رواية حتى بعد الموت الفصل 70

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 70

أفلت أحمد ياقة زياد، وتراجع خطوة إلى الخلف، وقد خذلته ركبتاه للحظة. كانت كلمات نوران تتردد في ذهنه كصدى ثقيل لا يفارقه:

“أحمد… كنتُ مخطئة… لقاؤنا في هذه الحياة كان خطأً.”

انكمش قلبه، وكأنها نزعت آخر خيوط الرحمة من روحه. هل كرهت نفسها إلى هذا الحد؟ هل فقدت الإيمان حتى بجدوى وجودها؟
أتراها أحبّته يومًا فقط لتعاقب نفسها لاحقًا على هذا الحب؟

لأول مرة، لمح زياد شيئًا غريبًا على وجه أحمد… ليس الغضب، ولا السيطرة، بل الخوف. خوفٌ خام، حقيقي، لم يُجملّه بالكبرياء هذه المرة.

بعد صمت ثقيل، تساءل أحمد أخيرًا بصوت خافت:
“اطلعتُ على نتائج التحاليل… لماذا مؤشرات الدم كلها أقل من المتوسط؟”

زياد عقد حاجبيه، بدا وكأنه على وشك النطق بشيء ثم تراجع في اللحظة الأخيرة.
قال بتردد حذر:
“في مثل هذه الحالات… من المرجّح أنها تعاني من…”

لكنّه لم يُكمل.
الحقيقة كانت تقف على حافة لسانه، لكنه خشِي أن يُفجّر القنبلة في وجه رجل على وشك الانهيار.

فقد كانت المؤشرات، بعد جولة من العلاج الكيميائي المكثف، تشير بوضوح إلى خلل كبير في جهاز المناعة. انخفاض حاد في خلايا الدم البيضاء والليمفاوية.
لكن… نوران؟ شابة، قوية، كانت تُقاوم كل شيء بصمت.
هو نفسه لم يُجرِ لها فحصًا شاملًا منذ عامين، وحتّى وقت قريب، بدت بكامل عافيتها.
الإحصاءات لم تكن إلى جانب هذا التشخيص — السرطان نادر في عمرها، نادر… لكنه ليس مستحيلًا.

ألحّ أحمد، صوته بدأ يعلو:
“من المرجّح أن يكون لديها ماذا؟”

تجنّب زياد عينيه، وأجاب بمحاولة لصرف الشكوك:
“لا شيء مؤكد. هل لاحظتَ أي أعراض غير اعتيادية مؤخرًا؟”

أحمد هزّ رأسه ببطء، يسترجع المواقف الصغيرة التي مرّت بلا اهتمام.
“نعم… مرضت مؤخرًا. وأُصيبت بجرح صغير في ذراعها.”

أومأ زياد كمن وجد مخرجًا من المأزق:
“ربما العدوى هي السبب. بعض الفيروسات تُضعف مؤشرات الدم. وربما لم تكن قد تعافت تمامًا حين تعرّضت للبرد. هذا قد يفسّر الانتكاسة.”

لكن كلمات زياد لم تُقنعه. بل أثارت في صدره ألمًا أعمق.
هل كان كل هذا الألم نتيجة عدوى بسيطة؟ أم أنه كان يتعامى عن الحقيقة كما تعامى عن نوران من قبل؟

تابع زياد حديثه بنبرة أكثر جدية:
“مهما يكن السبب، السيدة نوران تعاني حاليًا من نقص شديد في المناعة. يجب أن تُعامل بمنتهى الحذر. حتى نزلة برد قد تكون قاتلة.”

هزّ أحمد رأسه دون أن ينبس بكلمة. يداه تدلّتَا إلى جانبيه، وكأن جسده كله استسلم لثقل المشاعر المتراكمة.

قال أخيرًا، كمن يتحدث إلى نفسه:
“سأرفع جرعة أدوية المناعة. يجب أن نسيطر على الحرارة… هذا أولويتنا الآن.”

في تلك الأثناء، في خليج النوارس، كانت مرام تبتسم برضا خفيّ.
فرحَت حين طلب أحمد رؤية رُكان. لم تكن على علمٍ بالكارثة التي تهبط على رأسه، وافترضت أنّ اشتياقه للطفل يعني عودة الأمور إلى نصابها الطبيعي.

رُكان كان يشبه أحمد بشكل لافت. قسمات وجهه، تقطيبة حاجبيه حين يغضب، وحتى الطريقة التي يرفع بها ذقنه عند العناد.

مرام كانت تراهن على هذا الشبه.
كلّما زاد تعلّق أحمد بالطفل، ازداد حضورها في حياته، وكأن الأمومة كانت طريقتها الذكية للتمركز في قلبه.

دخل هشام غرفة المريضة حاملاً رُكان بين ذراعيه. كان الطفل يمسك بطرف قميصه ويتمسّك به كفرسٍ صغير.
أما نوران، فكانت لا تزال غارقة في الحمى، عيناها نصف مغمضتين، وجسدها ساكن إلا من أنين خافت.

ركض رُكان فورًا نحو أحمد، مدّ ذراعيه الصغيرتين، الذي راح يركض ببراءة وهو يهتف:
“بابا، أريد عناقًا!”

حمله أحمد بين ذراعيه بقوة، كما لو كان يتمسّك بشريان حياة. ثم أشار نحو السرير حيث كانت نوران ترقد، مبلّلة بالعرق، هامدة كأن الحياة تفرّ منها قطرة فقطرة.

“انظر إليها، من هذه؟”

أشرق وجه الطفل وقال دون تردد:
“ماما!”

وضعه أحمد برفق بجانبها لم يحتج الطفل إلى شرح أو إقناع. زحف بخفة حتى صار عند صدرها، وراح يُلقي بجسده الصغير فوقها، يحتضنها، كأنّه يوقظ روحها من سباتها.

ثم دسّ وجهه في مرفقها الداخلي، حيث ينبض الدم… حيث لا يكذب الجسد.

مسح أحمد دموع نوران التي انزلقت بصمت من عينيها المغلقتين، وهمس في أذنها:
“كفى بكاءً… عاد إليكِ ابنكِ يا نوران.”

كان يعلم أن الحلم الذي طاردها عامًا كاملًا لم يكن مجرد هذيان.
كانت ترى طفلًا يبكي، يُناديها: “ماما… ليه سيبتيني؟”

لكنها لم ترَ ملامحه أبدًا.

حتى هذه اللحظة… لم يكن حلُمًا، بل نبوءة قلبها الموجوع.

في حلمها هذه المرة، لم يكن هناك بكاء، ولا ظلال لطفل.
كانت تطفو وسط محيط بلا شاطئ. مياهٌ ممتدة بلا نهاية.
شعرت أخيرًا بالسكينة، كأن جسدها غدا خفيفًا، بلا ألم، بلا صوت.

ثم همس لها صوت دافئ مألوف:
“حبيبتي… انتظرتِ طويلًا. أمكِ ستكون معكِ قريبًا.”

قبل أن تُجيب، سمعت صوتًا من الخلف، طريًا، حنونًا، يخرق السكون:

“ماما!”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 71

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top