الفصل 65
كان أوّل ما فعلته ليان عند رؤيتها لأحمد هو الارتجاف. وبرغم جرأتها المعتادة وحدّتها في مثل هذه المناسبات، إلا أنّ تأثير الشراب ووجود نوران القوي في المكان ساهما في تضخيم توترها. حاولت أن تبدو واثقة، متماسكة، ولكنها كانت تعلم يقينًا أن أحمد القيسي ليس بالرجل الذي يُستهان به، لا سيما حين يتعلّق الأمر بنوران.
لقد رأت بعينيها، منذ زمن ليس بالبعيد، الوجه الآخر لهذا الرجل.
قبل عامين، حين خرجت برفقة نوران إلى إحدى الحانات، كانتا تحاولان التخفيف من توترٍ مرّ بهما. وبينما كانت نوران تتكئ عليها شبه غائبة عن الوعي، ظهر أحمد فجأة، كأنّه خرج من عتمةٍ كثيفة، ورفع نوران عن الأرض دون أن ينبس بكلمة. لكن قبل أن يبتعد، ألقى نظرة باردة حادة إلى ليان، لم تكن بحاجة إلى شرح. قال بصوت خفيض، لا يخلو من التهديد:
– “هذه هي المرة الأخيرة.”
تلك العبارة، مع تلك النظرة، ظلت تطاردها لأسابيع. كانت تستيقظ أحيانًا من نومها مفزوعة، تتصبّب عرقًا، وهي تراه يحدّق فيها بذات العينين القاسيتين.
وعادت الآن إلى اللحظة الراهنة، حيث يقف أحمد أمامها من جديد، بنفس الهالة الثقيلة، ونفس البرود الذي يشي بالكثير دون أن يقول شيئًا.
أغلق ولاعته بعد أن أشعل سيجارته، ثم رمقها بنظرة عابرة لم تدم سوى ثوانٍ، لكنها كانت كافية لتجعل قلبها يخفق بعنف.
بلعت ريقها محاولة استعادة صوتها، وقالت متلعثمة:
– “ممم… سيّد القيسي… كنت أبحث عن نوران… سأعتذر الآن وأرحل.”
نفض رماد سيجارته بنفَسٍ هادئ، ثم نظر إليها بطرف عينه، وقال:
– “لا… سنتحدث.”
تجمّدت في مكانها. كانت تدرك تمامًا أنّه لا يقصد محادثة عابرة، بل مواجهة.
ارتبكت، وتلعثمت من جديد:
– “في الحقيقة… الوقت متأخّر جدًا، وربما… ربما نتحدث لاحقًا؟ أعدك أنني سأكون متفرغة.”
وبينما كانت تهمّ بالانسحاب، استدارت فجأة واصطدمت بجسدٍ يقف خلفها كالصخرة. رفعت عينيها فوجدت هشام، ذلك الحارس الصامت الذي لطالما وصفته سرًّا في ذهنها بـ”قاتل أحمد المحترف”.
قال بصوته الهادئ الحازم:
– “من فضلك، آنسة ليان… من هذا الاتجاه.”
لم تكن بحاجة إلى مزيد من الإقناع. شعرت بالدموع تحاصر عينيها، لكنها قاومتها، وتبعت الرجلين بخطوات مترددة إلى مقهى قريب.
جلست على مضض، وقدماها تهتزان بلا انقطاع، حتى أخذت الطاولة تهتز معها، وتصدر خشخشة خفيفة لا تخطئها الأذن.
حين مدّ أحمد يده ليمسك بكوب اللاتيه أمامه، توقّف للحظة، إذ بدا فنّ القهوة فوق السطح مشوّهًا، فوضويًّا… نتيجة ارتعاش ساقيها المستمر.
لم يقل شيئًا. فقط نظر إلى الكوب، ثم إليها، بصمتٍ أثقل من الكلام.
ابتسمت ابتسامة مصطنعة وقدّمت له الكوب:
– “تفضّل، سيد القيسي… اللاتيه.”
ثم لامت نفسها سرًا، وتساءلت:
لمَ أنا هنا؟ لمَ لم أُغلق فمي في الحفل وانسحبت بهدوء؟ العمل؟ التطفل؟ أم مجرد غرور؟
أزاح الكوب جانبًا وقال بنبرة لا تخلو من الصرامة:
– “أريد أن أعرف كل ما تعرفينه عن نوران… وكريم.”
ارتجفت أنفاسها. لم تكن تفهم تمامًا أيّ نوع من الاضطرابات يسكن هذا الرجل، لكنها كانت تدرك أنّه يملك جانبًا مظلمًا… جانبًا مهووسًا بالتملّك.
لقد كانت شاهدة، بأمّ عينها، على زواجهما الذي بدا من الخارج هشًا، لكنه كان في حقيقته سجنًا مطليًا بالسكوت.
– “حسنًا…” قالت، تحاول كبح خوفها، “كريم ربما يُكنّ بعض المشاعر لنوران، لا أنكر ذلك. لكن نوران… نوران ليست مهتمة به إطلاقًا.
لو كانت كذلك، لما حاولت أنا شخصيًا التوفيق بينهما، ولا دفعتها للحضور اليوم.”
شعرت بتوتره يتصاعد، فتابعت بسرعة:
– “أقسم أنّها لم تغادر منزلها منذ أسابيع بعد الطلاق. كنت أنا من أصرّ على حضورها الليلة. لا أعلم حقًا ما الذي أتى بكريم… ربما دعاه كامل، وليس لليف علاقة بالموضوع إطلاقًا.”
ظلّ أحمد صامتًا. نظراته تلك… كانت كافية لخلخلة ثقتها بنفسها.
بدأت تشكّ في كل كلمة قالتها، وتساءلت في سرّها:
كيف استطاعت نوران أن تعيش مع رجل لا يمنحك أي ملامح، لا غضب، لا رضا، لا شيء؟
ثم نطقت بعفوية، محاولة تلطيف الجو:
– “أقسم بحياتي… إن كان بين نوران وكريم ما يُريب، فلتدهسني سيارة!”
نظر إليها أخيرًا، دون أن يبتسم أو يعلّق، ما جعلها تضغط على أسنانها، وتكاد تصرخ.
– “سأبقى وحيدة إلى الأبد إن ثبت عكس كلامي!”
وكأنه لا يراها كفاية، أضاف بلا رحمة:
– “وستفلسين مدى الحياة.”
ضربها في أكثر مواضعها هشاشة. نظرت إليه بشراسة وقالت:
– “حسنًا! سأكون مفلسة… مدى الحياة… فقط أخرِجني من هذا الكابوس.”