض وقالت ببرود:
“سيد القيسي، خطيبتك ما زالت تنتظرك في القاعة. هل تود حقًا أن يعلم ضيوفك أنني زوجتك السابقة؟”
تجاهل ملاحظتها تمامًا، وصوته يخرج كزمجرة خافتة:
“هذا المكان قذر. عليكِ تنظيفه.”
كانت كلماته لاذعة. لا تشبه طلبًا بقدر ما هي إهانة مقصودة. فجأة، شعرت بأن المرض ليس في معدتها وحدها… بل في قلب الرجل الذي كان يومًا زوجها.
لماذا ازداد تعلّقه بها بعد الطلاق؟ لمَ تحوّل امتلاكه لها إلى جنونٍ مسعور؟ وكأنّه لا يحتمل فكرة أن تخرج من دائرته، حتى لو انتهت علاقتهما.
سحبها نحو المصعد دون إذن، بينما كانت تحاول مجادلته. وما إن وصل إلى الطابق الخامس، حتى توقف المصعد، ودخلت مجموعة من السكارى، يترنحون ويتضاحكون.
تأفف أحمد، ثم تراجع خطوة إلى الوراء، ودفعها بلطف إلى الزاوية خلفه، ليحجبها عنهم بجسده. كان جدارًا من الأمان، رغم كل شيء.
حدّقت في ظهره، ببدلته المكوية بدقة، وشعره المرتب بعناية مفرطة. ذلك الانضباط الخارجي لم يكن سوى قناعٍ هشّ يُخفي اضطرابًا عميقًا. هذا الرجل منضبط… لكنه في داخله متطرّف. مخيف بتناقضاته.
ألمُ معدتها ازداد. جسدها بدأ يصرخ، يطالبها بالهرب، بالاستلقاء، بالنجاة.
لكنها كانت محاصرة… في مصعدٍ بأربعة جدران عاكسة، بكعبٍ عالٍ، خلف زوجها السابق الذي لم يعد لها، ولم يعد لها فيه حق.
حاولت أن تُبقي رأسها مرفوعًا. حتى الانحناءة في لحظة ضعف قد تُحسب عليها. كانت تستند إليه ذات يوم… والآن لم يعد مسموحًا لها أن تلمس حتى ظلّه.
ركّزت على العد التنازلي للطوابق.
وأخيرًا، وصلت إلى وجهتها. كان الفندق واحدًا من سلسلة فنادق تابعة لمجموعة القيسي… إمبراطورية من أعمال وأسماء.
فتح باب الجناح بإدخال رمز المرور. لمحته وهي تلاحظ الأرقام. نفس الأرقام التي استخدمها لخزنته القديمة… أرقام مرتبطة بها.
قبل أن تستوعب، جذبها بقوة إلى الداخل.
ألقى سترته جانبًا، وسحبها إلى الحمام. كانت قد استجمعت كل ما تملك من قوة، لكنها كانت بالكاد واقفة.
قالت بصوتٍ متماسك ظاهريًا، مكسور داخليًا:
“سيد القيسي، نحن مطلقان. لم أعد زوجتك، ولا يحق لك أن تفرض عليّ دور الزوجة المثالية. سأرحل.”
لكنّه تجاهلها كأنها لم تنطق، وضغط على مقبض الدش.
فجأة، انهمر ماء بارد كالجليد على جسدها المرتجف. شهقت، ثم صرخت:
“أحمد القيسي!”
أمسك بوجهها ووضعه تحت تيار الماء. نظراته كانت ثابتة كأنها صخرة لا تعرف الرحمة.
قال بنبرة غاضبة باردة:
“ألم أخبركِ من قبل ألا تسمحي لأي رجل أن بالاقتراب منك؟”