رواية حتى بعد الموت الفصل 67

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 67

لم يبقَ في المكان سوى صوت الماء…
يتساقط قطرةً بعد قطرة، كأنه يعدّ أنفاسها الأخيرة. كان الصوت أشبه بعدّاد بارد، يُحصي الدقائق الميتة، لا ليُنقذها، بل ليؤكّد لها أن النهاية وشيكة.

كانت تتكوّر على الأرض، ترتجف، تُحدّق في الباب المغلق أمامها وكأنه بوابة العدم. لم يكن مجرد باب… بل كان فاصلاً بين الحياة والموت، بين الأمل والخذلان.

طالما وجدت نفسها في النهاية ذاتها. تسقط، تنهار، ثم تُترك وحدها.

لكن في المرة الأخيرة، لم تكن هي من سقط… كان طفلها.
طفلها الذي لم تره. لم تحمله بين ذراعيها. لم تُنشد له أغنية النوم.
ذهب قبل أن يُولد.

تساءلت، وهي تراقب أنفاسها تتناقص، هل حان دورها أخيرًا؟

هل سيكون جسدها هذه المرة هو من يُنتشل من الماء، بارداً، متيبسًا، بلا روح؟

تسللت إلى ذاكرتها لحظة لم تندمل، عالقة كشوكة في القلب…

كان ذلك اليوم قاتمًا في ذاكرتها كما لو كان البارحة.

تأخّر أحمد نصف ساعة قبل أن يدخل إليها…

كان قد خرج لتوّه من غرفة مرام.

فضّل أن يطمئن عليها، أن يواسيها، قبل أن يفكر بها.

سألته آنذاك، بصوت متهدّج، صوت امرأة لم تعد تملك حتى حقّ الغضب:

“لماذا أنقذتها؟ لماذا لم تُنقذني أنا؟”

أجاب ببرود قاتل، دون أن يطرف له جفن:

“لأنك تعرفين السباحة.”

أيُعقل أن تكون السباحة حصانة من الموت؟

وكأن المعرفة تُلغي الحاجة إلى النجدة، وكأن من يجيد السباحة لا يغرق، ومن يتألّم لا يُؤذى…

 نسي أنها كانت حاملاً. أن جسدها منهك، وروحها مُستنزفة.
نسي أن الشباك التي أمسكت بساقيها تحت الماء لم تكن فقط شباك صياد… بل كانت شباك خذلان، لفّت روحها قبل أن تلفّ جسدها.

لطالما ظنّها قوية، لا تُقهر.
ظنّ أن الدقائق الثلاثين تحت الدش البارد لن تقتلها، بل ستُعلّمها درسًا.
نسي أنها خرجت من معركة مع السرطان، وأن أقل بردٍ قد يُرديها.

ظنّ نفسه مسيطراً، مُتحكّماً، قادراً على كل شيء…
لكن الغطرسة دائمًا تُكلف أصحابها أثمانًا باهظة.

أما هي، فقد سئمت من الحياة، سئمت من كل شيء…
لم يبقَ في قلبها سوى اسم واحد: جاد.
كانت تتمسّك بذكراه كما يتمسّك الغريق بخشبة مكسورة.

بدا جسدها كجثة معلّقة، مُقيّدة، لا تنتظر سوى أن يُفتح الباب، ليطلّ منها الموت نفسه.

وأخيرًا، انفتح الباب بصريرٍ ثقيل.
رفعت رأسها، بالكاد. رأته يقف هناك، أحمد.
طويل، جامد، كأنه لا يرى أمامه ما يستدعي القلق.

قال بصوتٍ هادئ، لكنه حادّ كالسيف:
“نوران… هل أدركتِ خطأكِ الآن؟”

نظرت إليه… لم تفهم. أي خطأ؟
أنها أحبّته؟ أنها صدّقته؟ أنها سامحته مراتٍ لا تُعدّ؟

أرادت أن تضحك، لكن الضحك خانها. لم تعد تملك القدرة على حتى أن تتنفّس بحرية.
تحرّكت شفتيها، بالكاد، وقالت بصوت أشبه بالأنين:
“كنتُ مخطئة… فقط لأنني صدّقت أنك مختلف.”

ابتسم. تلك الابتسامة التي عرفتها جيدًا، التي لطالما سبقت الخذلان.

ثم اقترب وفكّ قيدها، وكأنما يُنهي عرضًا لا يهمّه نتائجه.
وما إن تحرّرت، حتى سقط جسدها دفعةً واحدة… كأن شيئًا فيها قد انكسر إلى الأبد.

تمتمت بكلماتها الأخيرة، كأنها ختمت بها كل ما بينهما:
“كان لقائي بك… في هذه الحياة… خطأ.”

في اللحظة التي شغّل فيها هشام الإضاءة، تحوّل كل شيء إلى مشهد صامت من فيلمٍ مأساوي.
الفوضى كانت على معصميها. دمٌ كثير، كأنها حسمت أمرها أخيرًا.
امرأة كانت تخشى وخزة الإبرة، اختارت أن تجرح نفسها لتتحرر.

أحمد اقترب، ارتبك. رفعها بين ذراعيه. كانت خفيفة كأنها لم تعد تنتمي إلى الجاذبية.
شعرها الأسود المبلل التصق بوجهها، وملامحها خالية من أي تعبير.

شعر بشيء يُكسر بداخله…
هذه ليست نوران. ليست التي يعرفها. ليست تلك التي كانت تسبح في الشتاء بلا خوف.
قال، يحاول أن يقنع نفسه:
“نوران… كُفّي عن هذا التمثيل، أرجوك.”

لكنّ جسدها لم يتحرّك. لم ينبس.
وحده خدّها البارد ردّ عليه.

صرخ مرتجفًا:
“استدعِ الطبيب فورًا!”

ركض هشام إلى الهاتف، يتلعثم، يصيح في الطبيب العائلي.

أما أحمد، فبدأ يخلع عنها الملابس المبللة، يحاول تدفئتها، يحاول إسعافها.

يداه كانت ترتجفان.

كل ما في جسدها كان ساكنًا… ما عدا صدرها، الذي يرتفع بهدوء… أنفاسها كانت خفيفة، بالكاد تُذكر.

حمد الله في سرّه أنها ما زالت تتنفس.

لكن داخله… كان يعلم.

هذه ليست نوران. نوران التي يعرفه

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 68

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top