رواية حتى بعد الموت الفصل 86

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 86

ألقى أحمد نظرة خاطفة حول الشقة. لم تكن واسعة، بل صغيرة ومتواضعة، لكنّها كانت مشبعة بروح نوران. وجودها كان يلوح في كل زاوية: في الوسادة التي ما تزال تحمل شكل رأسها، في البطانية المطوية بعناية على الأريكة، في رائحة خفيفة من عطرها لا تزال عالقة في الهواء.

وحين فتح باب غرفتها، توقف بضع ثوانٍ عند مشهدٍ مألوف… سرير طفل صغير، نُصِب بجوار سريرها.

تجمّد في مكانه.

كان هذا السرير، تحديدًا، الشيء الوحيد الذي أخذته معها عندما تركت منزلهما القديم. لم تحمل معها ملابس كثيرة، ولا صورًا، ولا مجوهرات… فقط ذلك السرير.

شعر بوخز في صدره، ذكره بخسارات كثيرة لم يُفصح عنها.

تذكر يوم قفزت من المبنى.

ذلك المشهد لن يُمحى من ذاكرته. ومع ذلك، تبِعها. بلا تفكير. بلا تردّد. في تلك اللحظة، عرف الحقيقة التي كان يهرب منها طويلًا:
هو لا يستطيع التوقف عن حبها، مهما تظاهر بالكراهية. ومهما أخبر نفسه أنها دمرته.

كان الحب والكره متشابكين بداخله مثل شجيرة شوكٍ كثيفة، تلتف على قلبه وتحاصره. كلما حاول دفعها بعيدًا، كلما انجذب هو نفسه أكثر نحو الحافة.

مدّ يده والتقط لعبةً ناعمة على سرير الطفل. دب صغير بلون وردي باهت، يعلوه الغبار، لكنّه ما زال محتفظًا بتلك الابتسامة البريئة التي تهدّئ قلبًا موجوعًا.

كان يعلم أن نوران احتضنت هذه اللعبة كثيرًا، ربما في ليالٍ كانت تبكي فيها بصمت، بينما العالم كله يظن أنها بخير.

لو لم تقع تلك الحاډثة… لو لم تخسر الجنين… لكانا الآن أسرة.

كان من الممكن أن يكون زوجًا صالحًا، وأبًا محبًا. وما زال، كلما نطق اسمها، يشعر بتلك الشرارة الغريبة في صدره. تلك التي لا ټموت.

لم يستطع، ولن يستطيع، التخلي عنها تمامًا.

في تلك الأثناء، استطاعت نوران أن تدفع نفسها أخيرًا عن الأرض. الألم لا يزال يعصف بجسدها، لكنه أصبح أكثر احتمالًا. مشت بخطى بطيئة نحو غرفة المعيشة، تتوقع أن أحمد غادر كما يفعل دائمًا.

لكنها رأت ظلًا يتحرك على الشرفة.

اقتربت بحذر، فرأته واقفًا هناك، ظهره للباب، والسېجارة تتوهج بين إصبعيه. تناثرت الشرارات في الهواء، وكان وجهه غارقًا في الظلال.

رؤيته هناك أربكها. لم يكن هذا من عادته.

هل ينتظرها ليكمل ما بدأه؟ تسارعت نبضاتها، وانكمش صدرها.

بدا لها كأنّه ظلّ يراقب المدينة بصمت، لكن عقله كان في مكانٍ آخر تمامًا.

لم ترغب في المواجهة، فذهبت إلى المطبخ وسكبت لنفسها كوبًا من الماء. حلقها كان جافًا، وروحها متعبة.

عادت إليه وسألته ببرودٍ محايد:
“هل نفعل ذلك هنا، أم على السرير؟”

نظرت إليه نظرة خاوية، كما لو كانت تتحدث عن مهمة روتينية. لم يكن في صوتها أي رغبة، بل كان استسلامًا باردًا.

رفع أحمد رأسه عنها، وزفر ببطء، تاركًا سحابة دخان تتلاشى في الهواء.
قال بصوت منخفض:
“هل أبدو لكِ بهذا الانحراف؟”

أجابت وهي تلتفت بعيدًا:
“سأذهب للنوم إذا لم تكن تنوي شيئًا.”

ثم غادرت دون أن تنتظر ردّه، شاكرةً في داخلها أنه لم يلمسها. كل ما أرادته الآن هو أن تُغمض عينيها وتنعم ببعض الراحة.

دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها.

في الخارج، بقي أحمد واقفًا على الشرفة، ينقر على طرف السېجارة، يراقب الرماد يسقط. كان بوسعه أن يلحق بها. كان بإمكانه أن يطلب منها البقاء… أو أن يصيح باسمها.

لكنه لم يفعل.

لماذا؟

لأنه حين نظر إلى عينيها منذ قليل، رأى شيئًا قد انطفأ. كأن جزءًا منها قد ماټ.

بعد دقائق، لم يقاوم فضوله. فتح باب غرفتها ببطء، فرآها ملتفة على سريرها، وسط دمى محشوة تحيط بها من كل جانب. بالكاد كانت تجد لنفسها مساحة. كانت هذه طريقتها الوحيدة للشعور بالأمان.

اقترب منها ووقف صامتًا، يحدق في ملامحها التي غفت أخيرًا. الشراب أنهكها، والدموع التي جفّت على خديها كانت أوضح من أي صړاخ.

لم يقل شيئًا. فقط جلس بجوارها، وظلّ هناك.

في صباح اليوم التالي، استيقظت نوران على ضوءٍ خاڤت يتسلل من النافذة. شعرت بثقل في رأسها، لكن الألم تراجع.

نهضت ببطء، ودُهشت لرؤية أحمد نائمًا على سرير غرفة النوم الرئيسية، كما لو كان جزءًا طبيعيًا من المكان.

لكن ما فاجأها أكثر هو أنه، ولأول مرة، لم يسخر منها. لم يرمقها بنظرةٍ ازدرائية. بل نهض وتوجه مباشرة إلى الحمام، وكأنه لا يريد أي مواجهات.

رنّ جرس الباب فجأة.

فتحت الباب ببيجامتها البسيطة، والشعر المتشابك يعلو رأسها، فوجدت كريم واقفًا يحمل أكياسًا ملونة.

ابتسم لها وقال:
“اقتربت السنة الجديدة… وأحضرت لكِ بعض الهدايا الصغيرة.”

“لا داعي لـ…” همست نوران، لكنها لم تكمل جملتها.

فُتح باب الحمام.

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 87

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top